نظرة جامعة
والآن — وقد طوفنا بك في مسالكَ متشعبةٍ من الرأي في أصل العقيدة ومنشئها — نريد أن نُلقي معك نظرة شاملة، نضم بها أطراف البحث، ونحاول فيها التوفيق بين مختلف مذاهبه.
والواقع الذي لا مرية فيه هو أن مطلب الألوهية مطلبٌ توافرتْ عليه الفلسفات والنبوات، وأن دلائله البرهانية ماثلةٌ في الأنفس وفي الآفاق، وأن بواعثه النفسية مركوزةٌ في العقول وفي الوجدانات. غير أن النَّاس ليسوا على درجة سواء في سرعة الاقتناع بكل هذه الدلائل، ولا في تيقُّظ انتباههم بكل هذه الوسائل، فرُبَّ امرئٍ يغلب عليه الانطواء على نفسه فيتأثر بالإِيحاء الذاتي أكثر مما يؤثر فيه الإِيحاءُ الخارجيُّ، وآخرُ على عكس ذلك. والمتأثرون بالأحداث الخارجية فيهم من يأسر لُبَّه جمالُ المشاهد وجلالها، ومن لا يهز قلبَه إِلا قوارعُها ومروعاتها، ورُبَّ امرئٍ يُعنَى من هذه الأحداث بجانبها النفسي الإِنساني، وآخر يهتم بجانبها المادي العالمي.
والمنطوون على أنفسهم منهم من يغلب تفكيرُه وجدانَه، ومنهم من تغلب عاطفته فكرته … وإِلى ذلك كله، فمن النَّاس من تلفته نظرةٌ عابرةٌ أو لمحةٌ خاطفةٌ، ومن لا يتنبه إِلا بصدمة عنيفة أو أزمة شديدة، ومن لا تكون عقيدته إِلا من تضافُر جملةٍ من العوامل المختلفة، ومن لا يمر على كل هذه الدلائل وهو غافل، فلا تستيقظ فيه بواعثُ الاعتقاد حتى تبين له الدلائل تبينًا، أو يُلقَّنها تلقينًا. وهل الباحثون الذين عرضنا نظرياتهم آنفًا إِلا آحادٌ من النَّاس، يغلب على كل واحد منهم مزاجه الخاص في الاستنباط، وأسلوبه المختار في الاقتناع؟ فكان من الطبيعي أن يبدأ كلٌّ منهم عقيدته من الطريق الذي هو أكثر إِليه تنبُّهًا، وأشد له إِلفًا، وأقوى به تأثُّرًا، ثم تتلاحق عليه الدلائلُ الأخرى بعد ذلك.
وهكذا، كان منهم من استمد إِيمانه من تأملاته في مشاهد الطبيعة، وآخرُ كانت عقيدته وليدة تجاربه في عالم الأرواح، وثالثٌ استيقظ وعيه الديني من ملاحظة نفسية في حياته العادية، ورابعٌ من تحليله لبعض المعاني العقلية، وخامس استنتاجًا من القوانين الأخلاقية، وسادسٌ لم يرفع رأسه إِلى هذه الحقائق العليا إِلا بعد أن تلقاها من طريق التعاليم الدينية. وهذه كلها طرقٌ مؤدية للغاية، وإِنما عرض الخطأ لهؤلاء المفكرين الذين شرحنا نظرياتهم آنفًا من جهة أن كل واحد منهم حين وصف الطريق التي سلكها، نسي سائر الطرق، وجعل الأولية التي أحسها من نفسه لبعض الدلائل أولية لها عند الكافة، فاتخذ نفسه مقياسًا عالميًّا بغير بينة، ولو أن كل باحث وقف بالنتيجة عند ما تثبته مقدماتها لَقَرَّرَ أن المنهج الذي سلكه إِنما يصور نشأة العقيدة عنده وعند من يشاكله في مشربه، ولكنهم جعلوا هذه الحقائق النسبية حقائقَ مطلقةً، فكان ذلك مثار النزاع والاختلاف.
- (١)
أن آيات الألوهية مبثوثةٌ في كل شيء.
- (٢)
أن كل فئة من النَّاس لها طريقٌ مسلوك في الاسترشاد ببعض تلك الآيات قبل بعض.
وهذه الحقيقة المزدوجة يقررها القرآن في أوضح بيان؛ حيث يقول في المقدمة الأولى: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ (الجاثية: ٣) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ (الذاريات: ٢٠)، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ (فصلت: ٥٣)، ويقول في المقدمة الثانية: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا (المائدة: ٤٨)، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا (البقرة: ١٤٨)، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (الرعد: ٧).
ولا جرم أنه من أجل هذا الاختلاف في وسائل الاقتناع عند النَّاس، تنوعت في القرآن وسائلُ الدعوة إِلى الله، وصُرِّفتْ فيه الآيات تصريفًا بليغًا، حتى إِن الذي يستعرض أساليب الهداية القرآنية إِلى عقيدة الألوهية يجدها قد أحاطت بأطراف هذه المسالك، وأشبعت تلك النزعات جميعًا، بل ربما زادت في كل منهج عناصر جديدة، لم يفطن إِليها الباحثون المذكورون.
فإِن شئت التحقق فإِليك نماذج قرآنية من هذه المناهج على الترتيب:
اقرأ في المنهج الطبيعي، أمثال قوله تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (ق: ٧)، وقوله: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ (الأنعام: ٩٩)، وقوله: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا (الأنعام: ٩٦)، وقوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (القصص: ٧١-٧٢).
ويزيد القرآن في هذا الباب عُنصرًا جديدًا، وهو عنصر الاختلاف بين المتشابهات، اختلافًا لم يتهيأ للعلم البشري معرفة أسبابه، ولا التحكم في عوامله، ولا التنبؤ به قبل ظهوره؛ لأنه — كما يقول «وليم جيمس» — يرتبط بأحوال ذرية دقيقة لا تخضع لشيء من أنواع الملاحظة، ولأنه لا يتبع حالة خاصة من أحوال البيئة الطبيعية ونحوها، بل يجيء مع كل الحالات الممكنة لهذه البيئة، ومع ذلك كله تراه يسير في نظام غايةً في الإِحكام.
هذا الاختلاف البديع من اتحاد البيئة والعوامل الطبيعية الظاهرة، تجد التنبيه على موضع العبرة منه في قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ (الرعد: ٤)، وقوله: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ (الروم: ٢٢)، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ (فاطر: ٢٧).
وأخيرًا يُعنَى القرآن عنايةً خاصة، في هذا الجانب التكويني، بظاهرة الحياة التي حيرت العلماء، فيقول: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ (البقرة: ٢٨)، ويقول: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (الواقعة: ٥٩)، ويقول: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا (الروم: ٥٠).
هذا كله في الشطر الأول من المنهج الطبيعي.
فإِذا انتقلت إِلى الشطر الثاني منه تجد أمثال قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا (الروم: ٢٤)، وقوله: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ (الرعد: ١٣)، ثم لا يكتفي القرآن ها هنا بالتنبيه إِلى الحوادث المروعة الواقعة بالفعل، بل يضيف إِليها الإِنذار بالأحداث المتوقعة أو المحتملة، فيقول: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (الأعراف: ٩٨)، ويقول: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (سبأ: ٩).
أما المنهج الروحي فترى عناصره مبثوثة أيضًا في كثير من الآيات؛ فمبدأ: استقلال الروح البشري وانفصاله عن الجسم وعن الروح الحيواني في هذه الحياة، ومبدأ: بقاء هذا الروح الإِنساني بعد الموت في حالة برزخية بين الدنيا والآخرة، ومبدأ: تعلق أرواح الموتى بشئون أهل الدنيا … هذه المبادئ كلها نراها مقررة في مثل قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى (الأنعام: ٦٠)، وقوله: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا (الزمر: ٤٢)، وقوله: فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ (آل عمران: ١٧٠)، وقوله في شأن أهل الشقاوة وهم في قبورهم: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا (غافر: ٤٦).
ذلك إِلى ما يقرره القرآن في غير موضع من وجود أرواح أخرى مستقلة عن العالم الإِنساني، ولكنها تتصل بشئونه، ويسخرها الله في تدبير أحواله، تارةً بالنصر والتأييد، وتارة بغير ذلك. اقرأْ قصة الجن في السورة المسماة بهذا الاسم، وفي سورة الأنبياء، وسورة النمل، وسورة سبأ … واقرأ أخبارَ الملائكة في السورة المسماة بهذا الاسم، وهي سورة فاطر، أو السور الأخرى، مثل سورة آل عمران، وسورة الأنعام، وسورة الأنفال، وغيرهن.
وكذلك المذاهب النفسية نرى منهاجها مستعملًا في القرآن حين يُشير إِلى قصور الإِرادات الإِنسانية عن بلوغ أهدافها، وإِلى عجز الإِنسان أمام المقادير العليا وضرورة استسلامه لها، في قوله تعالى: أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (النجم: ٢٤)، وقوله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (القصص: ٦٨)، وقوله: أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (القلم: ٤٠).
ويزيد القرآن في هذا المعنى عُنصرًا آخر عظيم الدلالة على الألوهية، وهو تحول الإِرادات الإِنسانية عن أهدافها، حين تنقلب كراهيتها محبة، وعداوتها أُلفة، واستهجانها استحسانًا، وثورتها سكونًا، من غير أن يكون للأسباب الطبيعية مدخلٌ معقول في هذا التحول، وفي ذلك يقول الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ (آل عمران: ١٠٣)، ويقول: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ (الأنفال: ٦٣)، ويقول: فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ (الفتح: ٢٦)، ويجمع ذلك كلَّه قولُه سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ (الأنفال: ٢٤).
حتى المذهب الأخلاقي نجد لُبَّه وجوهره في القرآن حيث يقول الله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (الشمس: ٧، ٨).
وأخيرًا نرى المذهب التعليمي ساريًا في القرآن كله، إِلى جانب ما فيه من التوجيه المستمر إِلى الاعتبار بتلك الآيات الواضحة، والدلائل اللائحة، في الأنفس والآفاق. فالقرآن يقرر أن الرحمة الإِلهية لم تكتفِ بدلائل العقل، حتى أيدتها بشواهد النقل، وأنها قطعت حُجة كل غافل وكل متواكل، فأرسلت رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (النساء: ١٦٥)، وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (الأعراف: ١٧٣)، هكذا يلتقي في محيط القرآن ما رأيناه قد تشعب عند العلماء من مسالك الاعتبار، ومذاهب البحث والنظر.
وإِنه لن يسع الباحث المنصف، متى تحقق من هذه الإِحاطة العلمية الشاملة، إِلا أن يرى فيها آية جديدة على أن القرآن المجيد ليس صورة لنفسية فرد، ولا مرآة لعقلية شعب، ولا سجلًّا لتاريخ عصره، وإِنما هو كتاب الإِنسانية المفتوح، ومنهلها المورود. فمهما تتباعد الأقطار والعصور، ومهما تتعدد الأجناس والألوان واللغات، ومهما تتفاوت المشارب والنزعات؛ سيجد فيه كل طالب للحق سبيلًا ممهدًا، يهديه إِلى الله على بصيرة وبينة.
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (القمر: ١٥).
وبَعدُ فإِتمامًا للفائدة، قد ألحقنا هذا البحث القيِم الخاص بموقف الإِسلام من الأديان الأخرى بهذا الكتاب، وكان قد أعده المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز لإِلقائه في الندوة العالمية للأديان التي عُقِدَتْ ﺑ «لاهور» بباكستان وذلك في جمادى الآخرة سنة ١٣٧٧ﻫ/يناير سنة ١٩٥٨م.
(١) موقف الإسلام من الأديان الأخرى، وعلاقته بها
إِذا أخذنا كلمة «الإِسلام» بمعناها القرآني نجدها لا تدع مجالًا لهذا السؤال عن العلاقة بين الإِسلام وبين سائر الأديان السماوية، فالإِسلام في لغة القرآن ليس اسمًا لدينٍ خاص، وإِنما هو اسمٌ للدين المشترك الذي هتف به كل الأنبياء وانتسب إِليه كل أتباع الأنبياء، هكذا نرى نوحًا يقول لقومه: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (سورة يونس، الآية: ٧٢)، ويعقوب يوصي بنيه: فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (سورة البقرة، الآية: ١٣٢)، وأبناء يعقوب يجيبون أباهم: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (سورة البقرة، الآية: ١٣٣)، وموسى يقول لقومه: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (سورة يونس، الآية: ٨٤)، والحواريون يقولون لعيسى: آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (سورة آل عمران: ٥٢)، بل إِن فريقًا من أهل الكتاب حين سمعوا القرآن: قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (سورة القصص: ٥٣).
وبالجملة نرى اسم الإِسلام شعارًا عامًّا يدور في القرآن على ألسنة الأنبياء وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إِلى عصر النبوة المحمدية، ثم نرى القرآن يجمع هذه القضايا كلها في قضية واحدة يوجهها إِلى قوم محمد ﷺ، ويبين لهم فيها أنه لم يُشرع لهم دينًا جديدًا، وإِنما هو دين الأنبياء من قبلهم: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (سورة الشورى، الآية: ١٣)، ثم نراه بعد أن يسرد سيرة الأنبياء وأتباعهم ينظمهم في سلك واحد، ويجعل منهم جميعًا أمةً واحدةً لها إِلهٌ واحد كما لها شريعة واحدة: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (سورة الأنبياء: ٩٢).
ما هذا الدين المشترك الذي اسمه الإِسلام، والذي هو دين كل الأنبياء والمرسلين؟ إِن الذي يقرأ يعرف كُنْهَ هذا الدين، إِنه هو التوجه إِلى الله رب العالمين في خضوع خالص لا يشوبه شرك، وفي إِيمان واثق مطمئن بكل ما جاء من عنده على أي لسان وفي أي زمان أو مكان، دون تمرد على حكمه، ودون تمييز شخصي أو طائفي أو عنصري بين كتاب وكتاب من كتبه، أو بين رسول ورسول من رسله، هكذا يقول القرآن: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (سورة البينة، الآية: ٥)، ويقول: قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (سورة البقرة: ١٣٦).
نقول إِذن: إِن الإِسلام بمعناه القرآني الذي وصفناه لا يصلح أن يكون محلًّا للسؤال عن علاقة بينه وبين سائر الأديان السماوية؛ إِذ لا يُسأل عن العلاقة بين الشيء ونفسه، فها هنا وحدة لا انقسام فيها ولا اثنينية.
غير أن كلمة «الإِسلام» قد أصبح لها في عُرف النَّاس مدلولٌ معين، هو مجموعة الشرائع والتعاليم التي جاء بها محمد ﷺ أو التي استُنبطت مما جاء به، كما أن كلمة اليهودية أو الموسوية تخص شريعة موسى وما اشتُق منها، وكلمة النصرانية أو المسيحية تخص شريعة عيسى وما تفرع منها.
فالسؤال الآن إِنما هو عن الإِسلام بمعناه العُرفي الجديد، أعني: عن العلاقة بين المحمدية وبين الموسوية والمسيحية.
- المرحلة الأولى: في علاقة الشريعة المحمدية بالشرائع السماوية السابقة وهي في صورتها الأولى لم تبعُد عن منبعها، ولم يتغير فيها شيءٌ بفعل الزمان ولا بيَدِ الإِنسان.
- المرحلة الثانية: في علاقته بها بعد أن طال عليها الأمدُ، وطرأ عليها شيءٌ من التطور.
أما في المرحلة الأولى:
فالقرآن يعلمنا أن كل رسول يُرسَل، وكل كتاب يُنزَل؛ قد جاء مصدِّقًا ومؤكدًا لما قبله؛ فالإِنجيل مصدقٌ ومؤيدٌ للتوراة، والقرآن مصدق ومؤيد للإِنجيل والتوراة ولكل ما بين يديه من الكتب: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (سورة المائدة، الآيات: ٤٦، ٤٧، ٤٨)، وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (آل عمران، الآية: ٨١).
غير أن ها هنا سؤالًا يحق للسائل أن يسأله:
أليست قضية هذا التصادق الكلي بين الكُتب السماوية أن تكون الكُتب المتأخرة إِنما هي تجديدٌ للمتقدمة وتذكيرٌ بها، فلا تُبدِّل فيها معنًى، ولا تُغير حكمًا، وإِلا كيف يقال: إِنها تصدق … إِلخ، بينما هي تُبدل وتُعدل، وإِذا كان من قضية التصادق الكلي بين الكُتب ألَّا يغير المتأخرُ منها شيئًا من المتقدم، فهل الواقع هو ذلك؟
الجواب: ليس الواقع ذلك، فقد جاء الإِنجيل بتعديلِ بعض أحكام التوراة؛ إِذ أعلن عيسى أنه جاء ليُحل لبني إِسرائيل بعض الذي حُرم عليهم: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (آل عمران، الآية: ٥٠)، وكذلك جاء القرآن بتعديل بعض أحكام الإِنجيل والتوراة؛ إِذ أعلن أن محمدًا ﷺ جاء ليُحل للناس كل الطيبات، ويُحرم عليهم كل الخبائث، ويضع عنهم إِصرهم والأغلال التي كانت عليهم: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (سورة الأعراف، الآية: ١٥٧).
ولكن يجب أن يُفهم أن هذا وذاك لم يكن من المتأخر نقضًا للمتقدم، ولا إِنكارًا لحكمة أحكامه في إِبانها، وإِنما كان وقوفًا بها عند وقتها المناسب وأجلها المقدر … مثل ذلك مثل ثلاثة من الأطباء جاء أحدهم إِلى الطفل في الطور الأول من حياته فقرر قَصْرَ غذائه على اللبن، وجاء الثاني إِلى الطفل في مرحلته التالية فقرر له طعامًا لبنًا وطعامًا نشويًّا خفيفًا، وجاء الثالث في المرحلة التي بعدها فأَذِنَ له بغذاء قوي كامل.
لا ريب أن ها هنا اعترافًا ضمنيًّا من كل واحد منهم بأن صاحبه كان موفقًا كل التوفيق في علاج الحال التي عُرِضَتْ عليه … نعم إِن هناك قواعد صحية عامة في النظافة والتهوية والتدفئة ونحوها لا تختلف باختلاف الإِنسان، فهذه لا تعديل فيها ولا تبديل، ولا يختلف فيها طب الأطفال والناشئين عن طب الكهول الناضجين.
ولولا اشتمال الشريعة السماوية على هذين النوعين ما اجتمع فيها العنصران الضروريان لسعادة المجتمع البشري: عنصر الاستمرار الذي يربط حاضر البشرية بماضيها، وعنصر الإِنشاء والتجديد الذي يُعِدُّ الحاضر للتطور والرقي اتجاهًا إِلى مستقبل أفضل وأكمل.
ونحن إِذا نظرنا نظرةً فاحصة إِلى سير التشريع السماوي من خلال الشرائع الثلاث نجد فيها هذين العنصرين واضحين كل الوضوح؛ إِذ نجد كل شريعة جديدة تحافظ على الأسس الثابتة التي أرستْها الشريعة السابقة، ثم تزيد عليها ما يشاء الله زيادته.
نرى شريعة التوراة مثلًا قد عُنيت بوضع المبادئ الأولية لقانون السلوك «لا تقتل» و«لا تسرق» … إِلخ. ونرى الطابع البارز فيها هو طابع تحديد الحقوق وطلب العدل والمساواة بينها … ثم نرى شريعة الإِنجيل تجيء بعدها فتقرر هذه المبادئ الأخلاقية وتؤكدها، ثم تترقى فتزيد عليها آدابًا مكملة: «لا تُراءِ النَّاس بفعل الخير، أَحْسِنْ إِلى من أساء إِليك»، ونرى الطابع البارز فيها التسامح والرحمة والإِيثار والإِحسان … وأخيرًا تجيء شريعة القرآن فنراها تقرر المبدأين كليهما في نسق واحد: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (سورة النحل، الآية: ٩٠) مقدرة لكل منهما درجته في ميزان القِيَم الأدبية مميزةً بين المفضول منهما والفاضل: وَجَزَاءُ سَيِِّئَةٍ سَيِِّئَةٌ مِثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ (سورة الشورى، الآية: ٤٠)، وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (سورة النحل، الآية: ١٢٦)، ثم نراها وقد أضافت إِليها فُصولًا جديدة صاغتْ فيها قانونَ آداب اللياقة، رسمت بها مناهج السلوك الكريم في المجتمعات الرفيعة في التحية والاستئذان، والمجالسة والمخاطبة إِلى غير ذلك … كما نراه في سورة النور والحجرات والمجادلة.
هذا مثال من أمثلة الجمع في سير التشريعات السماوية بين عنصر المحافظة على القديم الصالح، وعنصر الأخذ بالجديد الأصلح. والأمثلةُ كثيرة لا يتسع لها نطاق هذا البحث.
هكذا كانت الشرائعُ السماوية خطواتٍ متصاعدةً ولَبِناتٍ متراكمةً في بنيان الدين والأخلاق وسياسة المجتمع، وكانت مهمة اللبنة الأخيرة منها أنها أكملت البنيان وملأت ما بقي فيه من فراغ، وأنها في الوقت نفسه كانت بمثابة حجر الزاوية الذي يمسك أركان البناء، وصدق الله وصف خاتم أنبيائه بأنه: جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (سورة الصافات، الآية: ٣٧)، وحين وصف اليوم الأخير من أيامه بأنه كان إِتمامًا للنعمة وإِكمالًا للدين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (سورة المائدة، الآية: ٣)، وصدق رسول الله ﷺ حين صور الرسالات السماوية في جملتها أحسن تصوير: «مَثَلِي وَمَثَل الأَنْبِيَاء مِنْ قبلي كَمَثَل رجُلٍ بنى بَيْتًا، فأحسَنَه وأجْمَله، إِلا مَوْضِع لَبِنَة فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفون ويعجبون له، ويقولون: هَلَّا وُضِعت هذه اللَّبِنَة، فأَنا اللبِنَة، وأنا خَاتمُ النبيين» (البخاري، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين) عن أبي هريرة (رقم ٣٢٧١).
إِنها إِذن سياسةٌ حكيمة رسمتها يد العناية الإِلهية، لتربية البشرية تربية تدريجية لا طفرة فيها ولا ثغرة، ولا توقف فيها ولا رجعة، ولا تناقض ولا تعارض، بل تضافر وتعانق، وثبات واستقرار، ثم نموٌّ واكتمال وازدهار.
وننتقل الآن إِلى المرحلة الثانية:
«المرحلة الثانية» في بحث العلاقة بين الشريعة المحمدية والشرائع السماوية بعد أن طال الأمد على هذه الشرائع، فنالها شيءٌ من التطور والتحرر.
رأينا في المرحلة السابقة كيف كان القرآن يعلن عن نفسه دائمًا أنه جاء «مصدقًا لما بين يديه من الكتب»، ونرى الآن أن القرآن أضاف إِلى هذه الصفة صفةً أخرى؛ إِذ أعلن أنه جاء أيضًا «مهيمنًا» على تلك الكتب وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (سورة المائدة، الآية: ٤٨) أي: حارسًا أمينًا عليها … ومن قضية الحراسة الأمينة على تلك الكُتب أَلَّا يكتفيَ الحارسُ بتأييد ما خلده التاريخ فيها من حق وخير، بل عليه — فوق ذلك — أن يحميها من الدخيل الذي عساه أن يُضاف إِليها بغير حق، وأن يُبرز ما تمس إِليه الحاجة من الحقائق التي عساها أن تكون قد أُخفيتْ منها.
وهكذا كان من مهمة القرآن أن ينفي عنها الزوائد، وأن يتحدى مَنْ يدعي وجودها في تلك الكُتب: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (سورة آل عمران، الآية: ٩٣)، كما كان من مهمته أن يُبين ما ينبغي تبيُّنه مما كتموه منها: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ (سورة المائدة، الآية: ١٥).
وجملة القول أن علاقة الإِسلام بالديانات السماوية في صورتها المنظورة علاقةُ تصديق لما بقي من أجزائها الأصلية، وتصحيح لما طرأ عليها من البدع والإِضافات الغريبة عنها.
هذا الطابع الذي تتسم به العقيدة الإِسلامية، وهو طابع الإِنصاف والتبصُّر الذي يتقاضى كل مسلم ألا يقبل جُزافًا، ولا ينكر جزافًا، وأن يصدر دائمًا عن بصيرة وبينة في قبوله ورده، ليس خاصًّا بموقفها من الديانات السماوية، بل هو شأنها أمام كل رأي وعقيدة، وكل شريعة ومِلة، حتى الديانات الوثنية نرى القرآن يحللها ويفصلها، فيستبقي ما فيها من عناصر الخير والحق والسُّنة الصالحة، ويُنَحِّي ما فيها من عناصر الباطل والشر والبدعة.
أما بعد، فهذا هو موقف الإِسلام من الديانات الأُخرى من الوِجهة النظرية، وقد بقي أن نبحث عن موقفه من الوِجهة العملية.
هل يقف منها موقف السكوت عليها والإِغضاء عنها اكتفاءً بالأمر الواقع؟
أم هل يقف موقف المحارب المقاتل الذي لا يهدأ له بال حتى يُطهر الأرض منها ومن أهلها؟
قليلٌ من الكُتاب الغربيين يُجيبنا بالشق الأول، حتى قال قائل منهم — جوتييه في كتاب أخلاق المسلمين وعوائدهم: «إِن المسلم أناني، وإِن الإِسلام يشجعه على هذه الأنانية؛ فالمسلم لا يعنيه ضل غيرُه أم اهتدى، سَعِدَ أم شَقِيَ، ذهب إِلى الجنة أم إِلى السعير.»
وأكثر الكاتبين يُجيبون بالشق الثاني، فالإِسلام في نظر هؤلاء يريد أن يفرض نفسه على النَّاس بحد السيف، والقرآن في نظرهم يأمر المسلم بأن يضرب عنق الكافر أينما لقيه …
الواقع أن كلا الفريقين لم يُصِب كبد الحقيقة في تصوُّره لموقف الإِسلام.
ليس الإِسلام فاترًا ولا منطويًا على نفسه — كما زعم الأقلون — فالدعوة إِلى الحق والخير ركنٌ أصيل من أركان الإِسلام، والنشاط في هذه الدعوة فريضةٌ مستمرة في كل زمان ومكان؛ يأمر الله نبيه بتبليغ كلامه، وبأن يبذل جهده في هذا التبليغ: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (سورة الفرقان: ٥٢)، والقرآن يحرِّض المؤمنين على هذه الدعوة:
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ (سورة فصلت: ٣٣)، بل يجعل الفلاح والنجاة وقفًا على هؤلاء الدعاة: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (سورة آل عمران: ١٠٤)، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (سورة العصر، الآيتان: ٢، ٣).
ولكن الإِسلام في الوقت نفسه ليس — كما يزعم الأكثرون — عنيفًا ولا متعطشًا للدماء، وليس من أهدافه أن يفرض نفسه على النَّاس فرضًا حتى يكون هو الديانة العالمية الوحيدة، فنبيُّ الإِسلام ﷺ هو أول من يعرف أن كل محاولة لفرض ديانة عالمية وحيدة هي محاولةٌ فاشلة، بل هي مقاومة لسُنة الوجود، ومعانَدة لإِرادة رب الوجود: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (سورة هود، الآية: ١٨)، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (سورة يوسف، الآية: ١٠٣)، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (سورة يونس، الآية: ٩٩)، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ (سورة القصص، الآية: ٥٦).
ومن هنا نشأت القاعدة الإِسلامية المحكمة المبرمة في القرآن، قاعدة حرية العقيدة: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (سورة البقرة: ٢٥٦)، ومن هنا رسم القرآن أسلوب الدعوة ومنهاجها فجعلها دعوةً بالحجة والنصيحة في رفق ولين: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (سورة النحل، الآية: ١٢٥).
على أن الإِسلام لا يكتفي منها بهذا الموقف السلمي السلبي — وهو عدم إِكراه النَّاس على الدخول فيه — بل يتقدم بنا إِلى الأمام فيرسم لنا خطوات إِيجابية نُكرم بها الإِنسانية في شخص غير المسلمين.
هل ترى أسمى وأنبل من تلك الوصية الذهبية التي يوصينا بها القرآن في معاملة الوثنية التي هي أبعدُ الديانات عن الإِسلام، فضلًا عن الديانات التي تربطنا بها أواصرُ الوحي السماوي؟ اقرأْ في سورة التوبة: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ (سورة التوبة: ٦) … فأنت تراه لا يكتفي منا بأن نجير هؤلاء المشركين ونؤويهم ونكفل لهم الأمن في جوارنا فحسب، ولا يكتفي منا بأن نرشدهم إِلى الحق ونهديهم طريق الخير وكفى، بل يأمرنا بأن نكفل لهم كذلك الحماية والرعاية في انتقالهم حتى يصلوا إِلى المكان الذي يأمنون فيه كل غائلة.
ثم هل نرى أعدل وأرحم، وأحرص على وحدة الأمة وتماسكها من تلك القاعدة الإِسلامية، التي لا تكتفي بأن تكفل لغير المسلمين في بلاد الإِسلام حرية عقائدهم وعوائدهم، وحماية أشخاصهم وأموالهم وأعراضهم، بل تمنحهم من الحرية والحماية، ومن العدل والرحمة قدر ما تمنحه للمسلمين من حقوق العامة «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، شرح سنن النسائي للسِّنْدي.
ثم هل ترى أوسع أفقًا، وأرحب صدرًا، وأسبق إِلى الكرم، وأقرب إِلى تحقيق السلام الدولي والتعايُش السلمي بين الأمم، من تلك الدعوة القرآنية التي لا تكتفي في تحديد العلاقة بين الأمم الإِسلامية وبين الأمم التي لا تدين بدينها، ولا تتحاكم إِلى قوانينها، لا تكتفي في تحديد هذه العلاقة بأن تجعلها مبادلة سلم بسلم: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (سورة الأنفال، الآية: ٦١)، فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (سورة النساء، الآية: ٩٠)، بل تندب المسلمين أن يكون موقفهم من غير المسلمين موقف رحمة وبِر، وعدل وقسط: لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (سورة الممتحنة، الآية: ٨).
ليس هذا هو كل شيء في تحديد الموقف الإِنساني النبيل الذي يقفه الإِسلام عمليًّا من غير أتباعه … ولضيق المقام نكتفي بكلمة واحدة:
إِن الإِسلام لا يَكُف لحظةً واحدةً عن مد يده لمصافحة أتباع كل مِلة ونِحلة في سبيل التعاون على إِقامة العدل، ونشر الأمن وصيانة الدماء أن تُسفك، وحماية الحرمات أن تُنتهك، ولو على شروط يبدو فيها بعض الإِجحاف … ناهيك بالمثل الرائع الذي ضربه لنا رسول الله ﷺ في هذا المعنى حين قال في الحديبية: «والَّذِي نَفْسِي بيَدِه لا يَسْأَلُوني خُطَّة يُعَظِّمون فيها حُرُمَات الله إِلا أعطيتُهم إِياها» (البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، رقم ٢٥٢٩).
هذا هو مبدأ التعاون العالمي على السلام، يقرره نبي الإِسلام، ورسول السلام.