(١) نظرية أدباء القرن الثامن عشر والسوفسطائية
إِلى أي حد تُعد ظاهرة التدين ظاهرة عريقة في القِدم؟ هل سبقت الحضارات المادية؟
أم تأخرت عنها في الوجود؟ أم اقترنت بها؟
ذهب بعض كُتَّاب القرن الثامن عشر، الذين مهدوا للثورة الفرنسية، إِلى أن
الديانات والقوانين ما هي إِلا منظماتٌ مستحدثة، وأعراضٌ طارئة على البشرية حتى قال
«فولتير»: «إِن الإِنسانية لا بد أن تكون قد عاشت قرونًا متطاولة في حياة مادية
خالصة، قوامها الحرث، والنحت، والبناء، والحدادة، والنجارة قبل أن تفكر في مسائل
الدينيات والروحانيات.»
١ بل قال: «إِن فكرة التأليه إِنما اخترعها دهاة ماكرون، من الكهنة
والقساوسة الذين لقوا من يصدقهم من الحُمقى والسخفاء.»
٢
وكذلك كان نظر «جان جاك روسو» إِلى فكرة القانون، حيث ظن أنها ليس لها إِلا قيمة
وضعية تحكُّمية، وفسر ذلك بقوله: «إِن الأفراد الذين سبقوا إِلى وضع أيديهم على بعض
مساحات من الأرض، حدا بهم جشعهم، وحرصهم على المحافظة على ملكيتهم، إِلى أن يأتمروا
فيما بينهم على وضع تلك النظم والقوانين، ليخدعوا بها الجمهور، ويضللوا بها الفقراء.»
٣
هذه النظرة الساخرة إِلى الأديان والقوانين ليست مبتكرة، وإِنما هي ترديدٌ لصدى
مُجون قديم، كان يتفكه به أهل السفسطة من اليونان، وكانوا يروجونه فيما روَّجوه من
المغالطات والتشكيكات، فقديمًا زعم هؤلاء السوفسطائية «أن الإِنسان كان في أول
نشأته يعيش بغير رادعٍ عن قانون ولا وازع من خُلق، وأنه كان لا يخضع إِلا إِلى
القوة الباطشة … ثم كان أن وُضِعَت القوانين، فاختفت المظاهر العلنية من هذه الفوضى
البدائية، ولكن الجرائم السرية ما برحت سائدة منتشرة، فهنالك فكر بعض العباقرة في
إِقناع الجماهير بأن في السماء قوة أزلية أبدية ترى كل شيء، وتسمع كل شيء، وتهيمن
بحكمتها على كل شيء …»
٤ وهكذا لم تكن القوانين والديانات في تصويرهم إِلا ضُروبًا من السياسة
الماهرة التي تهدف إِلى علاج أمراض المجتمع بكل حيلة ووسيلة.
ولقد أعان على بعث هذه الآراء وترويجها في أُوروبا الحديثة سببان: أحدهما
الانحلال الخُلقي عند نفر من رجال الكنيسة، والثاني ظلم القوانين الوضعية، وسوء
توزيع الثروة العامة، فكان من السهل أن يظن النَّاس أن الدين والقانون كانا كذلك في
كل زمان ومكان.
(١-١) انهيار هذه النظرية في العصر نفسه
على أنه لم يَنْقَضِ القرنُ الثامن عشر نفسه حتى ظهر خطأُ هذه المزاعم؛ حيث
كثرت الرحلات إِلى خارج أوروبا، واكتُشِفَت العوائد والعقائد والأساطير
المختلفة، وتبين من مقارنتها أن فكرة التدين فكرة مشاعة لم تخلُ عنها أُمة من
الأمم في القديم والحديث، رغم تفاوتهم في مدارج الرقي ودركات الهمجية، وهكذا
ظهر أنها أقدم في المجتمعات من كل حضارة مادية، وأنها لم تقم على خداع الرؤساء
وتضليل الدهاة، ولم ترتكز على أسبابٍ طارئة أو ظروفٍ خاصة، بل كانت تُعبر عن
نزعة أصيلة مشتركة بين النَّاس.
واعلم أن عموم الأديان لجميع الأمم لا يعني عمومها لكل أفرادها؛ فإِنه لا
تخلو أمة من وجود «ذاهلين» قد غمرتهم تكاليف الحياة وأعباؤها، إِلى حد أنهم لا
يجدون من هدوء البال وفراغ الوقت ما يمكنهم من رفع رءوسهم للنظر في تلك الحقائق
العليا؛ كما لا تخلو أمةٌ من «منكرين ساخرين» يحسبون الحياة لهوًا ولَعِبًا،
ويتخذون الدين وهمًا وخرافة، لكن هؤلاء دائمًا هم الأقلون في كل أمة، وهم — في
الغالب — من المُتْرَفين الذين لم يصادفهم من عِبَر الحياة وأزماتها ما يُشعر
نفوسهم معنى الخضوع والتواضع، وما ينبه عقولهم إِلى التفكير في بدايتهم
ونهايتهم، وهذا الاستثناء من القاعدة لا ينفي كُمون الغريزة الدينية بصفة عامة
في طبيعة النفس الإِنسانية، كما أن غريزة بقاء النوع لا يمنع من عمومها أن بعض
النَّاس لا يتزوجون ولا ينسلون.
(١-٢) لم توجد أمة بغير دين
ولسنا ننكر أن تكون هناك عقيدة معينة قد استُحدِثت في عصر ما، أو أن يكون ثمة
وضع خاص من أوضاع العبادات قد جاء مجاوبًا مصنوعًا، فذلك سائغٌ في العقل، بل
واقعٌ بالفعل، أما فكرة التدين في جوهرها فليس هناك دليلٌ واحد على أنها تأخرت
عن نشأة الإِنسان.
(١-٣) شهادة العلماء
يقول معجم «لاروس» للقرن العشرين: «إِن الغريزة الدينية: مشتركة بين كل
الأجناس البشرية، حتى أشدها همجية، وأقربها إِلى الحياة الحيوانية … وإِن
الاهتمام بالمعنى الإِلهي وبما فوق الطبيعة هو إِحدى النزعات العالمية الخالدة للإِنسانية.»
٥ ويقول: إِن هذه الغريزة الدينية «لا تختفي، بل لا تضعف ولا تذبل،
إِلا في فترات الإِسراف في الحضارة وعند عددٍ قليل جدًّا من الأفراد.»
٦
وكتب بارتيلمي سانت هيلير: «هذا اللغز العظيم الذي يستحث عقولنا: ما العالم؟
ما الإِنسان؟ من أين جاءا؟ مَنْ صنعهما؟ من يدبرهما؟ ما هدفهما؟ كيف بدآ؟ كيف
ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ ما القانون الذي يجب أن يقود عقولنا في أثناء
عبورنا في هذه الدنيا؟ أي مستقبل ينتظرنا بعد هذه الحياة؟ هل يوجد شيء بعد هذه
الحياة العابرة؟ وما علاقتنا بهذا الخلود؟ هذه الأسئلة، لا توجد أمة، ولا شعب،
ولا مجتمع، إِلا وضع لها حلولًا جيدة أو رديئة، مقبولة أو سخيفة، ثابتة أو
متحركة …»
٧
ويقول شاشاوان: «مهما يكن تقدمنا العجيب في العصر الحاضر … علميًّا،
وصناعيًّا، واقتصاديًّا، واجتماعيًّا، ومهما يكن اندفاعنا في هذه الحركة
العظيمة للحياة العملية، وللجهاد والتنافس في سبيل معيشتنا ومعيشة ذوينا، فإِن
عقلنا في أوقات السكون والهدوء — عظامًا كنا أو متواضعين، خيارًا كنا أو
أشرارًا — يعود إِلى التأمل في هذه المسائل الأزلية: لِمَ وكيف كان وجودنا
ووجود هذا العالم؟ وإِلى التفكير في العلل الأولى أو الثانية، وفي حقوقنا وواجباتنا.»
٨
ويقول هنري برجسون: «لقد وُجِدَتْ وتوجد جماعات إِنسانية من غير علوم وفنون
وفلسفات، ولكنه لم توجد قط جماعة بغير ديانة.»
٩