الدين وسائر العلوم
(١) مراتب العلوم من حيث غاياتها المباشرة
عرفنا الآن درجة النسب بين الدين والفلسفة والأخلاق، وأنها أُسرةٌ واحدة ترتبط أعضاؤها بلُحمة الأُخوَّة، أو لُحمة الأبوة والبنوة، وإِذا كان المجهود الإِنساني يَشْرُفُ بشرف موضوعه وغايته، فأي هدف يمكن أن يتعلق به مطمح الباحث، فوق «الحق» الأبدي الذي تزول الدنيا ولا يزول، و«الخير» المطلق الذي تُوزن به الأشياء ولا يُوزن هو بشيء؟
تلك هي القيم الكبرى، والمُثل العليا، التي لا يُتصور في العقل شيء يعلوها أو يدانيها، لذلك كان البحث عنها أشرف المطالب وأعلاها، وكان سائر وجوه النشاط العقلي والروحي والبدني سعيًا وراء قيم نسبية، تتفاوت مراتبها تبعًا لقربها أو بعدها من ذلك الهدف الأسمى. فكما أن الذي يفني عمره في فحص علف الدواب وانتخاب أجود أنواعه، يؤدي خدمة لها قيمتها في كيان المجتمع الإِنساني ورفاهيته، من طريق غير مباشر؛ إِذ يحفظ بذلك قوام الحيوان، الذي به قوام بدن الإِنسان، الذي به قوام روحه، الذي به قوام دينه، الذي به كمال سعادته؛ كذلك تتفاضل موضوعات العلوم فيما بينها على نمط هذه النسبة، فأدناها ما يكون خادمًا غير مخدوم، ويليها ما يكون خادمًا مخدومًا معًا على مراتب … حتى تنتهي إِلى موضوع العلم الأعلى، الذي يكون مخدومًا غير خادم.
(٢) مراتبُ العلوم من حيث مقومات موضوعاتها
ولو أننا أخذنا في تصنيف موضوعات العلوم، لا باعتبار شرف غايتها المباشرة، بل بحسب مقوماتها النوعية، وتكامُل عناصرها بالازدياد التدريجي، لَحصلنا منها على هذا الترتيب التصاعدي نفسه؛ إِذ نرى كل واحد منها يحتوي ما قبله ويزيد عليه عُنصرًا جديدًا. فالحياة النباتية تستلزم وجود الجسم بأجزائه، وجزئياته، وعناصره، وذراته، وطاقاته، وتزيد عليه وظائف أخرى. والحياة الحيوانية تحتوي الحياة النباتية بجميع وظائفها وتزيد عليها. والحياة الإِنسانية فيها كل الحياة الحيوانية وتزيد وظائف أعلى، وهذه الوظائف نفسها طبقاتٌ بعضها فوق بعض، وأعلاها الوظيفة الروحية التي تتطلع إِلى الحقيقة الكبرى.
(٣) لا اشتراك بين الدين والعلوم في موضوع ما
هذا البيان يُرينا على وجه يمكن أن نفهم الصلة بين العلم الإِلهي وسائر العلوم: «طبيعية، أو رياضية، أو فلكية، أو نفسية، أو اقتصادية، أو منطقية، أو اجتماعية، أو تاريخية، أو لغوية، أو غيرها»، وأنها ليست صلة وحدة في الموضوع، ولا اشتراك في الأهداف؛ إِذ مهما تعالج هذه العلوم من مشاكل، فليس واحد منها يتصدى لعلاج المشكلة الكبرى التي انتهض الدين لحلها، إِنها كلها تبحث عن الكائنات، وليس شيء منها يبحث عن مبدئها الأول وغايتها القصوى، غير أنها كلها تستطيع أن تُزجي لهذا المطلب خدمة ما من قريبٍ أو بعيد، ولن يستغني الدين عن العلوم إِلا لو استغنت المقاصد عن وسائلها ومقدماتها، أو الدعاوى عن حججها وبَيِّنَاتِها، فكما أن المجهول لا يُتوصل إِليه إِلا عن طريق المعلوم، والغائب لا يُدرك إِلا على ضَربٍ من القياس على الشاهد؛ كذلك الحقائق العليا لا يَسهُل الصعود إِليها إِلا على سُلَّمٍ من حقائق الدنيا.
(٤) خدمة العلوم للأديان من وجهين
(٥) لا يمكن عقلًا أن يوجد تعارض بين الأديان والعلوم نفسها
ومهما يكن من أمر، فالمعقول أنه، إِن لم يكن بين العلم والدين تعاونٌ من قريبٍ ولا بعيد، كان بينهما — على الأقل — من التفاهم وحسن التجاوُز ما بين فروع الصناعات المختلفة؛ إِذ ليس يُعقل أن يكون هناك تعارض وتناقض بين أمرين لا اشتراك بينهما في موضوعٍ واحد.
(٦) تفسير المصادمات التي وقعت بين حَمَلة الأديان وحملة العلوم
وهنا يحق لنا السؤال عن تفسير تلك المصادمات العنيفة، التي ظهرت في التاريخ غير مرة، بين العلوم والأديان، لا نعني ذلك الصراع الصُّوري الذي يُستغل فيه اسم العلم أو الدين أحيانًا؛ ليكون ستارًا للمقاصد الخفية، والمطامح المختلفة، من الثروة، والنفوذ، والجاه، وسائر المصالح العاجلة، كما لا نعني: الصراع الحقيقي الدائم بين النزعات الروحية السامية التي تدفع إِلى التضحية وضبط النفس والاعتدال، وبين النزعات المادية المضادة التي تهدف إِلى الفوضى والإِباحة والاستئثار، وإِنما نطلب تفسير تلك المعارضة الفكرية التي تقع بحسن نية بين المعسكرين العلمي والديني، فتقف كل واحدة منهما موقف التكذيب والإِنكار لما عند الآخر.
- الصورة الأولى: أن يقف أحد الطرفين موقف المعارضة لما عند الآخر جملة، لا بناء
على حجة تدحضه، أو شبهة تُضعفه، بل عفوًا واعتباطًا، أو لمجرد جهله
به، ظنًّا منه أن كل ما لم يدخل في دائرة علمه في الحال فليست له
حقيقة، وهذا لعمري من قصر النظر، بل من الجهل والغرور؛ فإِن
التكذيب لما لم يُحِط الإِنسان بعلمه، ولم يأته تأويله خطأ لا
يرتكبه الراسخون في العلم والدين، وإِنما يقع فيه المغرورون من
العامة أو «أنصاف المتعلمين»، وهؤلاء أشد خطرًا من الجهلاء؛ لأن
علمهم في الحقيقة جهلٌ مركب، وإِنما الإِنصاف أن يكون كل امرئٍ
عارفًا بقدر نفسه، واقفًا عند حده، بنَّاءً غير هدام، والسبيل
القاصد في ذلك أن يثبت كل فريقٍ ما وصل إِليه، ولا ينكر ما لم يصل
إِليه.
وقد رأينا العلماء المتخصصين في فرع من العلوم الطبيعية أو العقلية يعتمدون النتائج التي وصل إِليها المتخصصون في فرع آخر منها: كل في نطاق تخصصه، ولا ينتظرون أن يُعيدوا كلهم ما جربه أو برهنه بعضهم، وهذا هو الوضع السليم الذي تتقدم به المعارف الإِنسانية؛ إِذ لو وجب أن يُعيد كل عالِم بحث كل مسألة بنفسه لَما تقدمت العلوم خطوة واحدة، فكذلك ينبغي أن يكون الشأن بين حملة العلوم وحملة الأديان.
ألم يُجْمِع العلماء الآن على إِمكان تحطيم النواة الذرية، واستخدام طاقتها الجبارة في صنع الأعاجيب، مع أنه لم يباشر هذه التجربة منهم إِلا نفرٌ قليل؟ فماذا يمنعنا أن نؤمن بالتجارب الروحية المتكررة التي شهدها الأنبياء وأرباب البصائر النيرة في مختلف العصور، وإِن لم يشهد النَّاس منها إِلا نتائجها الخارقة؟
إِنه إِذا كان من واجب الأديان أن تُهادن العلوم ولا تُنابذها، وكان من الخير لها أن تستثمر كافة المعارف البشرية وتتسلح بنتائجها؛ فإِن من الخير للعلوم كذلك أن تدع الأديان تكمل ما فيها من نقص، وتملأ ما تتركه في النفوس من فراغ، بما يملؤه من الحقائق الروحية، فإِن لم تفعل فلا أقل من أن تلتزم شُقة الحياد فلا تعادي الأديان ولا تنكرها جُملة، فإِن إِنكار الدين جملة إِنكار ضمني لأُمور واقعية تحتويها الأديان كلها ولا يحتويها علم من العلوم، ألا وهي عناصر الإِيمان بالحقيقة العليا وتقديسها وعبادتها «معان هي من مادة الحياة التي قد يفسرها العلم، ولكنه لا يخلقها، وقد يُنقب عن أطوارها ويَتَفَهَّم نشأتها، ولكنه لا يستطيع أن يتجاهل وجودها، أو يدعي لنفسه أنه يحل محلها.»٢ - الصورة الثانية: أن تكون هناك مسألة أو مسائل معينة تنطق فيها العلوم والأديان بحكمين متناقضين، وإِنما يحدث ذلك حينما تتناول الأديان إِلى جانب عنصرها الروحي شيئًا من موضوعات العلوم وحقائق المشاهدات، وتذهب في ذلك مذهبًا معينًا، تفرضه على المتدينين بها فرضًا. فهذا الجانب، وإِن كان عرضيًّا في الأديان، وكان سبيله في الغالب سبيل الوسائل لا المقاصد، إِلا أنه يُعد معيارًا لمقدار ما في كل دين من صحة أو فساد، على قدر اتفاقه مع مقررات العلم الصحيح وقضايا العقل السليم، أو اختلافه معها؛ فإِنه إِذا كان الدين حقًّا والعلم حقًّا وجب أن يتصادقا ويتناصرا، أما إِذا تكاذبا وتخاذلا فإِن أحدهما لا محالة يكون باطلًا وضلالًا.