الكراسة الذهبية
The Golden notebook by Doris Lessing 1962
والآن، اتخذت قرارها. كرَّت عائدةً إلى الفندق، في الناحية الأخرى من باريس، وحزمت حقائبها، وأبرقت إلى جوليا وإلى باتريشيا، ثم استقلَّت السيارة إلى المطار. كان هناك مقعد خالٍ في طائرة التاسعة، أي بعد ثلاث ساعات. أطلَّت مُتمهِّلة على مطعم المطار. وقرأت حزمةً من المجلات النسائية الفرنسية بعناية، وهي تُسجل الموضوعات والقصص التي قد تُفيد باتريشيا. كانت تقوم بذلك بنصف عقلِها بينما تفكر: «حسنًا، علاج هذه الحالة هو العمل. سوف أكتب روايةً جديدة. لكن المشكلة أني عندما كتبتُ روايتي السابقة لم أقل: سأكتب رواية. لقد وجدتُ نفسي أكتبها. حسنًا، لا بد أن أضع نفسي في الحالة الذهنية ذاتها، حالة الاستعداد الطليق أو الانتظار السلبي. فربما وجدتُ نفسي، ذات يوم، أكتب. لكني، في الحقيقة، لم أعد أعبأ بذلك. لو أن بول قال: سأتزوَّجك بشرط ألا تكتُبي حرفًا واحدًا بعد الآن. يا إلهي، كنتُ فعلت! كنتُ مُستعدةً لشراء بول. لكن ذلك سيُصبح خداعًا مزدوجًا. أنا لستُ سعيدة لأني فقدتُ شيئًا من استقلالي، بعض حُريتي. لكن حُريتي لا علاقة لها بكتابة رواية، إنها تتعلق بموقفي من رجل، وهذا ما تبيَّن كذبه، لأني صِرتُ حطامًا. كانت سعادتي مع بول أكثر أهميةً من أي شيءٍ آخر، فإلى أين أدَّى هذا بي؟ ها أنا ذا وحيدة، خائفة من الوحدة، بلا حيلة، أهرب من مدينةٍ مُثيرة لأني لا أملك الطاقة المعنوية لأُتلفن لأي واحدٍ من اثنَي عشر إنسانًا يَسرُّهم (أو على الأقل ربما) أن أفعل.
المرعب أنه عقب انتهاء كل مرحلة من مراحل حياتي، لا يتبقَّى منها أكثر مما يعرفه الجميع. وهو، في هذه الحالة، أن عواطف النساء ما زالت كما هي، لا تصلح إلَّا لنوعٍ من المجتمعات لم يعُد له وجود. عواطفي العميقة، الحقيقية، تتَّصِل بعلاقتي برجُل. رجل واحد. لكني لا أعيش هذا النوع من الحياة، وأعرف قليلات يفعلنَ ذلك. ما أشعر به سخيف لا جدوى منه. دائمًا أنتهي إلى أن عواطفي الحقيقية غبية. يجدُر بي أن أكون مثل الرجل، أهتمُّ بعملي أكثر من اهتمامي بالناس. يجدُر بي أن أضع عملي في المحل الأول، وآخُذ الرجال كما هم، أو أجد لنفسي واحدًا عاديًّا مريحًا، لأسبابٍ تتعلق بالخبز والزبدة. لكني لن أفعل، ليس بوسعي أن أكون هكذا.»
نادى الميكروفون على رقم الرحلة. وسارت «إيللا» مع الآخرين إلى الطائرة، واستقرَّت في مقعدها بعد أن لاحظَت أن المقعد المجاور لها قد شغلته امرأة، وتنفَّست لذلك الصعداء. لو حدث ذلك منذ خمس سنوات لشعرت بالأسف. واستعدَّت الطائرة للإقلاع. لكن خللًا ما طرأ عليها. وسُئل الركاب أن يُغادروا الطائرة حتى يتمكن العمَّال من إصلاح «عطب صغير في المحرك». وعاد الركاب إلى المطعم حيث أعلن عاملوه عن تقديم وجبةٍ من الطعام.
جلسَت «إيللا» بمفردها في ركن، ضَجِرة مُتضايقة. كان الجميع صامتين يفكرون في الحظ الحسَن الذي كشف عن العطب في الوقت المناسب. أكلوا جميعًا، قضاءً للوقت، وطلبوا شرابًا، وجلسوا يتأمَّلون، من النوافذ، الطائرة وقد أحاط بها العمال تحت الأضواء الساطعة.
ألفت نفسها في قبضة شعور عرفت كُنهه عندما تفحَّصته: وحدة. كما لو أن مساحةً من الهواء البارد امتدَّت بينها وبين جموع الناس. كان للشعور برودة جسدية، عزلة جسدية، ووجدت نفسها تفكر في بول من جديد. حتى بدا لها أمرًا مستحيلًا ألا يظهر فجأة عند الباب ويتقدم منها. كانت تشعر بالبرد المحيط بها يذوب من اقتناع قوي بأنه سرعان ما يكون إلى جانبها. بذلت جهدًا لتنتزع نفسها من هذا الوهم. فكرت في رعب: «إذا لم أتمكن من إيقاف هذا الجنون، لن أصير نفسي مرة أخرى، لن أُشفى أبدًا.» نجحَت في إبعاد صورة بول وشعرت بالفراغ البارد يتفتَّح من حولها ثانية، وداخل البرد/العزلة جلست تُقلب أكوام المجلات الفرنسية دون أن تُفكر بشيء.
كان يجلس بالقُرب منها رجل انهمك في تصفُّح مجلات طبية. كان يبدو، للوهلة الأولى، أمريكيًّا. كان قصيرًا، عريضًا، يتوفَّز حيويةً ونشاطًا، ذا شعر مقصوص لامع مثل حذاء بُني اللون. وكان يجرع كئوس عصير الفاكهة، الواحدة تلوَ الأخرى، دون أن يبدو عليه الاهتمام بالتأخير الذي أصاب الرحلة. التقت عيونهما، بعد أن تفقَّدا الطائرة القابعة في الخارج، فقال بضحكةٍ عالية: «يبدو أننا سنقضي الليلة كلها هنا.» وعاد إلى نشراته الطبية.
وفجأة نشب شجار بين العمَّال. كان أحدُهم، وهو الرئيس على ما يبدو، يُعنف الآخرين أو يشكو من شيءٍ وهو يحرك ذراعَيه ويهزُّ كتفَيه بشدة. في البداية، ردوا على صياحه بصياح، ثم لجئوا إلى الصمت، وسرعان ما انسحبوا إلى المبنى الرئيسي، تاركين رئيسهم وحدَه أسفل الطائرة. وما لبث هذا أن هزَّ كتفَيه وتبِعَهم.
تبادل الأمريكي وإيللا النظرات من جديد. قال في استمتاع واضح: «لست أعبأ بشيء.» ودعا الميكروفون الركاب إلى صعود الطائرة، فقاما إليها سويًّا. قالت إيللا: «لعلَّه يجدُر بنا أن نرفض الذهاب!» فقال الأمريكي كاشفًا عن أسنانٍ سليمة شديدة البياض، بينما تدفق الحماس من عينَيه الزرقاوين الطفوليتَين: «لديَّ موعد صباح الغد.» ولا بد أنه كان موعدًا بالِغ الأهمية حتى يستحق هذه المخاطرة بالموت. أما الآخرون، وأغلبهم شعَر بما جرى بين العمَّال، فقد عادوا في استسلام إلى مقاعدهم، وهم يبذلون جهودهم للتظاهر بعدم المُبالاة. بل إن مُضيفة الطائرة، التي كانت تبدو في الظاهر هادئة، أوحت حركاتها بشيءٍ من العصبية. وداخل الطائرة الساطع الضوء، جلس أربعون شخصًا في قبضة الرعب، وهم يحاولون إخفاء مشاعرهم. كلهم، هكذا فكَّرَت إيللا، عدا الأمريكي الذي استقر إلى جوارها الآن، واستغرق في كتبه الطبية. أما هي فقد صعدت إلى الطائرة وكأنها تصعد إلى غرفة الإعدام. لكنها إذ فكرت في هزة الكتف التي صدرت عن رئيس العمال، ألفَتْها تُجسِّد شعورها الخاص. وعندما شرعت الطائرة تئز، فكرت: «سوف أموت، مُحتمل جدًّا، وإني لمسرورة بذلك.»
لم يكن هذا اكتشافًا جديدًا: «أنا منهكة للغاية، مُتعبة كلية، من الأساس، فإذا عرفت أني لم أعد بحاجة للاستمرار في الحياة، شعرتُ بالارتياح. يا للغرابة! وكل هؤلاء، عدا هذا الشاب الفائر المُتوثِّب قوةً وحيوية، يخافون أن تتحطم الطائرة، ومع ذلك وَلَجوها جميعًا طائعين. فلعلَّنا جميعًا نطوي جوانحنا على الشعور نفسه.»
تطلَّعت في فضول إلى بقية الركاب. واستوت الطائرة أخيرًا في الجو فعلَّق الأمريكي مُبتسمًا: «حسنًا، لقد نجحنا.» وعاد إلى القراءة. أغلقت عينَيها وفكرت: «أنا مُقتنعة تمامًا بأننا سنتحطم. أو على الأقل هناك فرصة كبيرة لذلك. ماذا يكون إذن من أمر ميشيل؟ لم أفكر حتى فيه. حسنًا، سوف تُعنى به جوليا.» كان خاطر ميشيل حافزًا للحياة لم يستمر سوى لحظة، ثم فكرت: «أن تموت أمٌّ في حادث طائرة أمر محزن، لكنه غير مُدمِّر. ليس مثل الانتحار. غريب قولنا إننا نعطي الحياة للطفل، بينما هو الذي يعطي الحياة لأبوَيه عندما يُقرر أحدهما أن يعيش لمجرد أن الانتحار سيلحق الأذى بالطفل. ترى كم من الآباء والأمهات قرَّروا الاستمرار في الحياة، فقط، لأنهم أرادوا عدم الإساءة إلى أطفالهم؟ (كان النعاس يُداعب جفونها الآن) .. أشعر كأنما وُلِدت بحِملٍ من التعب حملته طول حياتي. الوقت الوحيد الذي لم أكن أجرُّ فيه حِملي الثقيل إلى أعلى التل، كان عندما كنت مع بول. كفاني من بول ومن الحُب ومن نفسي. معجزة هي تلك العواطف التي نقع في إسارها ولا نملك منها فكاكا، مهما رغبنا بذلك.»
نامت ثم استيقظت لتجد الطائرة قد استقرَّت على الأرض، والأمريكي يهزُّها. كانت الساعة الواحدة صباحًا. وكانت مُخدرة، مُثقلة بالتعَب والبرد. وظل الأمريكي إلى جوارها، مرحًا، قادرًا، يُومِض وجهه المُورد العريض بالصحة. ولم يكن من السهل العثور على سيارات أجرة في ذلك الوقت من الليل، فدعاها إلى أن تُشاركه سيارته.
قالت وهي تُحاول أن تجعل صوتها يبدو مرحًا كصوته: «ظننتُ أننا سنلقى حتفنا.» ضحك مُبرزًا كل أسنانه: «أجل. كان الأمر يبدو كذلك. عندما رأيتُ ذلك الرجل يهزُّ كتفَيه بجوار الطائرة قلت لنفسي: يا للهول! لقد حلَّت النهاية. أين تُقيمين؟»
ذكرَتْ له أين تسكن ثم أضافت: «لدَيك مكان تذهب إليه؟» قال: «سأجد لنفسي فندقًا.» قالت: «في هذا الوقت من الليل لن يكون الأمر سهلًا. بودِّي أن أعرض عليك المجيء معي لكني لا أملك سوى حجرتَين ينام ابني في إحداهما.» قال: «هذا جميل منك، كلَّا، لستُ قلقًا.» كان الفجر على أهبة البزوغ، ولم يكن لدَيه مكان للنوم، ومع ذلك كان يتوثَّب حيويةً ويبدو مُنتعشًا كأنه في بداية الليل.
أنزلها أمام منزلها قائلًا إنه يُسعده أن تتناول معه طعام العشاء. تردَّدت ثم وافقت. سيتقابلان إذن في المساء التالي أو على الأصح مساء اليوم نفسه. صعدت إلى مسكنها وهي تُفكر في أنهما لن يجدا حديثًا يتبادلانه وبدأت فكرة الأمسية القادمة تُثير ضجرها. ألفت ابنها نائمًا في حجرةٍ أشبَهَ بكهف حيوانٍ صغير، فقد كانت تنبعث منها رائحة النوم الصحي. سوَّت الأغطية من فوقه، وجلست ترقُب الوجه المتورد الصغير في ضوء الفجر. فكرت: إنه من طرازٍ أمريكي. لكن الأمريكي يُثير نفوري جسديًّا. ومع ذلك لا أكرهه.
مضت إلى فراشها، ولأول مرة منذ ليالٍ كثيرة لم تستجلِب ذكرى بول. كانت تفكر في أربعين شخصًا، اعتبروا أنفسهم في عداد الموتى، يرقدون الآن أحياء في أنحاء مختلفة من المدينة.
أيقظها ابنها بعد ساعتَين مُتوهِّجًا بمفاجأة عودتها. كانت لا تزال في عطلتها لهذا لم تُغادر المنزل إلى المكتب، وقضت اليوم بمفردها تُنظف وتطبخ وتعيد ترتيب المسكن وتلعب مع الصبي عندما عاد من المدرسة. وفي المساء اتصل بها الأمريكي، الذي تبيَّن أنه يُدعى «ساي ميتلاند»، ليسألها عن المكان الذي تُحِب أن تتناول العشاء فيه. ذكرت له اسم مطعم، ثم وضعت جانبًا الرداء الذي اختارته من قبل للمساء. وكان ثوبًا من طراز جريء لم تكن تجرؤ على ارتدائه مع بول، وصارت ترتديه منذ ذلك الحين في تحدٍّ. ارتدت الآن جوبة وبلوزة. وراعت أن تبدو في صحةٍ جيدة وليس كامرأةٍ ذات شخصية.
كان ميشيل جالسًا في فراشه وسط المجلات المصورة: «لماذا تخرُجين وقد عُدتِ للتو من الخارج؟» أجابته مبتسمة: «لأني أودُّ ذلك.» كان يجلس منتصبًا مُتورد الوجنتَين، شديد الثقة بنفسِه وعالمه في هذا المنزل. «لماذا عدلتِ عن الثوب الذي اخترتِه أول الأمر؟» أجابته: «قررتُ أن أرتدي هذا بدلًا منه.» قال ابن التاسعة في عظمة: «يا للنساء وملابسهن!»
وجدت ساي ميتلاند في انتظارها بالمطعم، منتعشًا، مُتوثبًا حيوية، لا يشوب عينَيه الزرقاوَين الصافيتَين أثر من عدَم النوم. شعرت وهي تجلس إلى جواره بالتعب: «ألا يغلبك النعاس أبدًا؟» قال على الفور بلهجة المُنتصر: «لا أنام أكثر من ثلاث أو أربع ساعاتٍ في الليلة.» «لماذا؟» «لأني لن أبلغ ما أريد إذا أضعتُ الوقت في النوم.» قالت: «حدِّثني عن نفسك ثم أحدثك عن نفسي.» قال: «هذا حسَن.» وطلب أكبر قطعة ستيك في المحل مع كوكاكولا وعصير طماطم، وعزف عن البطاطس لأنه يريد أن يفقد جانبًا من وزنه. سألته: «ألا تشرب الخمر أبدًا؟» «أبدًا، عصير الفاكهة فقط.» قالت: «أخشى أنك ستأمر لي بنبيذ.» «بسرور.» وطلب زجاجة من أفضل الأنواع. «الآن إليَّ بقِصة حياتك.»
وُلِد فقيرًا لكنه كان يتميز بالذكاء فحملته المنح الدراسية والجوائز إلى حيث أراد. جرَّاح للمخ، وزواج ممتاز وخمسة أطفال. مركز ومُستقبل عظيمان، قالها بنفسه. وكان زهوه بنفسه بسيطًا طبيعيًّا بالنسبة إليه حتى بدا أبعدَ ما يكون عن الزهو. وسرعان ما انتقلت حيويته إلى إيللا فنسيت أنها مُتعبة. وعندما قال إن الوقت قد حان لتُحَدِّثه عن نفسها، أجَّلت ما أدركتِ الآن أنه سيكون محنة. لسببٍ واحد. فقد خطر لها أن حياتها لا يمكن وصفها بسلسلة مُتتابعة من البيانات: كان أبواي كذا وكذا، عشتُ في هذا المكان وذاك، أعمل كذا وكذا. سبب آخر: أدركت أنها مالت إليه، وأزعجَها هذا الاكتشاف. فعندما وضع يدَه البيضاء الكبيرة على ساعدها، شعرت بنهدَيها يرتفعان وابتلَّ فخذاها. لم يكن بينهما شيء مُشترك، ولم يكن بوسعها أن تتذكَّر مرةً واحدة في حياتها، شعرت فيها باستجابةٍ جسدية لرجل لم يكن قريبًا إليها بصورةٍ ما. كانت تستجيب دائمًا لنظرة، لابتسامة، لنغمة صوت، لضحكة. أما هذا الرجل فلم يكن غير مُتوحِّش ذي صحةٍ جيدة، وها هي ترغب في مشاركته الفراش. شعرت بالضيق، مثلما كان شعورها عندما كان زوجها يُحاول إثارتها على الرغم منها، بالمُداعبات الجسدية، مما انتهى بها إلى البرود.
قال الأمريكي: «لديَّ اقتراح. أمامي نحو عشرين مكالمة هاتفية، وأريد أن أقوم بها من فندقي. تعالَي معي. سأُقدِّم لك شرابًا، وعندما أنتهي من مكالمتي، تُحدثينني عن نفسك.» وافقت ثم تساءلت عما إذا كان سيُفسِّر هذا القبول، بأنه استعداد للذهاب معه إلى الفراش. لم يبدُ عليه شيء من ملامح هذا الشعور. وخطر لها فجأة أنها، على غير عادتها مع الرجال الذين تلتقي بهم في عالَمها، لم يكن بوسعها أن تحدس ما يدور في ذهن هذا الرجل. وإذا كان هذا شأنها، لا بد أنه بالمِثل لا يعرف شيئًا عنها، لا يعرف مثلًا أن حلمتَي ثدييها، في هذه اللحظة، مُلتهِبتان.
في غرفته بالفندق، قدَّم لها كأسًا من الويسكي ثم جذب الهاتف إليه وأجرى، كما ذكر من قبل، نحو عشرين مكالمة، وهي عملية استغرقت نصف ساعة. وسمعته يرتبط بعشرة مواعيد على الأقل في الغد، تضم أربع زيارات لمستشفيات لندن المعروفة. وعندما انتهى أخذ يذرع الغرفة في توثُّب ويهتف: «يا للمجد! أشعر بأني في أحسن حال!»
سألته: «لو لم أكن هنا، ماذا كنت تفعل؟» أجاب: «أعمل.» كان ثمة كوم كبير من المجلات الطبية إلى جوار الفراش. «هل تقرأ شيئًا خارج مجال عملك؟» ضحك وقال: «كلَّا. زوجتي هي التي تهتم بالثقافة. أما أنا فلا وقت لدي.» «حدثني عنها.» فأخرج على الفور صورة لشقراء جميلة ذات وجه طفولي مُحاطة بخمسة أطفال: «يا إلهي! أليست جميلة؟ إنها أجمل فتاة في المدينة كلها!» «أهذا هو سبب زواجك منها؟» «بالطبع» ثم تبين لهجة سؤالها فضحك معها من نفسه وقال وهو يهزُّ رأسه كأنما يَعجب لنفسه: «بالطبع! قلت لنفسي سأتزوَّج أجمل وأرقى فتاة في البلدة وقد فعلت.» سألته: «هل أنت سعيد؟» أجاب على الفور بحماس: «إنها فتاة عظيمة. ولدَينا خمسة أطفال. كنت أودُّ لو كانت لدي طفلة، لكن الأولاد ممتازون. أتمنَّى لو أُتيح لي مزيد من الوقت أقضيه معهم، فعندما أفعل أشعر بالسعادة.»
كانت تفكر: لو وقفت الآن وقلت إني ذاهبة، لوافقني دون أن يحمل أية ضغينة. ربما أراه مرة أخرى. وربما لا. فلن يعبأ أحدُنا. لكن يجب أن أتولى القيادة الآن لأنه لا يعرف ماذا يفعل بي. يجدُر بي الذهاب .. لكن لماذا؟ بالأمس فقط قررتُ أنه مما يدعو للسخرية أن تنطوي جوانح نساء مثلي على عواطف لا تتلاءم مع نوع الحياة التي يعِشْنها. لو رجل في الموقف الراهن، ذلك النوع من الرجال الذي أودُّ أن أكونه لو كنتُ وُلِدتُ رجلًا، فإنه سيأوي إلى الفراش ولا يفكر في الأمر.
كان يقول: «والآن يا إيللا، لقد تحدثتُ عن نفسي، وأشهد أنك تُجيدين الإنصات. لكني لا أعرف شيئًا عنك مطلقًا.»
الآن، فكرت إيللا، الآن.
لكنها ناورت: «هل تعرف أن الوقت تجاوز الثانية عشرة؟»
«كلَّا. أحقًّا؟ أمر سيئ. فلستُ أذهب إلى الفراش قبل الثالثة أو الرابعة وأقوم في السابعة. كل يوم هكذا.»
الآن. المضحك أن يكون الأمر عسيرًا هكذا. أن تقول ما قالته الآن كان ضدَّ أعمق غرائزها، ودُهِشَت عندما خرجَتِ الكلمات من فمِها، كأنما جاءت بوحي من الصدفة في الظاهر، وإن كانت تشي بقليل من التوتر: «أتُحب أن تنام معي؟»
نظر إليها مبتسمًا. لم يُدهَش. كان مُهتمًّا. أجل، فكرت إيللا أنه مُهتم. وأحبَّت هذا فيه. وفجأة دفع رأسه الكبير، المفعم صحة، إلى الوراء وهتف: «يا للهول! أحب؟ أجل يا سيدتي، إيللا. لو لم تقولي هذا ما كنتُ أعرف ماذا أقول.»
قالت: «أعرف.» وابتسمت متظاهرة بالرصانة (كان بإمكانها أن تتمثل ابتسامتها المتحفظة، وتعجبَّت منها). قالت برصانة: «أظن يا سيدي أنك يجب أن تفعل شيئًا الآن.»
ابتسم. كان يقف أمامها، عبر الغرفة. وبدا لها كتلة من اللحم، جسدًا من اللحم الدافئ، الوفير، المفعم بالحيوية. حسنًا جدًّا إذن، هذا ما سيكون. (كانت إيللا قد انفصلت عن إيللا، وانتحت جانبًا، ترقُب وتتعجب).
نهضت واقفة وهي تبتسِم، وشرعت تنزع رداءها بينما خلع هو، مُبتسمًا، سُترته، ثم تجرَّد من قميصه.
في الفراش، كانت صدمة بهيجة من اللحم الدافئ المُتوتر (كانت إيللا تقف جانبًا وهي تفكر بسخرية: حسنًا، حسنًا!) اخترقها على الفور وتلاشى بعد ثوانٍ. وأوشكت أن تُهوِّن عليه، عندما اعتدل فوق ظهره وهو يطوِّح بذراعيه إلى أعلى ويهتف: «يا للمجد!»
(في هذه اللحظة أصبحت إيللا ونفسها شخصًا واحدًا، يفكر كلاهما كواحد).
رقدت إلى جواره مبتسمة وهي تحاول السيطرة على إحباطها الجسدي.
قال: «أوه! يا للمجد! هذا هو ما أُفضِّله. فليس ثمة مشاكل معك.»
فكرت ببطءٍ في معنى عبارته، وذراعاها تُحيطان به. ثم انطلق يتحدث عن زوجته: «هل تعرفين أننا نذهب إلى النادي ونرقص مرَّتين أو ثلاثًا في الأسبوع. إنه أفضل نادٍ في البلدة. ويتطلع إليَّ كل الرجال وهم يفكرون: يا للوغد السعيد! إنها أجمل فتاة هناك، برغم الأطفال الخمسة. إنهم يظنون أننا نقضي وقتًا حافلًا. وكثيرًا ما أفكر: ماذا لو ذكرتُ لهم الحقيقة؟ لدَينا خمسة أطفال. وقد فعلناها خمس مرات منذ زواجنا. حسنًا، إنني أُبالِغ قليلًا، لكن هذا هو الواقع فهي لا تعبأ بهذه المسألة رغم أنها تبدو على عكس ذلك.»
سألت إيللا في رصانة: «ما هي المشكلة؟»
– «ليتني أعرف. قبل الزواج، عندما كنا نتواعد، كانت مُتوقِّدة بما فيه الكفاية. أوه، يا إلهي، عندما أفكر بذلك.»
– «كم استمرت فترة التواعد هذه؟»
– «ثلاث سنوات. ثم استمرت خطبتنا أربعًا أخرى.»
– «ولم تُمارسا الحب خلال ذلك؟»
– «نمارس الحب .. أوه، فهمت. كلَّا، لم تكن لتسمح لي، وما كنتُ لأريدها أن تفعل. لكنها كانت مُلتهبة في ذلك الوقت. ومن شهر العسل تجمَّدَت. والآن لا ألمسها قط. حسنًا، أحيانًا إذا ما أكثرنا الشراب في إحدى الحفلات.» وأطلق ضحكته الفتيَّة القوية وهو يقذف ساقَيه الكبيرتَين الداكنتَين إلى أعلى ثم يتركهما تسقطان: «ونذهب لنرقُص وقد تزيَّنت لتُصرع. وكل الرجال ينظرون إليها ويحسدونني. وأفكر: لو يعرفون!»
– «ألا تعبأ بالأمر؟»
– «يا للجحيم، بالطبع. لكني لن أفرض نفسي على أحد. وهذا هو ما يُعجبني فيك. تقولين: لنذهب إلى الفراش. هذا لطيف وسهل.»
رقدَتْ إلى جواره مُبتسمة. كان جسده الكبير الفائر ينبض بالصحة والرضا. قال: «انتظري قليلًا. سأقوم بجولةٍ أخرى. أظن أني أفتقد شيئًا من المران.»
– «أكانت هناك نساء أخريات؟»
– «أحيانًا، عندما تُتاح لي فرصة. لست أطارد أية واحدة. ليس لدي الوقت.»
– «مشغول بتحقيق أهدافك؟»
– «تمامًا.»
مد يده وأخذ يتحسس نفسه.
– «تُحب أن أفعل أنا ذلك؟»
– «ماذا؟ ألا يسوءكِ هذا؟»
قالت مبتسمة وهي تعتدل على مرفقها: «يسوءني؟»
– «يا للجحيم، زوجتي لا ترضى بلمسي. النساء لا يُحببن ذلك.» وانفجر ضاحكًا مرة أخرى: «لا يسوءكِ الأمر إذن؟»
بعد لحظة شرع وجهه يتغير ويكسوه تعبير من الحسية المتعجبة: «يا للجحيم! يا للمجد!»
قالت أخيرًا: «والآن لا تكن متعجلًا.»
قطب مُفكرًا، وكان بوسعها أن تُدرك أنه يتدبر عبارتها. حسنًا، إنه ليس غبيًّا. لكنها كانت تتساءل عن زوجته وعن النساء الأخريات اللاتي نام معهن. وعندما جاءها كانت تفكر: لم أفعل هذا من قبل أبدًا .. أنا أعطي اللذة. أمر شديد الغرابة، فلم يسبق لي أن استخدمتُ هذا التعبير أو فكرتُ به. مع بول كنتُ أقع في الظلمة وأكفُّ عن التفكير. جوهر الأمر أني واعية، ماهرة، وحريصة: إني أعطي اللذَّة. لا علاقة بين ذلك وما كان بيني وبين بول. لكني في الفراش مع هذا الرجل.
تحرك بسرعة ودون حذق، وللمرة الثانية لم تأت، بينما كان هو يزأر مسرورًا، ويُقبلها هاتفًا: «أوه! يا للمجد!، يا للمجد!»
كانت تفكر: مع بول، كان الأمر سيحدث في هذه اللحظة. إذن أين الخطأ؟ لا تكفي أن أقول إني لا أحب هذا الرجل. وأدركت فجأة أنها لن تأتي أبدًا معه. فكَّرتْ: «بالنسبة إلى أمثالي من النساء، ليس الكمال في العفة والإخلاص، أو أي من تلك الكلمات القديمة. الكمال هو الأورجازم. إنه شيء لا أملك عليه أية سيطرة. ولن يحدث أبدًا مع هذا الرجل. كل ما يسعني هو أن أعطيه اللذة. لكن لماذا؟ ألن أستمتع أبدًا إلا مع من أُحب؟ ما أقسى الصحراء التي أحكم بها على نفسي لو كان هذا صحيحًا!»
كان سعيدًا بها للغاية، كريمًا في التعبير عن تقديره، يشعُّ رضًا وصحة. وكانت هي مسرورة من نفسها؛ لأنها أسعدته.
وعندما ارتدت ملابسها لتنصرِف إلى منزلها، وتلفنت من أجل سيارة أجرة، قال: «تُرى، كيف يكون الزواج من واحدة مثلك .. يا للجحيم!»
قالت في رزانة: «ستُحب ذلك؟»
– «سيكون الأمر .. يا للمجد! امرأة يمكن الحديث إليها، والاستمتاع معها في الفراش أيضًا .. لا يُمكنني أن أتخيل روعة ذلك.»
– «ألا تتحدَّث إلى زوجتك؟»
قال مُترويًا: «إنها فتاة ممتازة. أنا أعزُّها للغاية هي والأطفال.»
– «هل هي سعيدة؟»
فاجأه السؤال، فاعتمد على مرفقه ليتدبر الإجابة. وتطلَّع إليها مقطبًا في جدية. وألفت نفسها تشعر نحوه بمودة بالِغة. جلست على حافة الفراش وهي تتأمَّله في مودة. قال، بعد تفكير: «لديها أفضل منزل في البلدة. وكل ما طلبته من أجل المنزل. ولديها خمسة من الصبية. أعرف أنها ترغب في فتاة، لكن ربما يتحقق هذا المرة القادمة .. وهي تقضي وقتًا طيبًا معي .. فنخرج للرقص مرة أو اثنتين في الأسبوع، وهي دائمًا الألمع والأبرز بين الفتيات أينما ذهبنا. ثم لديها أنا. وأنا أقول لك يا إيللا .. لست أتفاخر (أرى من ابتسامتك أنك تظنين هذا) لكن لديها رجلًا ناجحًا بمعنى الكلمة.»
ورفع صورة زوجته من مكانها إلى جوار الفراش وقال: «هل تبدو امرأة غير سعيدة؟»
نظرت إيللا إلى الوجه الدقيق الجميل وقالت: «كلا.» ثم أضافت: «لم يعُد بوسعي أن أفهم امرأة مثل زوجتك.»
– «فعلًا، لا أظن هذا بإمكانك.»
كانت سيارة الأجرة في الانتظار، فقبَّلته وانصرفت بعد أن قال: «سأتلفن لك غدًا. فلا بد أن أراك ثانية.»
وقضت إيللا المساء التالي معه. ليس بدافع الأمل في أية مُتعة، وإنما بدافع من شعورها بالمودة نحوه. وبالإضافة إلى ذلك، فقد شعرت بأنها لو رفضت لقاءه، فإن ذلك سيؤذي مشاعره.
تناولا العشاء في المطعم نفسه. (قال لها في عاطفية: «مطعمنا يا إيللا.» كما لو كان يقول: «أُغنِيَتنا يا إيللا.»)
تحدَّثا عن عمله.
– «وعندما تجتاز كل الفحوص وتحضر كل المؤتمرات، ماذا بعد ذلك؟»
– «سأرشِّح نفسي لعضوية الكونجرس.»
– «ولِمَ لا تُرشِّح نفسك للرئاسة؟»
ضحك معها، من نفسه، بروح طيبة، كدأبه. «كلَّا، رئيس لا. سيناتور، أجل. أقول لك يا إيللا: انتبهي لاسمي. ستجدينه بعد خسمة عشر عاما على رأس مهنتي. لقد قمتُ بكل ما قلتُ إني سأقوم به حتى الآن، أليس كذلك؟ ولهذا أعرف ما سأفعله في المستقبل. السيناتور ساي ميتلاند .. تُراهنين؟»
– «لست أراهن أبدًا عندما أعلم أني سأخسر.»
كان عائدًا إلى الولايات المتحدة في اليوم التالي بعد أن قابل دستة من كبار الأطباء في مجاله، وشاهد دستة من المستشفيات، واشترك في أربعة مؤتمرات. لقد انتهى من إنجلترا.
قال: «أودُّ لو أذهب إلى روسيا. لكني لا أستطيع، بسبب الأوضاع الراهنة.»
– «تعني مكارثي؟»
– «سمعت عنه إذن؟»
– «أجل، سمعنا عنه.»
– «هؤلاء الروس، إنهم مُتقدمون للغاية في مجالي، أنا أتابع ما يكتبونه، ولستُ أمانع في رحلة، لكن ليس في الظروف الراهنة.»
– «عندما تُصبح في الكونجرس، ماذا سيكون موقفك من مكارثي؟»
– «موقفي؟ أتمزحين؟»
– «أبدًا.»
– «موقفي .. حسنًا، إنه على صواب، فلا يمكن أن نسمح للشيوعيين بالاستيلاء على السلطة.»
تردَّدت ثم قالت برصانة: «المرأة التي تُشاركني المنزل شيوعية.»
شعرت به يتصلَّب، ثم يفكر، وعندئذٍ لان. قال: «أعرف أن الأمور مختلفة هنا. ولست أفهم ذلك.»
– «لا أهمية للأمر.»
– «كلَّا. أتأتين معي إلى الفندق؟»
– «إذا أنت أحببت.»
– «إذا أنا أحببت!»
ومرة أخرى أعطت اللذَّة. كانت تستلطِفه، ولا شيء غير هذا.
تحدَّثا عن عمله. كان مُتخصصًا في جراحة استئصال الجزء المسئول عن الشعور في المخ: «لقد شققتُ مئات الأمخاخ إلى نصفَين!»
– «ولا يُزعِجكَ هذا؛ ما تفعله؟»
– «ولماذا يُزعجني؟»
– «لكنك تعلم عندما تنتهي هذه الجراحة أنها نهائية، وأن أصحابها لن يعودوا أبدًا كما كانوا من قبل.»
– «لكن هذه هي النقطة. فأغلب هؤلاء الناس لا يُريدون أن يعودوا كما كانوا من قبل.» ثم، بدافع من روح الإنصاف التي يتميز بها، أضاف: «أعترف بأني أنزعج أحيانًا لهذه الفكرة.»
قالت إيللا: «لن يوافقك الروس على ما تفعل مطلقًا.»
– «ولهذا لا أمانع في القيام برحلةٍ إلى هناك، لأرى ما يفعلونه بدلًا من هذه الجراحة. قولي لي، كيف عرفت بشأنها؟»
– «كانت لي مرة علاقة عاطفية بطبيب نفسي. وكان مُتخصصًا أيضًا في الأمراض العصبية. لكنه لم يكن جراح مخ. وقد ذكر لي أنه لا يُوصي بتلك الجراحة إلا نادرًا جدًّا.»
قال فجأة: «منذ أن قلتُ لك إني مُتخصِّص في تلك الجراحة لم تعودي تستلطفينني كثيرًا.»
قالت بعد لحظة: «لا. لكن لا حيلة لي في ذلك.»
فضحك وقال: «طيب، أنا أيضًا لا حيلة لي في الأمر.» ثم قال: «تقولين: كانت لي مرة علاقة عاطفية، هكذا ببساطة؟ هل أحببته؟»
لم تكن كلمة الحب قد استُخدِمت بينهما من قبل، ولم يستخدمها عندما تحدث عن زوجته.
قالت: «جدًّا.»
– «ولم ترغبي في الزواج؟»
قالت برصانة: «كل امرأة ترغب في الزواج.»
أطلق عاصفة من الضحك ثم تحول إليها مفكرًا: «أتعرفين أني لا أفهمك؟ لا أفهمك على الإطلاق. لكني أُدرك أنك من النوع المُستقل تمامًا.»
– «أجل، أعتقد كذلك.»
عندئذٍ أحاطها بذراعَيه وقال: «إيللا، لقد علمتِني أشياء.»
– «يسرني هذا. آمُل أن تكون أشياء سارة.»
– «أجل، كانت كذلك أيضًا.»
– «جيد.»
– «أتسخرين مني؟»
– «قليلًا.»
– «لا بأس، فلستُ أبالي. أتعرفين أني ذكرتُ اسمك اليوم لأحد الأشخاص وقال إنك كتبت كتابًا؟»
– «كل إنسان كتب كتابًا.»
– «إذا ذكرتُ لزوجتي أني قابلتُ كاتبة حقيقية، لن تتحمَّل الصدمة، فهي مجنونة بالثقافة وكل هذه الأمور.»
– «ربما يحسن ألا تُخبرها.»
– «ما رأيك لو قرأت كتابك؟»
– «لكنك لا تقرأ كتبًا.»
قال مُداعبًا: «بوسعي أن أفعل: ماذا يتناول؟»
– «.. دعني أرى .. إنه يتحدَّث عن نفاذ البصيرة، والكمال، وعدة أشياء أخرى.»
– «أراك لا تأخُذينه بجدية.»
– «بالطبع آخُذه بجدية.»
– «أوكي إذن. أوكي. لا يمكن أن تكوني ذاهبة؟»
– «يجب أن أنصرف، فسوف يستيقظ ابني بعد أربع ساعات، كما أني، على العكس منك، أحتاج إلى النوم.»
– «حسنًا. لن أنساك أبدًا يا إيللا. إني لأعجب، كيف يكون الزواج منك.»
– «لدي شعور أنك لن تُحب هذا كثيرًا.»
كانت ترتدي ملابسها، بينما رقد هو على الفراش يرقبها مفكرًا. ثم ضحك وبسط ذراعيه: «لعلك على حق.»
قالت: «أجل.»
وافترقا في ودٍّ.
مضت إلى منزلها في سيارة أجرة، وصعدت السُّلَّم في حذَرٍ كي لا تزعج جوليا. لكن الضوء كان يتسلَّل من أسفل بابها، وسرعان ما نادتها: «إيللا؟»
– «أجل. كيف كان ميشيل؟»
– «لم أسمع له صوتًا. كيف كان الأمر معك؟»
أجابت إيللا عامدة: «لا بأس.»
– «لا بأس؟»
ولجت إيللا المخدع. كانت جوليا مكوَّمة فوق الوسائد، تُدخِّن وتقرأ. وتأمَّلت إيللا في إمعان.
قالت إيللا: «كان لطيفًا للغاية.»
– «هذا حسنٌ.»
– «وسأشعر باكتئاب شديد في الصباح. الواقع أني أشعر بذلك من الآن.»
– «لأنه عائد إلى أمريكا؟»
– «لا.»
– «شكلك فظيع. ماذا حدث، ألم يكن موفقًا في الفراش؟»
– «ليس كثيرًا.»
– «أوه. هل لك في سيجارة؟»
– «كلَّا. سأذهب لأنام قبل أن تحلَّ بي الكآبة.»
– «لقد أصابتك بالفعل. لماذا تذهبين إلى الفراش مع رجل لا تميلين إليه؟»
– «لم أقل إني لم أمِلْ إليه. الفكرة أنه لا فائدة من ذهابي إلى الفراش مع أحد غير بول.»
– «سوف تتغلَّبين على ذلك.»
– «أجل، بالطبع. لكن ذلك يستغرق وقتًا طويلًا.»
قالت جوليا: «يجب أن تصمدي.»
قالت إيللا: «هذا ما أنتويه.» وألقت عليها تحية المساء ثم صعدت إلى جناحها.