الوضع التاريخي للمسألة
(١) خطأ هذا الوضع في وسائله وفي غايته
ونحن نرى أن وضع المسألة على هذا الوجه، ومحاولة حلها من هذا الطريق، ينطوي على خطأ مزدوج: خطأ في الغاية، وخطأ في الوسيلة.
أما من حيث الغاية التي يهدف إِليها البحث، وهي تحديد الأصل الأصيل للعقيدة، والمظهر الذي ظهرت به في أول الأزمنة بإِطلاق، فلأن هذه المنطقة «البدائية المحضة» قد اعتبرها العلم شقةً حرامًا حظرها على نفسه، وأعلن — في صراحة كاملة — خروجها عن حدود عمله. فاقتحامها الآن باسم العلم تعامُلٌ بصَكٍّ مزيف، وتستُّر بثوب مُستعار، وكل حكم يصدر تحت هذا الاسم يكون صادرًا عن قاضٍ معزول، فاقدًا للركن الأول من سلطته الشرعية، ومؤرخو الديانات — على الخصوص — معترفون بأن الآثار الخاصة بديانة العصر الحجري وما قبله لا تزال مجهولة لنا جهلًا تامًّا، فلا سبيل للخوض فيها إِلا بضرب من التكهن والرجم بالغيب.
فقد بان لك مبلغ ثبات الفرض الذي بُنِيَتْ عليه البحوث الحديثة كلها، وأنها أُسست على جُرُفٍ هَارٍ لا تطمئن عليه الأقدام.
(٢) نقد المذهب التطوري بشكل خاص
ويمتاز المذهب التطوري بأنه مبنيٌّ على افتراضٍ آخَرَ لم يَقم عليه دليلٌ كذلك، وهو قياس المَلَكات والأحاسيس الروحية، على القوى البدنية والمكتسبات العقلية والتجريبية. فكما أن الإِنسان ينتقل في نموه البدني من الضعف إِلى القوة، وفي نموه العقلي من الجهالة إِلى المعرفة، قد يلوح أيضًا أنه بدأ حياته بالسخف والخرافة، ولم يصل إِلى العقيدة السليمة إِلا بعد جَهدٍ وعناء.
ونحن نسأل — قبل كل شيء — عن الأصل الذي بُنِيَ عليه هذا القياس.
هل صحيح أن قوى النفس المختلفة تسير في نموها على قدم المساواة، وأن حياة النَّاس الروحية تمشي في كل أدوارها جنبًا إِلى جنب مع حياتهم المادية؟ أَوَلَسْنَا نرى هاتين الظاهرتين تسيران أمامنا في طريقين متعارضين؟ فإِذا صح ما يقال من أن الإِنسان كان في بدايته قانعًا بكهف يُئويه، وجلد حيوان يستر به بشرته، وشيء من الأعشاب يدفع مخمصته، ألا تكون قلة مشاغله ومطامحه المادية قد تركت في نفسه فراغًا عميقًا للتأملات التي تُرهف حاسته الدينية، وتنمي مشاعره الروحية العليا؟ كما أن اشتغال النَّاس في عصور المدنيات بترف الحياة الجثمانية يؤدي إِلى عكس هذه النتيجة؛ ذلك أن الغرائز المتقابلة تضعف وتتقلص بقدر ما تنمو وتقوى أضدادُها، ككفتي الميزان، لا ترتفع إِحداهما إِلا انخفضت الأخرى.
ولقد كان مقتضى الوضع السليم، في تعرُّف ما كانت عليه بداية الأديان فيما قبل التاريخ، أن تسترشد في مقارنتها، لا بسير الفنون والمصنوعات، بل بسير الديانات المعروفة منذ طفولة التاريخ إِلى اليوم، ألا وإِننا نعرف بالاستقراء أن كل واحدة من هذه الديانات بدأتْ بعقيدة التوحيد النقية، ثم خالطتْها الشوائب والأباطيل على طول العهد، فالأشبهُ أنْ تكون هذه سُنة التطور في الديانات كلها: أن بدايتها دائمًا خير من نهايتها.
فإِذا أبينا إِلا أن نقيس تطور الدين على تطور الفن، كان من الحق علينا ألا نأخذ في هذه المقارنة بالمقاييس السطحية والتشابه اللفظي الأجوف، بل ننظر إِلى جوهر الأشياء وأعماقها، وحينئذ ينقلب هذا القياس نفسه حجة في يد أنصار «الفطرية»، ذلك أن معنى «التطور» في الفنون — كما في كل كائن حي — هو أنها تبدأ في صورة ساذجة، متحدة، متجانسة، ثم تنتقل تدريجيًّا إِلى نوع من التكثر والتركيب، تزداد به تعقيدًا كلما بعدت عن العقيدة الإِلهية يستوجب أنها سارت أيضًا من الوحدة إِلى الكثرة، ومن النقاوة والسهولة واليُسْر، إِلى التعقُّد بالإِضافة الأسطورية، والنزوات الخيالية، التي لا ضابط لها من العقل السليم.
(٣) التطور بين الأديان السماوية
هكذا نرى أن التحليل النفسي، وشواهد التاريخ، والتطور الصحيح؛ لا يقف شيءٌ منها في وصف الدفاع عن النظريات الموسومة بالتطورية، والتي تجعل الخرافة والأسطورة هي بداية الأديان؛ بل إِنها بالعكس تميل إِلى تأييد النظرية المقابلة، غير أن تأييدها لهذه النظرية الأخيرة لا يرفعها إِلى صَفِّ الحقائق التاريخية المفروغ منها؛ لأن هذه الدلائل كلها لا تُقدِّم لنا ضمانًا من المنطق ولا من الواقع تثبت به أن الحوادث كانت تسير بالفعل دائمًا على وفق ما ألفناه من الأوضاع، لا على الوجه الذي كان ينبغي أن يكون.
بل هي هنا نظرية ثالثة يمكن الأخذ بها في المسألة، وتقريرها أن الرشد والضلال في الفكرة الدينية ليستا ظاهرتين متعاقبتين فقط، صعودًا أو انحدارًا على مدى العصور، بل هما ظاهرتان متعاصرتان، موزعتان في كل أمة وجيل، تبعًا لاختلاف الأفراد في درجات استقامة الحدس العقلي، ونُبل الحس الباطني، فلا يخلو جيل ما من نفوس صافية تدرك الحقيقة نقيةً من شوائب الخرافة، وأخرى دون ذلك. ولعل هذا الوصف هو أقرب الأوصاف تصويرًا للواقع المعروف، فقد اتفق الموثوق بهم من مؤرخي الأديان — كما أسلفنا — على أن أشد الشُعوب همجية ووثنية لم تنفك عن الاعتقاد بإِله خالق هو رب الأرباب.
لكن بين القدر الذي عرفناه من تاريخ البشرية وبين عصر نشأتها، لا تزال الثغرة واسعة لم تُسد ولن تُسد؛ إِذ لم يقل أحدٌ إن الوقائع المفقودة الوثائق يمكن إِثباتها على وجه قاطع بمثل هذا الضرب من التخمين، اعتمادًا على مجرد حُسن المقابلة وجمال التناسق بينها وبين الوقائع المعروفة، دون تثبُّت من تشابه الظروف والملابسات في طرفي القياس.
لكن الالتجاء إِلى هذه النصوص اعترافٌ ضمنيٌّ بأن وسائل العلم البشري وحدها عاجزة عن أن تصل بنا من طريق يقيني إِلى نقطة البدء الحقيقي للدين، والواقع أن الحل النهائي لهذه المسألة إِنما يكون عن طريق الوحي؛ لأنها داخلة في منطقة الغيب التي هي موضوع الإِيمان، وليست من شأن العلوم الاستقرائية، ولا العلوم الاستنتاجية.
فإِذا نحن عرضنا الآن شيئًا من هذه النظريات، فليكن معلومًا أننا لن نتابعها في تلك الدعوى العريضة، وهي أنها ترسم الصورة الأولى المطلَقة للحياة الدينية، بل سَنَقنع منها بالجانب التحليلي، أو الجانب التاريخي النسبي، لا أكثر من ذلك.