وقت الباروكة
عندما كانت أمها تحتضر في مستشفى والي، عادت أنيتا إلى ديارها للعناية بها، على الرغم من أنها لم تعد تمارس التمريض. أوقفتها ذات يوم في الممر امرأة قصيرة، عريضة المنكبين، عريضة العجز، شعرها مقصوص بني اللون مائل إلى الرمادي.
قالت هذه المرأة، في ضحكة بدت عدائية ومرتبكة في آن واحد: «سمعت أنك كنت هنا، يا أنيتا … لا تبدين مندهشة هكذا!»
كانت هذه مارجوت، التي لم تكن أنيتا قد رأتها منذ أكثر من ثلاثين عامًا.
قالت مارجوت: «أريدك أن تأتي إلى المنزل … امنحي نفسك بعض الراحة. تعالي إليَّ في أقرب وقت.»
أخذت أنيتا يومًا إجازة وذهبت لتراها. كانت مارجوت وزوجها قد بنيا منزلًا جديدًا يطل على الميناء، في بقعة لم تكن تضم قبل ذلك سوى مجموعة من الأجمات غير المشذَّبة وممرات سرية كان الأطفال يستخدمونها. كان المنزل مشيَّدًا من الطوب الرمادي، وكان عريضًا وخفيضًا. لكنه كان مرتفعًا بما يكفي، مثلما رأت أنيتا، مرتفعًا بما يكفي لإثارة حفيظة البعض عبر الشارع، في المنازل الجميلة التي تبلغ من العمر مائة عام ذات المنظر الآسر.
قالت مارجوت: «اللعنة عليهم … تقدموا بشكوى ضدنا. ذهبوا إلى لجنة التخطيط العمراني.»
لكن استطاع زوج مارجوت جعل لجنة التخطيط تحفظ الشكوى.
أبلى زوج مارجوت بلاءً حسنًا. كانت أنيتا قد سمعت بذلك. كان يمتلك أسطولًا من الحافلات التي كانت تُقل الأطفال إلى المدرسة وكبار السن ليروا عملية التزهير في نياجرا وأوراق الخريف في هاليبرتون. في بعض الأحيان، كانت الحافلات تُقل أعضاء نوادي العزَّاب والذاهبين في عطلات في رحلات تنطوي على مغامرات أكثر، إلى ناشفيل أو لاس فيجاس.
أخذتها مارجوت في جولة في المنزل. كان المطبخ بلون اللوز — ارتكبت أنيتا خطأً، عندما أشارت إلى أنه لون كريمي — مزين بزخارف زرقاء مائلة للخضرة وصفراء بلون الزبد. قالت مارجوت: إن مظهر الخشب الطبيعي هذا لم يعد موضة. لم يدخلا إلى غرفة المعيشة، التي تحتوي على بساط وردي، ومقاعد حريرية مخططة، وكمٍّ كبير من الستائر المزخرفة لونها أخضر فاتح. أعجبتا بالمنزل منذ ولجتا من الباب؛ كل شيء رائع، ظليل، خالٍ من أي عيب. كانت غرفة النوم الرئيسية وحمامها بألوان الأبيض والذهبي والأحمر الفاتح. كان هناك جاكوزي وساونا.
قالت مارجوت: «أنا نفسي لم أكن أفضل استخدام ألوان براقة كهذه، لكن لا يمكنك أن تطلبي من رجل أن ينام في مكان ألوانه باهتة.»
سألتها أنيتا إذا كانت قد فكرت من قبل في الحصول على وظيفة.
طوَّحت مارجوت رأسها إلى الوراء وعلا صوتها بالضحك: «هل تمزحين؟ على أي حال، لدي عمل. انتظري حتى تري الأفواه الكثيرة التي عليَّ أن أُطعمها. هذا فضلًا عن أن هذا المنزل لا يُدار وحده بقوة محرك سحرية.»
تناولت دورقًا من شراب السانجريا من الثلاجة ووضعته على الصينية، مع كأسين من نفس الطاقم. «هل تحبين هذا؟ جيد. سنجلس ونحتسي الشراب معًا في الشرفة.»
كانت مارجوت ترتدي سروالًا قصيرًا أخضر مزخرفًا بالزهور وبلوزةً تتماشى معه. كانت أرجلها سميكة وعليها آثار عروق منتفخة، كان ثمة تجويفات في لحم عضديها، وكان جلدها لونه بنيٌّ، تتناثر عليه الشامات، خشنًا من كثرة التعرض للشمس. سألت في مرح: «كيف لا تزالين نحيفة؟» مررت أصابعها في شعر أنيتا. «كيف لم يبيض شعرك؟ هل تستخدمين أي عقاقير؟ تبدين جميلة.» قالت هذا في غير حسد، كما لو كانت تتحدث إلى شخص أصغر منها، غير مجرِّب، غير متمرِّس.
كان يبدو أن كل عنايتها، كل خيلائها، انصبَّ على المنزل.
•••
نشأت مارجوت وأنيتا في مزارع في آشفيلد تاونشيب. كانت أنيتا تعيش في منزل من الطوب معرض باستمرار لتيارات الهواء، منزل لم يتجدَّد ورق الحائط أو مشمع الأرض فيه لمدة عشرين عامًا، لكن كان هناك موقد في الردهة يمكن أن يُضاء، وكانت تجلس هناك في سلام وراحة لأداء واجباتها المدرسية. كانت مارجوت تؤدي واجباتها المدرسية عادةً جالسةً في السرير الذي كانت تتشاركه مع أختين صغيرتين. كانت أنيتا نادرًا ما تذهب إلى منزل مارجوت، بسبب الزحام والفوضى، والطبع المريع لوالد مارجوت. في إحدى المرات، ذهبت هناك عندما كانوا يستعدون لبيع البط في السوق. كان الريش متناثرًا في كل مكان. كان ثمة ريش في دورق اللبن، وكانت ثمة رائحة مريعة لريش يحترق في الموقد. كانت الدماء موجودة في صورة برك صغيرة على مشمع المائدة، وكانت تتساقط على الأرض.
كانت مارجوت نادرًا ما تذهب إلى بيت أنيتا؛ لأنها — دون أن تقول ذلك صراحةً — لم تكن أم أنيتا توافق على صداقتهما. عندما كانت أم أنيتا تنظر إلى مارجوت، كانت تأتي إلى ذهنها أشياء سيئة؛ الدماء والريش، أنابيب الموقد التي تمرُّ خلال سقف المطبخ، ووالد مارجوت وهو يصرخ قائلًا إنه سيبرِّح مؤخرة أحدهم ضربًا.
لكنهما كانتا تلتقيان كل صباح، تسيران في صعوبة في الثلوج التي كانت تهبُّ من بحيرة هورون، أو تسيران بأكبر سرعة ممكنة في عالم ما قبل الفجر من الحقول البيضاء، المستنقعات الثلجية، السماء الوردية، والنجوم الآفلة والبرد القارس. بعيدًا فيما وراء الثلوج على البحيرة، كانتا تريان شريطًا من المياه، أزرق بلون الحبر أو بلون بيض طائر أبي الحناء الأمريكي، وذلك وفق شدة الضوء. كانتا تحملان إزاء صدريهما الكراسات، والكتب المدرسية، وكراسات الواجبات المنزلية. كانتا ترتديان الجونلات، والبلوزات، والسترات، التي كانتا قد اشترتاها بصعوبة بالغة (في حالة مارجوت، كان ذلك من خلال الحيلة والشجار)، وكانتا تحافظان على هندمة تلك الملابس ببذل جهد كبير. كانت تلك الملابس تحمل شعار مدرسة والي الثانوية، حيث كانتا تذهبان، وكانتا تحييان كلٌّ منهما الأخرى في ارتياح. كانتا تستيقظان في الظلام في غرفات باردة ذات نوافذ بيَّضتها الثلوج، وترتديان ملابس داخلية تحت ملابس النوم، بينما كان غطاء الموقد يصدر أصوات فرقعة في المطبخ، وكان منظِّم الموقد مغلقًا، ويركض الأشقَّاء والشقيقات الأصغر سنًّا لارتداء ملابسهم في عجلة بالأسفل. كانت مارجوت وأمها تتبادلان الأدوار في الخروج إلى الإسطبل لحلب الأبقار وتقليب التبن. كان الأب يعاملهم معاملةً قاسية، وكانت مارجوت تقول إنها كانت تعتقد أن أباها مريض إذا لم يضرب أحدهم قبل الإفطار. تعتبر أنيتا نفسها محظوظة؛ حيث إن لديها إخوة يتولَّون أعمال الإسطبل ووالدًا لا يضرب عادةً أحدًا. لكنها كانت لا تزال تشعر — في صباح تلك الأيام — كما لو كانت تخوض في مياه داكنة عميقة.
كانتا تقولان إحداهما للأخرى، وهما تتصارعان في اتجاه المتجر على الطريق السريع، والذي هو عبارة عن ملاذ متهالك: «أتفكرين في تناول بعض القهوة؟» كان الشاي القوي، الأسود المنقوع على الطريقة الريفية، هو المشروب المفضل في كلا المنزلين.
كانت تيريسا جولت تفتح المتجر قبل الساعة الثامنة، حتى تُدخلهما. عند التصاقهما بالباب، كانتا تريان أضواء الفلوريسنت نحوهما، الأنوار الزرقاء تندفع من أطراف الصمامات المفرغة، ترتعش، ثم تتوقف، ثم تشعُّ بضوء أبيض. كانت تيريسا تأتي باسمةً كمضيفة، تحوم حول ماكينة الدفع النقدي، مرتديةً حُلة حمراء مبطَّنة من الستان، ضيقة عند الرقبة، كما لو كان ذلك سيحميها من الهواء المتجمِّد عندما فتحت الباب. كان حاجباها سوداوين على هيئة جناحين مخطوطين بالقلم، وكانت تستخدم قلمًا آخر — أحمر — لرسم فمها. كانت الانحناءة في الشَّفَة العليا تبدو وكأنها مقصوصة بمقص.
يا لها من راحة، ويا له من حبور، حينئذ، أن يدخلا هناك، إلى الضوء، يشما رائحة السخان الزيتي ويضعا الكتب على الطاولة ويخرجا أيديهما من القفازات ويحكَّانهما من الألم. ثم، كانتا تنحنيان وتحكَّان أرجلهما؛ الجزء العاري الصغير منه الذي كان نملًا ويكاد يتجمد. لم تكونا ترتديان جوارب طويلة؛ لأن ذلك لم يكن موضة في تلك الأيام. كانتا ترتديان جوارب قصيرة تغطي الكاحل فقط داخل أحذيتهما طويلة العنق (كانتا تتركان أحذيتهما الخفيضة في المدرسة). كانت جونلاتهما طويلة — كان ذلك شتاء ١٩٤٨-١٩٤٩ — لكن كان هناك جزء من الأرجل غير مغطًّى. كانت بعض الفتيات الريفيات يرتدين الجوارب الطويلة تحت جواربهن القصيرة. كانت بعضهن يرتدين بنطال تزلج مرفوعًا في غير أناقة تحت جونلاتهن. لم تكن مارجوت أو أنيتا لتفعلا ذلك قط. كانتا ستخاطران بالتجمد بدلًا من السخرية منهما لارتداء مثل هذه البدع الريفية.
كانت تيريسا تحضر لهما أقداحًا من القهوة، قهوة سوداء ساخنة، مسكرة جدًّا، وقوية. كانت تتعجَّب من شجاعتهما. كانت تلمس بأصبعها خدودهما أو أيديهما وتطلق صرخة وترتعد. «مثل الثلج! مثل الثلج!» بالنسبة إليها، كان من المثير للدهشة أن يخرج أحد في الشتاء الكندي، فضلًا عن السير ميلًا كاملًا في شتاء كهذا. كان ما تفعلانه يوميًّا للذهاب إلى المدرسة يجعلهما تبدوان في عينها كبطلتين وغريبتين، وشاذتين بعض الشيء.
كان الأمر يبدو على هذا النحو لأنهما كانتا فتاتين. كانت تريد أن تعرف ما إذا كان خروجهما في هذا البرد القارس يؤثِّر على دورتهما الشهرية. كانت تقول لهما نصًّا: «ألا يؤدي ذلك إلى تجميد البويضات؟» فهمت مارجوت وأنيتا المقصود، وقررتا — بعد ذلك — ألا تقوما بما تفعلانه حتى لا تتعرضا لمشكلات صحية من هذا النوع. لم تكن تيريسا سوقية، كانت فقط أجنبية. كان رويل قد التقاها وتزوَّجها في الخارج — في إقليم الألزاس واللورين — وبعد أن عاد إلى بلاده تبعته على السفينة مع جميع عرائس الحرب الأخريات. كان رويل يقود الحافلة المدرسية، هذا العام عندما كانت مارجوت وأنيتا في السابعة عشرة من عمرهما وفي الصف الثاني عشر. كان بداية الخط هنا عند المتجر ومحطة الوقود التي كان آل جولت اشتروها على طريق كنكاردين السريع، على مقربة من البحيرة.
أخبرتهما تيريسا عن مرَّتيْ إجهاضها. حدثت الأولى في والي، قبل أن ينتقلا إلى هنا وقبل أن يمتلكا سيارة. حملها رويل بين ذراعيه وذهب بها إلى المستشفى. (تسببت فكرة حملها بين ذراعيْ رويل في حدوث نوع من الإثارة في جسد أنيتا، كانت على استعداد لتحمل الألم الذي قالت تيريسا إنها كانت تشعر به حتى تجربها.) حدثت المرة الثانية هنا في المتجر. لم يستطع رويل — الذي كان يعمل في الجراج — أن يسمع صرخاتها الخافتة أثناء تمددها على الأرض غارقة في دمائها. جاء زبون ووجدها. قالت تيريسا: أشكر الرب على أنه منحني رويل. لم يكن رويل سيسامح نفسه. كان جفناها يطرفان، ونظرت إلى أسفل في خشوع، عندما كانت تشير إلى رويل وإلى علاقتهما الحميمة معًا.
بينما كانت تيريسا تتحدث، كان رويل يدخل ويخرج من المتجر. خرج وأدار محرك الحافلة، ثم تركه حتى يسخن، وعاد إلى سكنهما، دون تحية أي منهما، أو حتى الرد على تيريسا، التي قاطعت حديثها لتسأل عما إذا كان قد نسي سجائره، أو عما إذا كان يريد المزيد من قهوة، أو ربما ما إذا كان يجب أن يرتدي قفازًا يعطيه تدفئة أكثر. ضرب الأرض بحذائه ليزيل الثلج العالق به بطريقة كانت بمثابة إعلان عن وجوده أكثر من كونها محاولة لحفاظه على نظافة الأرضية. جلب جسده الطويل، واسع الخطوة تيارًا من الهواء البارد خلفه، وكان ذيل سترته الفرو الطويلة المفتوحة يُسقط عادةً شيئًا؛ عبوات الجيلي أو عبوات الذرة، التي كانت تيريسا قد رتبتها بطريقة جذابة. لم يستدر لينظر ماذا سقط.
قالت تيريسا إن عمرها ثمانية وعشرون، نفس عمر رويل. كان الجميع يعتقد أنها أكبر سنًّا منه؛ أكبر سنًّا بعشر سنوات. تفحَّصت مارجوت وأنيتا تيريسا عن قرب وقررتا أن جلدها يبدو ملفوحًا. هناك شيء ما حيال جلدها، خاصةً عند حدود شعرها وحول فمها وعينيها، يجعل المرء يتصوَّر وكأنها فطيرة تُركت وقتًا أكثر مما ينبغي في الفرن، ما جعلها لا تحترق بل تبدو في لون بني داكن حول حوافها. كان شعرها خفيفًا، كما لو كان قد تأثَّر بنوبة الجفاف أو الحمى نفسها، وكان شديد السواد؛ كانتا متأكدتين من صبغها إياه. كانت قصيرة، عظامها صغيرة، معصماها وقدماها صغيرة، لكن بدا جسدها منفوخًا تحت منطقة الخصر، كما لو كان لم يتعافَ بعد من مرَّتيْ الحمل القصيرتين، المريعتين. كانت رائحتها مثل رائحة شيء مسكر مطبوخ؛ مربى متبلة.
كانت تسألهما عن أي شيء، مثلما كانت تخبرهما عن أي شيء. سألت مارجوت وأنيتا إذا كانتا بدأتا في مواعدة الأولاد أم لا.
«أوه، لم لا؟ أيمانع والداكما في ذلك؟ بدأت في الانجذاب إلى الأولاد بمجرد بلوغي الرابعة عشرة، لكن والدي كان يمنعني من الخروج معهم. كانوا يأتون ويطلقون صفيرًا تحت نافذتي، كان يطردهم بعيدًا. يجب أن تهذِّبا حواجبكما، أنتما الاثنتان. سيجعلكما ذلك تبدوان أجمل. يحب الأولاد الفتيات اللاتي تعتنين بمظهرهنَّ. هذا شيء لا أنساه أبدًا. عندما كنت في السفينة التي كانت تعبر المحيط الأطلنطي مع الزوجات الأخريات، كنت أقضي كل وقتي أُعد نفسي لزوجي. بعض تلك الزوجات كنَّ يكتفينَ بالجلوس ولعب الورق. لكن ليس أنا! كنت أغسل شعري وأضع زيتًا جميلًا لترطيب بشرتي، وكنت أحك قدميَّ بشدة بالحجر حتى أُزيل الأجزاء الخشنة منهما. نسيت ما يطلقون عليها، الأجزاء الخشنة في جلد القدمين، وكنت أطلي أظافري وأهذِّب حواجبي وأعتني بنفسي حتى أبدو مثل جائزة لزوجي الذي كان سيقابلني في هاليفاكس. بينما كانت تلك الأخريات تكتفين بالجلوس ولعب الورق والنميمة بعضهن مع بعض.»
كانا قد سمعا قصة مختلفة عن إجهاض تيريسا الثاني. كانا قد سمعا أن الإجهاض حدث لأن رويل أخبرها أنه سئم منها، وكان يريد منها أن تعود إلى أوروبا، وفي قمة إحباطها ألقت بنفسها على مائدة مما أدى إلى إجهاض الطفل.
•••
في الطرق الجانبية وعند بوابات المزرعة، كان رويل يقف ليُقل الطلاب المنتظرين، الذين كانوا يدقون بأقدامهم الأرض ليتدفئوا، أو كانوا يتشاجرون في أكوام الثلوج. كانت مارجوت وأنيتا الفتاتين الوحيدتين في عمرهما اللتين كانتا تستقلان الحافلة تلك السنة. كان معظم الطلاب الآخرين من الصبية في الصفين التاسع والعاشر. ورغم أنه كان من الصعب التعامل معهم، كان رويل يسيطر على الطلاب حتى عندما كانوا لا يزالون يصعدون سلالم الحافلة.
«توقفوا عن ذلك. أسرعوا. هيا اصعدوا للداخل إذا كنتم تريدون الصعود.»
وإذا كان ثمة بداية أي شجار على متن الحافلة؛ أي صراخ أو اشتباكات أو لكمات، أو حتى أي حركة من مقعد إلى آخر أو ضحك كثير وحديث بصوت عالٍ، كان رويل يصيح في الصبية قائلًا: «تهذَّب وإلا سأجعلك تذهب سيرًا على الأقدام للمدرسة! نعم، أنت هناك، أعنيك أنت!» في إحدى المرات، طرد أحد الصبية من الحافلة؛ لأنه كان يدخن، على مسافة أميال من والي. كان رويل نفسه يدخن طوال الوقت. كان يضع غطاء دورق مايونيز على لوحة القيادة لاستخدامه كطفاية. لم يعارضه أحد — قط — في أي شيء كان يفعله. كان طبعه معروفًا. كان الجميع يعتقد أن طبعه يتماشى بصورة طبيعية مع شعره الأحمر.
كان الناس يقولون إنه يمتلك شعرًا أحمر، لكن لاحظت مارجوت وأنيتا أن شاربه والشعر فوق أذنيه فقط كان أحمر. أما لون باقي شعره، الشعر الآخذ في الانحسار من صدغيه فقط، والثقيل والمتموج في باقي المواضع، خاصةً في الخلف — الذي كان الجزء الذي يرونه أكثر — فكان أسود مائلًا إلى الاصفرار مثل فروة ثعلب كانا قد رأياه في صباح أحد الأيام يعبر الطريق الأبيض. وكان شعر حاجبيه الكثَّيْنِ، والشعر بطول ذراعيه وعلى ظهر يديه، باهتًا أكثر، وإن كان يلمع عند سقوط أي ضوء عليه. كيف استطاع شاربه الاحتفاظ بحمرته؟ تحدثتا عن ذلك. تحدثتا باستفاضة، في هدوء، عن كل شيء عنه. هل كان وسيمًا أم لا؟ كان جلده متوردًا وبه بقع، وله جبهة مرتفعة، لامعة، وعينان فاتحتا اللون كانتا تبدوان شرستين، غير مكترثتين. قررتا في نهاية المطاف أنه لا يبدو وسيمًا. غريب الشكل، في حقيقة الأمر.
لكن عندما كانت أنيتا قريبة منه كان ينتابها شعور بالاستثارة المحدودة عبر سطح جلدها. كان شيئًا يشبه بداية عطسة بعيدة. كان هذا الشعور يبلغ ذروته عندما كانت تغادر الحافلة وكان هو يقف إلى جانب السلالم. كان الشعور بالتوتر ينتقل بسرعة من مقدمتها إلى ظهرها عندما كانت تمرُّ بجانبه. لم تتحدث عن ذلك قط إلى مارجوت، التي بدا ازدراؤها للرجال أكثر مما كان. كانت أم مارجوت ترتعد من مضاجعة زوجها مثلما كان الأطفال يرتعدون من صفعاته وركلاته، ونامت ذات ليلة طوال الليل في صومعة الغلال، محكمةً غلق الأبواب، لتجنب المضاجعة. كانت مارجوت تُطلق على المضاجعة «الاتصال». كانت تتحدث في نبرة استخفاف عن «اتصال» تيريسا برويل. في المقابل، كان قد جال بخاطر أنيتا أن ازدراء مارجوت هذا في حد ذاته، مشاكستها واحتقارها، ربما يكون هو الشيء نفسه الذي يجده الرجال جذابًا. ربما تكون مارجوت جذَّابة بطريقة ما لا تبدو هي جذابة بها. لا يتعلق الأمر بالجمال. كانت أنيتا تظن أنها أجمل منها، على الرغم أن تيريسا لم تكن ستمنح أيًّا منهما درجات مرتفعة في مسألة الجمال هذه. كان الأمر يتعلق بتغنج جريء كانت مارجوت تبديه في بعض الأحيان من خلال حركتها، من خلال عرض أردافها الكبيرة والانحناء النسائي لبطنها، ونظرة ما كانت تمر في عينيها البُنِّيَّتين الكبيرتين، نظرة متحدية وعاجزة في آن، لا تتوافق على الإطلاق مع أي شيء كانت أنيتا قد سمعتها تقوله.
بحلول الوقت الذي وصلتا فيه إلى والي، كان اليوم قد بدأ. لا يُمكن رؤية أي نجمة في السماء، أو أي إشارة إلى سماء وردية. كانت المدينة — بأبنيتها، وشوارعها، وأنشطتها الروتينية المتداخلة — مشيدة مثل ثكنة عسكرية في مواجهة العالم العاصف أو المتجمِّد اللتين استيقظتا فيه. بالطبع، كان منزلاهما، أيضًا، بمثابة ثكنتين، وهكذا كان المتجر، غير أن كل ذلك كان لا يُقارن بالمدينة. كانت بمثابة مربع سكني داخل المدينة، كان الأمر كما لو كان الريف غير موجود. الأكوام الهائلة من الثلوج في الطرقات والرياح الشديدة التي تهب عبر الأشجار وتسقط أوراقها، لم يكن ذلك موجودًا. في المدينة، كان على المرء التصرف كما لو كان يعيش في المدينة دومًا. كان طلاب المدينة، يملئون الشوارع الآن حول المدرسة الثانوية، يعيشون حياة تتسم بالامتيازات واليسر. كانوا يستيقظون في الساعة الثامنة في منازل ذات غرف النوم المدفأة والحمامات. (لم يكن الأمر هكذا دومًا، لكن كانت مارجوت وأنيتا تعتقدان أن الأمر كان كذلك.) لم يكن من المفترض أن يعرفوا اسمك. لكن كان من المفترض أن تعرف أسماءهم، وهكذا كان الأمر.
كانت المدرسة الثانوية مثل حصن، بنوافذها الضيقة وأسوارها المزخرفة من الطوب داكن الحمرة، سلالمها الطويلة وأبوابها المخيفة، والكلمات اللاتينية المنقوشة على الحجر التي كانت تعني «العلم والفضيلة». عندما كانتا تدخلان عبر هذه الأبواب، في حوالي الساعة التاسعة إلا الربع، كانتا قد قطعتا مسافة طويلة من منزليهما، وكان المنزل وجميع مراحل الرحلة التي تقطعانها تبدو غير معقولة. كان تأثير القهوة الذي تناولتاه قد ذهب. غلبهما تثاؤب عصبي، تحت الأضواء الباهرة في قاعة الاجتماع. كان في الانتظار متطلبات اليوم من حصص اللغة اللاتينية، واللغة الإنجليزية، والهندسة، والكيمياء، والتاريخ، واللغة الفرنسية، والجغرافيا، والتربية البدنية. كانت الأجراس تدق في الساعة العاشرة تمامًا، معلنة عن راحة قصيرة. في الأدوار العليا، وفي الأدوار السفلى، كانتا تشقان طريقهما في توتر، ممسكتين بكتبهما وزجاجات الحبر تحت المصابيح المعلقة وصور العائلة الملكية والمعلمين المتوفين. كان للكسوة الخشبية للجدران، التي يجري تلميعها كل صيف، لمعان ساطع مثلما في نظارة مدير المدرسة. كان الإحساس بالعار وشيكًا. كانت معدتاهما تضطربان وتنذران بإصدار أصوات زمجرة مع مرور الصباح. كانتا تخشيان من العرق تحت أذرعهما والدماء في جونلاتهما. كانتا ترتعدان عند حضور صفوف اللغة الإنجليزية أو الهندسة، لا لأنهما كانتا لا تبلوان بلاءً حسنًا فيها (كانتا في حقيقة الأمر تبلوان بلاءً عظيمًا في كل شيء تقريبًا)، بل لخشيتهما من أن يُطلب منهما النهوض وقراءة شيء ما؛ تسميع قصيدة أو حل إحدى المسائل على السبورة أمام الصف. «أمام الصف»، كانت هاتان كلمتين مرعبتين بالنسبة إليهما.
ثم، ثلاث مرات أسبوعيًّا، كانت هناك حصص تربية بدنية؛ مشكلة حقيقية بالنسبة إلى مارجوت، التي لم تستطع الحصول على مال من أبيها لشراء بدلة رياضية. كانت تضطر إلى القول إنها نسيت بدلتها في المنزل، أو تقترض بدلة من إحدى الفتيات التي تم إعفاؤها من الحصة. لكن بمجرد أن ترتدي البدلة، كانت تمارس بعض التمارين الإحمائية وتجري حول قاعة التمرين، مستمتعة بوقتها، تصرخ لتمرير كرة السلة إليها، بينما كانت أنيتا غير منتبهة بسبب حرصها على ما يبدو عليه شكلها حتى إنها تلقت الكرة ذات مرة في رأسها.
كانت هناك أوقات أفضل تستمتعان بها خلال هذه الفترة. خلال وقت الظهيرة، كانتا تسيران إلى وسط المدينة وتنظران عبر واجهات متجر مفروش بطريقة جميلة، كان يبيع ملابس الزفاف والسهرة فقط. كانت أنيتا تخطِّط لإقامة زفافها في الربيع، حفل زفاف ترتدي وصيفات العروس فيه فساتين حريرية بلون وردي وأخضر وجونلات فوقية من الأورجانزا البيضاء. كانت مارجوت تأمل أن يكون زفافها في الخريف، كانت وصيفات العروس سيرتدين فيه فساتين من القطيفة ذات اللون المشمشي. في متجر وولورثز، كانتا تنظران إلى المعروض من أحمر الشفاه والأقراط. هرعتا إلى داخل الصيدلية ورشَّتا أنفسهما بعينة عطر. إذا كان لديهما أي مال لشراء بعض الحاجيات الضرورية لوالدتيهما، كانتا تنفقان بعض الفكة على شراء الصودا بطعم الكريز أو حلوى الطوفي الإسفنجية. لم تشعرا قط بتعاسة بالغة؛ لأنهما كانتا تعتقدان أن شيئًا مميزًا سيحدث لهما. ربما تصيران بطلتين؛ حب وسلطة من نوع ما كانا في انتظارهما بكل تأكيد.
•••
كانت تريسا تستقبلهما، عندما كانتا تعودان إليها، بالقهوة، أو الشوكولاتة الساخنة المحلاة بالكريمة. كانت تبحث في إحدى عبوات الحلوى في المتجر وتعطيهما الحلوى المحشوة بالتين أو قطع المارشميلو المُحلاة بجوز الهند الملون. كانت تلقي نظرة على كتبهما وتسألهما عن واجباتهما المنزلية. مهما تقولان، كانت هي، أيضًا، درسته. في كل صف كانت فيه، كانت دومًا نجمة.
«الإنجليزية؛ درجات ممتازة في الإنجليزية! لكنني لم أعرف وقتها أنني سأغرم بأحد وسآتي إلى كندا. كندا! أعتقد أن الدببة القطبية فقط هي التي تعيش في كندا!»
لم يكن رويل يدخل. كان يعبث بشيء في الحافلة أو الجراج. كان مزاجه عادةً طيبًا عندما كانتا تستقلَّان الحافلة. كان ينادي قائلًا: «ليصعد كل من يريد الصعود! أحكموا ربط أحزمة المقاعد! تأكدوا من وضع أقنعة الأكسجين! اتلوا صلواتكم! سنسلك الطريق السريع!» ثم كان يغنِّي لنفسه، وسط ضجيج صوت الحافلة، عند الخروج من المدينة. قرب المنزل، كان مزاج الصباح يغلب عليه، المزاج الذي يتميَّز بالتحفُّظ وازدراء غير واضح. ربما يقول: «ها أنتما، أيتها السيدتان — نهاية يوم عظيم.» عند نزولهما من الحافلة. أو ربما لا يقول أي شيء. لكن كانت تريسا لا تتوقف عن الثرثرة بالداخل. كانت قصص أيام المدرسة التي كانت تحكيها تفضي إلى حكي مغامرات فترة الحرب: جندي ألماني يختبئ في الحديقة، قدَّمت له بعضًا من حساء الكرنب؛ ثم وصل أول أمريكيين رأتهم — كانوا من السود — على متن دبابات، خلَّفوا انطباعًا مضحكًا ومدهشًا بأن الدبابات والرجال على متنها كانوا جميعًا كأنهم شيء واحد. ثم تحدثت عن فستان زفافها أيام الحرب الذي كان قد صُنع من مفرش مائدة أمها المطرز. ورود وردية موضوعة في شعرها. لسوء الحظ، جرى تمزيق الفستان إلى خرق لاستخدامه في الجراج. كيف كان لرويل أن يعرف أهمية هذا المفرش؟
في بعض الأحيان، تكون تيريسا منخرطة في محادثة مع أحد الزبائن. لا تقدم حلوى أو مشروبات ساخنة آنذاك؛ كان كل ما تحصلان عليه منها هو تلويحًا بيدها، كما لو كانت محمولة في عربة احتفالية تجوب الأنحاء. وكانتا تسمعان أجزاءً من القصص ذاتها؛ الجندي الألماني، الأمريكيين السود، جندي ألماني آخر تمزَّق إربًا، رجله في حذائه عالي الرقبة عند باب الكنيسة، حيث ظلت هناك، كل من يمر من هناك ينظر إليها. العرائس على متن السفينة. دهشة تيريسا لطول الوقت الذي استُغرِق للوصول من هاليفاكس إلى هنا على متن القطار. مرَّتي الإجهاض.
سمعها تقول: إن رويل كان يخشى عليها أن تحمل طفلًا آخر.
«لذا يستخدم الآن دومًا واقيات ذكورية.»
كان هناك أشخاص يقولون إنهم لن يذهبوا إلى ذلك المتجر مجددًا؛ حيث إن المرء لا يعرف أبدًا ماذا سيسمع هناك، أو متى سيخرج منه.
في جميع الأوقات — اللهم إلا في أوقات الطقس السيئ — كانت مارجوت وأنيتا تمضيان الوقت بطريقة متمهلة قبل الوصول للمكان الذي يجب أن تفترقا عنده. كانتا تطيلان اليوم أكثر فأكثر، تتحدثان. في أي موضوع. هل كان مدرس الجغرافيا سيبدو أجمل بالشارب أم بدونه؟ هل لا تزال تريسا ورويل يتضاجعان، مثلما أشارت تريسا ضمنًا؟ كانتا تتحدثان في يسر بالغ وبلا نهاية حتى بدا أنهما تحدثتا في كل شيء. لكن كانت هناك أشياء أخفتاها.
أخفت أنيتا طموحين لها، لن تفصح عنهما لأي أحد. كان أحد طموحاتها — وهو أن تصبح عالمة آثار — في غاية الغرابة، والطموح الآخر — أن تصبح عارضة أزياء — في غاية الغرور. أفصحت مارجوت عن طموحها، وهو أن تصبح ممرضة. لا يحتاج المرء إلى أي مال للدخول في مجال التمريض — ليس مثل الجامعة — وبمجرد التخرج، يستطيع المرء الذهاب إلى أي مكان والحصول على وظيفة؛ مدينة نيويورك، هاواي. يستطيع المرء الذهاب إلى أبعد الأماكن التي يريد الذهاب إليها.
كان الشيء الذي احتفظت به مارجوت سرًّا، هكذا حدثت أنيتا نفسها، هو كيف يكون الحال في المنزل، مع والدها. وفق أنيتا، كان الأمر بمثابة فيلم كوميدي. كان والدها عصبيًّا دومًا، ممثلًا كوميديًّا سيئ الحظ، يسعى في كل مكان بلا طائل (وراء الأسطول، ساخرةً من مارجوت)، ويقرع الأبواب المؤصدة (صومعة الغلال)، ويطلق صرخات تهديد مريعة، ويمسك بأي سلاح كان في متناوله ليضرب به؛ مقعد أو فأس أو قطعة من حطب الوقود. زلَّت قدمه ذات مرة واختلطت لعناته واتهاماته. ومهما فعل، كانت مارجوت تضحك. كانت تضحك عليه، تحتقره، كانت تحتاط لما سيفعل. لم تذرف دمعة قط، أو تصرخ رعبًا. ليست كأمها. هكذا قالت.
•••
بعد أن تخرجت أنيتا كممرضة، ذهبت إلى العمل في يوكن. وهناك التقت وتزوجت طبيبًا. كان من المفترض أن يكون هذا نهاية قصتها، نهاية طيبة، مثلما يجري النظر إلى الأمور في والي. لكنها انفصلت عن زوجها، وواصلت حياتها. عادت إلى العمل مرة أخرى، وادخرت بعض المال، والتحقت بجامعة كولومبيا البريطانية، حيث درست الأنثروبولوجيا. عندما عادت إلى ديارها للعناية بأمها، كانت قد حصلت لتوها على درجة الدكتوراه. ولم تنجب أي أطفال.
سألت مارجوت: «إذن، ماذا ستفعلين، بعد أن فرغت من كل هذا؟»
كان الأشخاص الذين أيدوا المسار الذي اتخذته أنيتا في حياتها يقولون لها ذلك عادةً. كانت أية امرأة عجوز تقول لها عادةً: «أحسنت صنعًا!» أو «كنت أتمنى أن تتوفر لدي القدرة لعمل ذلك، عندما كنت صغيرة بما يكفي في السن، حتى أصنع فرقًا في حياتي.» كان التأييد يأتي في بعض الأحيان من جهات غير متوقعة. بالطبع، لم يكن الجميع يؤيد أنيتا. لم تكن والدة أنيتا تؤيدها، ولهذا السبب، لسنوات عديدة، لم تكن أنيتا تعود إلى المنزل. حتى في حالة المرض الشديد والهذيان هذه التي تمر بها أمها، فقد تمكنت من التعرف عليها، واستجمعت قوتها لتقول لها: «ضاعت هباءً.»
انحنت أنيتا أكثر.
قالت أمها: «الحياة ضاعت هباءً.»
لكن في مرة أخرى، بعد أن عالجت أنيتا تقرحاتها، قالت: «أنا مسرورة جدًّا. مسرورة جدًّا أن يكون لدي ابنة.»
لم يبدُ أن مارجوت كانت تؤيِّد أو تعارض ذلك. بدت متحيرة، في تبلد. بدأت أنيتا في الحديث إليها عن بعض الأشياء التي ربما تفعلها، لكن كان يجري دومًا قطع حديثهما. كان أبناء مارجوت قد جاءوا، مصطحبين أصدقاء معهم. كان أبناؤها طوال القامة، شعرهم متدرج في حمرته. كان اثنان منهما في المدرسة الثانوية، وكان أحدهم عائدًا من الجامعة. كان هناك ابن أكبر، متزوج ويعيش في الغرب. كانت مارجوت جدة. تحدث أبناؤها معها بأصوات مرتفعة عن أماكن وضع ملابسهم، وعن الطعام، والجعة، والمشروبات الغازية الموجودة في المنزل، وعن أي السيارات ستخرج، وفي أي وقت. ثم ذهب جميعهم للسباحة في المسبح إلى جوار المنزل، ونادت مارجوت فيهم: «لا يذهبنَّ أحدكم إلى ذلك المسبح واضعًا مستحضر الوقاية من الشمس!»
أجابها أحد الأبناء قائلًا في ضجر وصبر كبيرين: «لم يضعه أحد.»
أجابت مارجوت: «حسنًا، وضعه أحدكم بالأمس، وذهب إلى المسبح، أنا متأكدة تمامًا … لذا، أعتقد أن أحدكم قد جاء متسللًا من الشاطئ، أليس كذلك؟»
وصلت ابنتها ديبي إلى المنزل قادمةً من درس الرقص وعرضت عليهم الزي الذي كانت سترتديه عندما ستقدم مدرسة الرقص عرضًا في المركز التجاري. كانت ستجسِّد شخصية يعسوب. كانت تبلغ عشرة أعوام، شعرها بني، ممتلئة الجسد مثل مارجوت.
قالت مارجوت: «أيها اليعسوب القوي الجميل.» وهي تتأرجح في مقعد الشرفة. لم تثر ابنتها الطاقة الجدالية التي أثارها أبناؤها الآخرون فيها. حاولت ديبي أن تتناول رشفة من السانجريا، غير أن مارجوت ربتت على كتفها لتنصرف.
قالت: «هيا اذهبي واجلبي لنفسك شرابًا من الثلاجة … اسمعي. هذا حديث ودي. حسنًا؟ لماذا لا تهاتفين روزالي؟»
ذهبت ديبي، وهي تشتكي بصورة تلقائية. «أتمنى ألا أجد ليمونًا ورديًّا. لماذا تصنعين دومًا ليمونًا ورديًّا؟»
نهضت مارجوت وأغلقت الأبواب الجرارة في المطبخ. قالت: «هدوء … اشربي. سأجلب بعض السندويتشات بعد فترة.»
•••
يأتي الربيع في هذا الجزء من أونتاريو في عجلة. يتكسَّر الثلج إلى قطع مطحونة، متلاطمة على أسطح الأنهار وبحذاء شاطئ البحيرة؛ ينزلق تحت الماء في البركة ويحوِّل لون المياه إلى اللون الأخضر. يذوب الجليد وتفيض الجداول، وفي وقت قصير جدًّا يأتي يوم يدفئ الطقس؛ فيفتح المرء معطفه ويضع وشاحه وقفازه في جيوبه. لا تزال هناك ثلوج في الغابات عندما يخرج الذباب الأسود ويظهر قمح الربيع.
لم تكن تيريسا تحب الربيع أكثر من الشتاء. كانت البحيرة أكبر مما ينبغي، والحقول أكثر اتساعًا مما ينبغي، وحركة المرور سريعة أكثر مما ينبغي على الطريق السريع. أما وقد صار الصباح أكثر دفئًا، لم تعد مارجوت وأنيتا في حاجة إلى المتجر. سأمتا من تيريسا. قرأت أنيتا في إحدى المجلات أن القهوة تغير من لون الجلد. تحدثتا عما إذا كانت عمليات الإجهاض قد تتسبب في تغييرات كيمائية في الدماغ. كانتا واقفتين خارج المتجر، تتساءلان عما إذا كان يجب عليهما الدخول، تأدُّبًا. أتت تيريسا إلى الباب ولوَّحت لهما. لوحتا في المقابل بتحريك أيديهما قليلًا على نحو ما يلوِّح رويل كل صباح؛ رافعًا يدًا واحدة فقط من عجلة القيادة في اللحظة الأخيرة قبل أن ينحرف بالحافلة إلى الطريق السريع.
كان رويل يغني في الحافلة في عصر أحد الأيام بعد أن أوصل جميع من كان في الحافلة. كان يغني: «كان يعلم أن العالم مستدير … امممم، ويمكنه أن يعثر عليها.»
كان يغني كلمة في السطر الثاني بطريقة خافتة جدًّا بحيث لم يتمكنا من سماعها. كان يفعل ذلك عمدًا، مغيظًا الجميع. ثم، ردد ما كان يغني ثانيةً، بصوت مرتفع وواضح بحيث لم يكن يصعب تمييز ما يقول.
لم تنظر أي منهما إلى الأخرى أو تقلْ شيئًا حتى سارتا في الطريق السريع. ثم قالت مارجوت: «يا له من جريء، حتى يغني أغنية كهذه أمامنا. يا له من جرئ!» قالت هذا بازدراء وكأنها فتحت تفاحة ووجدت بها دودة.
لكن في اليوم التالي مباشرةً، قبل وقت قليل من وصول الحافلة إلى نهاية رحلتها، بدأت مارجوت في الدندنة. دعت أنيتا للانضمام إليها، لاكزةً إياها في جانبها فيما كانت عيناها تدوران في محجريهما. دندنتا معًا نغمة أغنية رويل؛ ثم بدأتا في التلفظ بكلمات الأغنية، مخفيتين كلمة، ثم متلفظتين بالتالية في وضوح، حتى استجمعا أخيرًا شجاعتهما وبدأتا في غناء الجملتين كاملتين، في بساطة وعذوبة مثلما في «يسوع يحبني».
لم ينبس رويل ببنت شفة. لم ينظر إليهما. نزل من الحافلة قبلهما ولم ينتظر لدى الباب. لكن قبل أقل من ساعة، في مدخل المدرسة، كان ودودًا جدًّا. نظر أحد السائقين الآخرين إلى مارجوت وأنيتا، وقال: «حمولة جميلة هذه.» وقال رويل: «انظر أمامك، يا باستر.» متحركًا أمامه بحيث لا يستطيع السائق الآخر مشاهدتهما وهما تصعدان إلى الحافلة.
في الصباح التالي قبل أن يبتعد عن المتجر، ألقى محاضرة. «آمل أن يكون لدي سيدتان محترمتان في الحافلة اليوم، وليس مثل الأمس. عندما تقول الفتاة أشياء لا تكون مثل قول الرجل لها. ينطبق الأمر نفسه على المرأة عندما تسكر. عندما تسكر المرأة أو تتفوه بأشياء قبيحة، تعرف أول ما تعرف أنها في مشكلة. فكِّرَا في هذا الأمر قليلًا.»
تساءلت أنيتا عما إذا كانتا غبيتين. هل بالغتا كثيرًا؟ كانتا قد أزعجتا رويل وربما أثارتا اشمئزازه، جعلتاه يشعر بالقرف عند رؤيتهما، مثلما كان يشعر بالقرف من تيريسا. كانت تشعر بالعار والأسف وفي الوقت نفسه كانت تعتقد أن رويل لم يكن عادلًا. وضعت تعبيرًا على وجهها لتعبر عن ذلك لمارجوت، ماطَّةً أطراف فمها إلى أسفل. لكن لم تأبه مارجوت. كانت تضرب أطراف أصابعها معًا، ناظرةً في رزانة وسخرية إلى رأس رويل من الخلف.
•••
استيقظت أنيتا ليلًا وهي تتألم ألمًا مبرحًا. ظنَّت في البداية أنها قد استيقظت على وقع كارثة، مثل سقوط شجرة على المنزل أو تصاعد النيران من الألواح الخشبية في الأرضية. كان ذلك قبل وقت قصير من نهاية العام الدراسي. كانت قد شعرت بالغثيان في مساء اليوم السابق، لكن كان جميع من في العائلة يشتكي من الشعور بالغثيان، ويلقي باللائمة على رائحة الطلاء وزيت التربنتين. كانت والدة أنيتا تطلي مشمع الأرضية، مثلما كانت تفعل كل عام في هذا الوقت.
كانت أنيتا قد صرخت من الألم قبل أن تستيقظ بالكامل، وهو ما أيقظ الجميع. بينما ظن والدها أن من غير المناسب مهاتفة الطبيب قبل طلوع الفجر، هاتفته أمها على أي حال. طلب الطبيب الذهاب بأنيتا إلى والي، إلى المستشفى. هناك أجرى لها عملية وأزال لها الزائدة الدودية التي كانت على وشك الانفجار، التي كانت ربما ستقتلها في غضون ساعات قليلة. ظلت مريضة جدًّا لعدة أيام بعد إجراء الجراحة، وكان عليها المكوث قرابة ثلاثة أسابيع في المستشفى. حتى الأيام القليلة الأخيرة، لم يكن مسموحًا بزيارة أحد سوى أمها.
كانت هذه بمثابة مأساة بالنسبة إلى العائلة. لم يكن والد أنيتا يمتلك المال الكافي لإجراء الجراحة ودفع مقابل الإقامة في المستشفى؛ كان سيبيع مجموعة من أشجار الإسفندان الصلب. رجع الفضل إلى أمها، عن حق، في إنقاذ حياة أنيتا، وطالما عاشت ظلت تذكر ذلك، مضيفةً عادةً أنها قامت بذلك في مخالفة لأوامر زوجها. (كان ذلك حقيقةً مخالفًا لرأيه.) في موجة طاغية من الاستقلال وتقدير الذات بدأت في قيادة السيارة، شيء لم تكن قد فعلته منذ سنوات. كانت تزور أنيتا كل عصر وتجلب لها أخبار البيت. كانت قد فرغت من طلاء المشمع، في تصميم بلون أبيض وأصفر عن طريق إسفنجة على خلفية داكنة الخضرة. كان مظهر المشمع يُعطي انطباعًا بمنظر مرعى بعيد تتناثر الزهور الصغيرة فيه. كان مفتش منتجات الألبان قد أثنى على هذا المشمع، عند تناوله العشاء معهم. كان عجل قد وُلد في الجهة المقابلة من الجدول ولم يستطع أحد أن يعرف كيف وصلت البقرة إلى هناك. كانت نباتات العسلة تُزهر وسط سياج الأشجار، وأحضرت باقة من أزهار تلك النباتات واستولت على زهرية من الممرضات. لم تكن أنيتا قد رأت جانب شخصيتها الاجتماعي فاعلًا هكذا من قبل مع أي فرد من العائلة.
كانت أنيتا سعيدة، على الرغم من ضعفها وألمها المستمر. جرت هذه المجادلات من أجل إنقاذ حياتها. حتى بيع أشجار الإسفندان أدخل السرور على قلبها، جعلها تشعر أنها فريدة ومحل تقدير. كان الناس طيبين ولم يسألها أحد شيئًا، وهو ما جعلها تلتقط هذه الطيبة وتنشرها في كل شيء حولها. سامحت كل من أمكنها تذكره: مدير المدرسة بنظارته اللامعة، الصبية ذوي الروائح الكريهة في الحافلة، رويل غير العادل، وتيريسا الثرثارة، والفتيات الثريات اللاتي كن يرتدين السترات المصنوعة من أصواف الأغنام، وأسرتها، ووالد مارجوت، الذي كان يعاني في ثورات غضبه. لم تسأم من النظر طوال اليوم إلى الستائر الصفراء الرفيعة في النافذة وفروع وجذع الشجرة التي كانت تراها. كانت شجرة دردار، بخطوطها الصارمة السميكة في الجذع وأوراق بتلاتها الرفيعة التي كانت تفقد هشاشتها وخضرتها الربيعية الحادة، وتزداد صلابة ودكانة مع زيادة نضوجها الصيفي. بدا كل شيء يُوجد أو ينمو في العالم يستحق الاحتفاء به.
حدثت نفسها لاحقًا أن هذا المزاج ربما كان بسبب الأقراص التي أعطوها إياها لتسكين الألم. لكن ربما لم يكن الأمر هكذا تمامًا.
كانت قد وضعت في غرفة منفردة لأنها كانت في غاية الإعياء. (كان والدها قد طلب من أمها أن تسأل كم كان ذلك سيكلفهم، فيما لم تعتقد أمها أنهم لن يدفعوا المزيد؛ إذ إنهم لم يطلبوا ذلك.) جلبت لها الممرضات المجلات، التي كانت تنظر إليها لكنها لم تستطع قراءتها؛ حيث إنها كانت تشعر بدوار بالغ وبعدم تركيز إلى حد ما. لم تستطع أن تحدد ما إذا كان الوقت يمر سريعًا أم بطيئًا، ولم تكن تأبه. في بعض الأحيان، كانت تحلم أو تتخيل أن رويل زارها. كان يُظهر رقة غامضة، وعاطفة خفية. أحبها لكن لم يبدِ الأمر، ممرًّا يده على شعرها.
قبل يومين من عودتها إلى المنزل، جاءت أمها بوجه لامع جراء حرارة الصيف، الذي حل الآن، وجراء مشكلات أخرى. وقفت على طرف فراش أنيتا وقالت: «كنت أعلم دومًا أنني لم أكن عادلة.»
بحلول هذا الوقت، كانت أنيتا قد شعرت بثقوب في ملاءة سعادتها. كان قد زارها إخوتها، الذين كانوا يصطدمون بالفراش أثناء مرورهم به، ووالدها، الذي بدا مندهشًا أنها كانت تتوقع أن تقبله، وعمتها، التي قالت إن في إثر عملية كهذه يزداد وزن المرء دومًا. ها هو وجه أمها، صوتها يأتي إليها مثل قبضة ملفوفة في شاش.
كانت أمها تتحدث عن مارجوت. كانت أنيتا تعرف ذلك في الحال من خلال ارتعاشة فمها.
«كنت تعتقدين دومًا أنني لم أكن عادلة مع صديقتك مارجوت. لم أشعر بالراحة تجاه تلك الفتاة، وكنت تعتقدين أنني لم أكن عادلة. أعلم أنك كنت تعتقدين ذلك. هكذا، يتضح الأمر لك الآن. يتضح أنني لم أكن مخطئة تمامًا على أي حال. كنت أرى ذلك فيها منذ وقت مبكر. أستطيع أن أرى ما لم تستطيعين رؤيته. كان ثمة أثر من الخبث فيها وكانت مهووسة بالجنس.»
كانت أمها تنطق بكل عبارة بشكل منفصل، في صوت مرتفع، غير منتظم. لم تنظر أنيتا إلى عينيها. كانت تنظر إلى الشامة البنية الصغيرة تحت أنفها. كانت تبدو منفرة بصورة متزايدة.
هدأت أمها قليلًا، وقالت: إن رويل كان قد اصطحب مارجوت إلى كنكاردين في الحافلة المدرسية في نهاية اليوم في آخر أيام العام الدراسي. بالطبع، كانا وحدهما في الحافلة في بداية ونهاية الرحلة، منذ أن مرضت أنيتا. وقد قالا إن كل ما فعلاه في كنكاردين هو تناول البطاطس المقلية. يا للجرأة! يستخدمان حافلة المدرسة في نزهاتهما وفي القيام بأعمالهما الطائشة. عادا في هذا المساء، لكن مارجوت لم تعد إلى المنزل. لم تكن قد عادت إلى المنزل بعد. كان والدها قد جاء إلى المتجر وهشَّم مضخات الوقود، ما جعل الزجاج يتناثر حتى الطريق السريع. هاتف الشرطة مبلغًا عن غياب مارجوت، وهاتفهم رويل مبلغًا عن كسر مضخات الوقود. كان أفراد الشرطة أصدقاء لرويل، وأدين والد مارجوت بتهمة الإخلال بالأمن. مكثت مارجوت في المتجر، حتى تتجنب العقاب الذي كانت ستتلقاه من والدها.
قالت أنيتا: «هذا كل ما في الأمر، إذن … نميمة غبية ملعونة.»
لكن لا. لكن لا. لا تصرخي في وجهي، أيتها الفتاة.
قالت أمها إنها لم تدع أنيتا تعلم بالأمر. كان كل ذلك قد حدث ولم تكن قد قالت شيئًا لها على الإطلاق. كانت قد منحت مارجوت فائدة الشك. لكن لم يعد هناك أي شك. وردت الأنباء أن تيريسا حاولت أن تسمِّم نفسها. لكنها تعافت بعد ذلك. أغلق المتجر. كانت تيريسا لا تزال تعيش هناك، لكن كان رويل قد اصطحب مارجوت معه وكانا يعيشان معًا هنا، في والي. في غرفة خلفية في مكان ما، في منزل أصدقاء له. كانا يعيشان معًا. كان رويل يذهب إلى العمل في الجراج كل يوم؛ لذا يستطيع المرء أن يقول إنه كان يعيش معهما معًا. هل سيسمح له بقيادة الحافلة المدرسية مستقبلًا؟ ليس على الأرجح. كان الجميع يقول إن مارجوت حبلى. لم تحصل تيريسا على أي شيء.
قالت والدة أنيتا: «ألم تطلعك مارجوت على الأمر قط؟ لم ترسل إليك أي رسالة أو أي شيء طوال الوقت الذي كنت تقيمين فيه هنا؟ من المفترض أنها صديقتك!»
كان ينتاب أنيتا شعور بأن أمها كانت غاضبة منها ليس فقط لأنها كانت تصادق مارجوت، وهي فتاة ألحقت العار بنفسها، لكن لسبب آخر أيضًا. كان لديها شعور أن أمها كانت ترى الشيء نفسه الذي كانت تستطيع أن تراه: أنيتا غير كفؤ، يتم تخطيها وتجاهلها، ليس فقط من قبل مارجوت بل من الحياة نفسها. ألم تشعر أمها بحالة من خيبة الأمل الغاضبة لأن أنيتا لم تكن الفتاة المُختارة، وكانت الفتاة التي كانت المآسي تكتنفها والفتاة التي تحولت إلى امرأة وسحقها هكذا موج مرتفع في الحياة؟ لن تُقر بذلك أبدًا. ولم تسطع أنيتا أن تُقر بأنها كانت تشعر بإحباط كبير. كانت طفلة، لا تعرف شيئًا، غدرت مارجوت بها، مارجوت التي اتضح أنها كانت تعرف الكثير. قالت عابسةً: «سئمت من الحديث.» كانت تتظاهر بأنها ترغب في النوم، حتى تتركها أمها.
ثم رقدت متيقِّظة. رقدت متيقظة طوال الليل. قالت الممرضة التي جاءت اليوم التالي: «حسنًا، ألا تبدين وكأننا في نهاية العالم؟! أيؤلمك ذلك الجرح؟ هل تحتاجين لتناول تلك الأقراص مجددًا؟»
قالت أنيتا: «أكره المكان هنا.»
«حقًّا؟ حسنًا، لم يتبقَّ سوى يوم واحد حتى تستطيعي العودة إلى المنزل.»
قالت أنيتا: «لا أعني المستشفى … أعني «هنا». أريد أن أرحل وأعيش في مكان آخر.»
لم تبدُ أي أمارات اندهاش على الممرضة. قالت: «هل أتممت صفك الثاني عشر؟ … حسنًا. يمكنك التدرُّب لتصبحي ممرضة. لن يكلفك الأمر إلا شراء الأشياء الضرورية حتى تصبحي كذلك؛ لأنه يمكنك العمل دون مقابل أثناء تدربك. ثم، يمكنك الرحيل والحصول على وظيفة في أي مكان. يمكنك أن تذهبي إلى أي مكان في العالم.»
كان ذلك هو ما كانت مارجوت قد أخبرتها به. الآن، صارت أنيتا من سيصبح ممرضة، لا مارجوت. اتخذت قرارها ذلك اليوم. لكنها كانت تشعر أن هذا الخيار لم يكن إلا ثاني أفضل الخيارات. كانت تُفضل أن يجري اختيارها. كانت تفضل أن يختارها رجل وتتقيد برغباته والمصير الذي يقرره لها. كانت تفضل أن تكون محور فضيحة.
•••
قالت مارجوت: «هل تريدين أن تعرفي؟ … هل تريدين حقًّا أن تعرفي كيف حصلت على هذا المنزل؟ أعني، لم أسعَ إلى امتلاكه إلا حين صرنا قادرين على تحمُّل تكاليف العيش فيه. لكن مثلما تعرفين الرجال، تكون البداية دومًا مختلفة. كنت في البداية أعيش في أماكن في منتهى السوء. كنا نعيش في أحد الأماكن، لم تكن هناك إلا هذه الأشياء، أتعرفين تلك الأشياء تحت البُسط، على الأرضية؟ تلك الأشياء بنية اللون المشعرة مثل جلد منزوع من وحش؟ لا عليك سوى النظر إليها وستشعرين بأن ثمة شيئًا يزحف على جسدك. كنت أشعر بالغثيان والمرض طوال الوقت على أي حال. كنت حبلى في جو. كان ذلك خلف مقر شركة تويوتا الآن، والذي لم يكن كذلك حينها. كان رويل يعرف صاحب البيت. بالطبع. حصلنا على المكان بسعر رخيص.»
لكن جاء يوم، قالت مارجوت، جاء يوم قبل خمس سنوات، لم تكن ديبي قد وصلت لسن المدرسة بعد. كان ذلك في شهر يونيو. كان رويل مسافرًا في العطلة الأسبوعية، في رحلة صيد في شمال أونتاريو. في النهر الفرنسي، شمال أونتاريو. تلقت مارجوت مكالمة هاتفية لم تخبر أحدًا بها.
«هل هذه هي السيدة جولت؟»
قالت مارجوت: نعم.
«هل أتحدث إلى زوجة رويل جولت؟»
نعم، قالت مارجوت، وسألها الصوت — كان صوت امرأة أو ربما صوت فتاة صغيرة، صوت مكتوم، ضاحك — إذا ما كانت تريد أن تعرف أين سيكون زوجها في عطلة نهاية الأسبوع التالية.
قالت مارجوت: «أخبريني أنتِ.»
«لماذا لا تذهبين إلى منطقة أشجار الصنوبر الجورجية؟»
قالت مارجوت: «حسنًا … أين ذلك؟»
قال الصوت: «أوه، هذه منطقة معسكرات … هذا مكان جميل حقًّا. ألا تعرفينه؟ يوجد في مدينة واساجا بيتش. ما عليك إلا أن تذهبي وتتأكدي بنفسك.»
كان ذلك على مسافة مائة ميل. أعدت مارجوت عدتها لتذهب يوم الأحد. كان عليها أن تبحث عن جليسة أطفال لديبي. لم تستطع أن تُحضر جليستها المعتادة، لانا؛ لأنها كانت ستذهب إلى تورونتو في رحلة ترفيهية في عطلة نهاية الأسبوع مع أعضاء فرقة المدرسة الثانوية. استطاعت إحضار إحدى صديقات لانا التي لم تكن في الفرقة. كانت مسرورة أن الأمر جرى على هذا النحو؛ لأنها كانت تخشى أن تجد والدة لانا، دوروثي سلوتي، مع رويل. كانت دوروثي سلوتي القائمة على حسابات رويل. كانت مطلقة، وكانت معروفة جدًّا في والي بعلاقاتها المتعددة حتى إن الطلاب في المدرسة الثانوية كانوا ينادونها من سيارتهم، في الشارع: «دوروثي العاهرة، يا لك من امرأة ساخنة مثيرة!» في بعض الأحيان كان يجرى الإشارة إليها باسم دوروثي الفاسقة. كانت مارجوت تشعر بالأسف من أجل لانا. لهذا السبب كانت قد بدأت في الاستعانة بها للعناية بديبي. لم تكن لانا امرأة حسنة المظهر مثل أمها، وكانت خجولة ولم تكن جذَّابة تمامًا. كانت مارجوت تجلب لها هدية صغيرة في وقت الكريسماس.
في عصر يوم السبت، قادت مارجوت سيارتها إلى كنكاردين. كانت ستغيب عن المنزل لساعتين فقط؛ لذا تركت جو وصديقته يصطحبان ديبي إلى الشاطئ. في كنكاردين، استأجرت سيارة أخرى — شاحنة، مثلما صادف، سيارة قديمة جدًّا زرقاء كتلك التي يقودها الهيبز. اشترت أيضًا بعض الملابس الرخيصة وباروكة باهظة الثمن نسبيًّا، تبدو مثل الشعر الحقيقي. تركت الأشياء في الشاحنة، وتركت الشاحنة في باحة انتظار خلف سوبر ماركت. في صباح يوم الأحد، قادت سيارتها إلى هذا المكان، وتركتها في الباحة، وولجت إلى الشاحنة، وغيَّرت ملابسها ووضعت الباروكة، وبعض المكياج الإضافي. ثم واصلت القيادة شمالًا.
كان لون الباروكة بنيًّا فاتحًا جميلًا، مجعدة في الأعلى، وطويلة ومستقيمة من الخلف. كانت ملابسها تتألَّف من بنطال جينز ضيق، وردي اللون، وبلوزة مخططة باللونين الوردي والأبيض. كانت مارجوت آنذاك أقل بدانة، وإن لم تكن «نحيفة». أيضًا، كانت ترتدي صندلًا، وأقراطًا متدلية، ونظارة شمس وردية، كبيرة. أدوات التنكر.
قالت مارجوت: «لم أترك أية وسيلة للتخفي إلا وقمت بها. رسمت عينيَّ مثل كليوباترا. لا أظن أن أبنائي كانوا سيستطيعون التعرف عليَّ. كان الخطأ الذي ارتكبته هو ذلك البنطال، كان ضيقًا وسميكًا أكثر مما ينبغي. أوشك البنطال والباروكة أن يقتلاني. فقد كان هذا اليوم حارًّا جدًّا. وجدت صعوبة في ركن الشاحنة في مكان الانتظار؛ نظرًا لأنني لم أكن قد قُدت سيارة مثل هذه من قبل. بخلاف ذلك، لم يكن ثمة أي مشكلة.»
قادت الشاحنة في الطريق السريع ٢١، بلووتر، وفتحت النافذة حتى تحصل على بعض النسيم من البحيرة، وكان شعرها الطويل يتطاير، وكان الراديو مفتوحًا على محطة إذاعية لموسيقى الروك، حتى تكون في المزاج المناسب. مزاج من أجل ماذا؟ لم يكن لديها أدنى فكرة. دخنت سيجارة تلو الأخرى، محاولةً الحفاظ على ثبات أعصابها. كان السائقون من الرجال الذين كانوا يقودون سياراتهم مرورًا بها يطلقون نفير سياراتهم لها. بالطبع، كان الطريق السريع مزدحمًا، بالطبع كانت مدينة واساجا بيتش مليئة بالبشر، يوم أحد مشمس، حار مثل هذا، في يونيو. حول الشاطئ، كانت حركة المرور في غاية البطء، وكانت رائحة البطاطس المقلية وحفلات الشواء ساعة الظهيرة ضاغطة، مثل غطاء ثقيل. استغرق الأمر قليلًا منها حتى تجد منطقة المعسكرات، لكنها أخيرًا وجدتها، ودفعت رسوم قضاء اليوم، ودخلت بسيارتها إليها. قادت سيارتها حول مكان انتظار السيارة أكثر من مرة، محاولةً العثور على سيارة رويل. لم ترها. ثم، خطر ببالها أن مكان انتظار السيارات مخصص فقط للزائرين في النهار. عثرت على مكان انتظار لسيارتها وركنتها.
عليها الآن إجراء عملية استطلاع للمنطقة بأكملها، سيرًا على الأقدام. سارت أولًا عبر منطقة إقامة المعسكرات. وصلات كهربية في مقطورات، خيم، أشخاص يجلسون في الخارج إلى جانب المقطورات والخيم يحتسون الجعة ويلعبون الورق ويقيمون حفلات شواء؛ يفعلون بصورة أو بأخرى ما يفعلونه في منازلهم. كان ثمة ملعب مركزي، به أراجيح وزلاجات مشغولة دومًا، وأطفال يلقون بالأطباق الطائرة، وأطفال رضع في الصناديق الرملية. كشك مرطبات، اشترت مارجوت منها مياهًا غازية. كانت متوترة للغاية ما لم يجعلها ترغب في أكل أي شيء. كان غريبًا بالنسبة إليها أن توجد في مكان ترتاده العائلات ولا تكون عضوًا في أي عائلة منها.
لم يصفِّر أحد لها أو يعاكسها. كان ثمة فتيات كثيرات ذوات شعر طويل في المكان تتبخترن أكثر مما كانت تفعل. ويجب الاعتراف هنا أنهن كنَّ أجمل منها مما يجعلها تبدو عادية بالمقارنة بهن.
سارت على الممرات الرملية تحت أشجار الصنوبر، بعيدًا عن المقطورات. وصلت إلى مكان في المعسكر كان يبدو مثل منتجع قديم، ربما كان هناك قبل فترة طويلة قبل أن يفكِّر أي شخص في الوصلات الكهربية للمقطورات. كانت ظلال أشجار الصنوبر الكبيرة مبعث راحة لها. كانت الأرض تحتها بنية، مغطاة بورق الشجر المدبب: تربة صلبة تحولت إلى تراب ناعم. كانت هناك كبائن مزدوجة، وكبائن فردية، مطلية باللون الأخضر الداكن. كانت موائد الرحلات موضوعة إلى جانبها. مواقد حجرية. أحواض من الزهور المتفتحة. كان المشهد جميلًا.
كان هناك سيارات إلى جانب بعض الكبائن، لكن سيارة رويل لم تكن هناك. لم تر أي شخص هناك؛ ربما كان الأشخاص الذين كانوا يقيمون في الكبائن من النوع الذي يذهب إلى الشاطئ. كان هناك عبر الطريق مكان فيه مقعد طويل ونافورة شرب وصندوق قمامة. جلست على المقعد لتستريح.
ثم ظهر رويل. خرج من الكابينة أمامها مباشرةً. خرج أمامها مباشرةً. كان يرتدي سروال الاستحمام القصير، وكان يضع منشفتين على كتفيه. كان يسير في كسل، وتراخٍ. كان ثمة كتلة من الدهن الأبيض تنزلق في منطقة الخصر من سرواله القصير. كانت تريد أن تصرخ فيه قائلةً: «اعتدل، على الأقل!» هل كان يسير في تراخٍ هكذا لأنه كان يشعر بخبثه وبالخزي؟ أم تراه منهكًا بسبب ما يقوم به من جهد محبب لقلبه؟ أم تراه كان يسير في تراخٍ منذ فترة طويلة ولم تلحظ هي ذلك؟ كان جسده القوي الضخم يتحول إلى شيء شبيه بالكاستارد.
وصل إلى السيارة المنتظرة إلى جانب الكابينة، وأدركت أنه كان يبحث عن سجائره. أدركت ذلك، لأنها في اللحظة ذاتها كانت تفتش في حقيبتها عن سجائرها. إذا كان هذا فيلمًا سينمائيًّا — هكذا حدثت نفسها — إذا كان هذا فيلمًا سينمائيًّا، فسيأتي مهرولًا عبر الطريق، حاملًا ولاعة، متحمسًا لمساعدة الفتاة الجميلة الشاردة. لن يستطع التعرف عليها، بينما كان الجمهور يحبس أنفاسه. ثم بدأ يتعرَّف عليها شيئًا فشيئًا، والرعب يتملَّكه، عدم التصديق والرعب. بينما هي، الزوجة، تجلس في هدوء وارتياح، تسحب نفسًا عميقًا من سيجارتها. لكن لم يحدث أي من ذلك، بالطبع لم يحدث أي من ذلك؛ لم ينظر حتى عبر الطريق. كانت تجلس تتصبَّب عرقًا في بنطالها الضيق، وكانت يداها ترتجفان بشدة ما جعلها تلقي بسيجارتها بعيدًا.
لم تكن السيارة سيارته. أي نوع من السيارات تقود دوروثي العاهرة؟
ربما كان مع امرأة أخرى، امرأة لا تعرفها مارجوت على الإطلاق، امرأة غريبة. امرأة غريبة أدركت أنها تعرفه مثلما تعرف زوجته.
لا. لا. غير مجهولة. ليست مجهولة على الإطلاق بالنسبة لها. فُتح باب الكابينة مجددًا، وها هي تظهر لانا سلوتي. لانا، التي كانت من المفترض أن تكون في تورونتو مع الفرقة الموسيقية. لم تستطع أن تعتني بديبي. لانا، التي كانت مارجوت تشعر دومًا بالأسف عليها، وكانت تحنو عليها لأنها كانت تظن أنها فتاة وحيدة، أو غير محظوظة. كانت تعتقد ذلك لأن لانا كانت قد تربَّت تقريبًا من قبل جدها وجدتها العجوزين. بدت لانا تنتمي إلى طراز قديم، جادة قبل الأوان دون أن تكون حاذقة، ولم تكن تتمتع بصحة طيبة، كما لو كان مسموحًا لها بالحياة من خلال تناول المشروبات الغازية، والحبوب المسكرة، وأي خليط من الذرة المعلبة، والبطاطس المقلية، وقطع المكرونة بالجبن التي كان هذان الشخصان العجوزان يعدانه على العشاء. كانت تصاب بنوبات برد حادة، مع مضاعفات ربوية، كانت بشرتها لا تتمتع بالحيوية، وشاحبة. في المقابل، كانت تمتلك قوامًا مكتنزًا، جذابًا، صغيرًا، مستديرًا على نحو بهيٍّ في الأمام وفي الخلف، وخدين سنجابيين عندما كانت تبتسم، وشعرًا حريريًّا، مستويًا، وأشقر طبيعيًّا. كانت شخصيتها غاية في الخنوع حتى إن ديبي كان يمكن أن تسيطر عليها، وكان الصبية يسخرون منها أيضًا.
كانت لانا ترتدي ملابس سباحة ربما كانت جدتها قد اختارتها لها. صديرية مضغوطة فوق ثدييها الصغيرين الناتئين وتنورة قصيرة على هيئة ورود. كانت رجلاها بدينتين وغير مكتسبة للون السمرة بسبب التعرض للشمس. وقفت هناك على الدرج كما لو كانت خائفة من الخروج — خائفة من الخروج وهي مرتدية ملابس السباحة أو خائفة من الخروج من الأساس. كان على رويل أن يذهب إليها ويضربها ضربة خفيفة ولطيفة على مؤخرتها ليجعلها تتقدم. بعد عدة تربيتات خفيفة، وضع واحدة من المناشف حول كتفيها. جعل خده يلامس رأسها الشقراء ثم حك أنفه في شعرها، بلا شك حتى يشم عبيرها. شاهدت مارجوت كل هذا.
مشيا معًا، عبر الطريق إلى الشاطئ، برزانة محافظين على وجود مسافة فيما بينهما. كأب وابنته.
«المنحرفون لا يفلحون.»
«مَنْ شابه أمه، فما ظلم.»
«عار عليك!»
«عار عليك!»
كتبت رسالة أخرى: «عاهرة سمينة ضخمة مع حبيبك الأبله ذي الوجه الطفولي.» لكن سرعان ما مزقتها، لم تعجبها النبرة. هيستيرية. وضعت الرسائل حيثما كانت متأكدة أنهما سيجدانها — تحت ماسحة الزجاج في السيارة، في فتحة الباب — وثبَّتتها حتى لا تطير، بأحجار وجدتها على مائدة الرحلات. ثم هرولت مبتعدة بينما كانت ضربات قلبها تتسارع. كانت تقود السيارة في منتهى السوء، في البداية، حتى كادت تدهس كلبًا على الطريق السريع؛ لذا انتقلت للقيادة في الطرق الجانبية، الطرق المفروشة بالحصى، وظلَّت تذكِّر نفسها بضرورة تخفيض سرعتها. كانت ترغب في القيادة بسرعة هائلة. كانت تريد أن تُقلع بالسيارة. كانت تشعر أنها على حافة الانفجار، كانت ستنفجر إلى قطع صغيرة. هل كان طيبًا أم سيئًا، ما كانت تشعر به؟ لم تستطع أن تحدد. شعرت بأنها تحررت، لم يعد شيء يهمها، كانت في خفة ورقة شجرة تحركها الرياح.
وصلت أخيرًا إلى كنكاردين. بدَّلت ملابسها وخلعت الباروكة وأزالت آثار المكياج من عينيها. وضعت الملابس والباروكة في سلة المهملات بالسوبر ماركت — وهي تشعر بالأسى — ثم أدارت الشاحنة. كانت تريد أن تذهب إلى الحانة في الفندق وتتناول شرابًا، لكنها كانت تخشى ما قد يسببه ذلك في قيادتها. وكانت تخشى مما قد تفعله إذا رآها أي رجل تشرب وحدها وأصدر أي تعليق. حتى إذا قال فقط: «يوم حار.» ربما تصرخ فيه، ربما تحاول أن تنشب أظافرها في وجهه.
•••
البيت. الأطفال. دفع المال لجليسة الأطفال، صديقة لانا. هل يمكن أن تكون هي من اتصلت بها؟ تناولت وجبة سريعة في العشاء. بيتزا، لا دجاج كنتاكي، الذي لن تفكر فيه مرة أخرى دون أن يطلب منها أحد. ثم ظلت مستيقظة إلى وقت متأخر، تنتظر. تناولت بعض الكئوس. ظلت بعض الأفكار تدقُّ رأسها في عنف. محامٍ. طلاق. عقاب. ظلت هذه الأفكار تضربها مثل ناقوس، ثم خفتت دون أن تعرف كيف تتصرف. ماذا يجب أن تفعل أولًا، ماذا يجب أن تفعل تاليًا، كيف يجب أن تمضي حياتها؟ الأبناء جميعهم لديهم مقابلات من نوع أو آخر، يعمل الصبية في وظائف صيفية، كانت ديبي على وشك إجراء جراحة صغيرة في أذنها. لم تستطع أن تصطحبهم بعيدًا؛ كان عليها أن تقوم بالأمر كله بنفسها، وسط نميمة الجميع، وهو ما كانت قد تلقَّت كفايتها منه من قبل. أيضًا، كانت ورويل قد جرى دعوتهما إلى حفل كبير في عطلة نهاية الأسبوع المقبلة، لا بد أن تشتري هدية. كان هناك من سيأتي لصيانة وإصلاح شبكة الصرف في المنزل.
جاء رويل إلى المنزل في وقت متأخر جدًّا حتى إنها بدأت تقلق من أن حادثًا قد وقع له. كان عليه الذهاب إلى أورانجفيل، ليوصل لانا إلى منزل عمتها. كان قد تظاهر بأنه مدرس في المدرسة الثانوية ينقل أحد أفراد الفرقة. (في الوقت نفسه، قيل للمدرس الحقيقي إن عمة لانا مريضة جدًّا، وكانت لانا تمكث في أورانجفيل للعناية بها.) كانت معدة رويل مضطربة، وهو أمر طبيعي، خاصةً بعد هذه الرسائل. جلس على مائدة المطبخ يمضغ أقراص دواء ويشرب اللبن. صنعت مارجوت قهوة، حتى تستفيق من أجل المعركة.
قال رويل إن الأمر برمته كان بريئًا. مجرد نزهة للفتاة. مثل مارجوت، كان يشعر بالأسف من أجل الفتاة. بريئًا.
ضحكت مارجوت على ذلك. ضحكت، وأخبرته عما رأت.
قالت له: «بريئًا! أعرف أي براءة تقصد! من تظن أنك تتحدث إليه؟ تيريسا؟» وقال: «من؟ لا، حقًّا.» بدا وجهه خاليًا من أي تعبير لمدة دقيقة، قبل أن يتذكر. قال: «من؟»
حدثت مارجوت نفسها آنذاك قائلةً: أي عقاب؟ من أجل من؟ ربما سيتزوج هذه الفتاة، وسيكون هناك أطفال بالتأكيد، وسرعان ما سينفد المال بما لا يمكنها هي وأسرتها من الاستمرار في مستوى الحياة الذي اعتادوا عليه.
قبل أن يذهبا إلى الفراش في ساعة مبكرة جدًّا من الصباح، تلقَّت منه وعدًا بالتنازل عن المنزل.
«هناك وقت يأتي على الرجال، لا يرغبون حقًّا في الخوض في مشاحنات. يفضلون أن ينسلخوا من الأمر برمته. ساومته على كل شيء حتى آخر شيء، وحصلت على كل شيء تقريبًا كنت أريده. إذا عاند لاحقًا حيال أي شيء، فكل ما كان عليَّ أن أقوله هو «وقت الباروكة!» أخبرته عن كل شيء، الباروكة، الشاحنة، مكان جلوسي، وكل شيء. كنت أقول كل ذلك أمام الأطفال أو أي شخص، ولن يعرف أحد عما كنت أتحدث. لكن كان هو سيعرف! كان رويل سيعرف. «وقت الباروكة!» لا أزال أقولها من حين إلى آخر، متى ظننت أن ذلك مناسبًا.»
التقطت شريحة برتقال من الإناء الزجاجي وبدأت في مصها، ثم بدأت في مضغها. وقالت: «أضع قليلًا من أشياء أخرى في هذا الدورق إلى جانب الخمر … أضع القليل من الفودكا، أيضًا. أتلاحظين؟»
مدَّت ذراعيها ورجليها في الشمس.
«متى ظننت أن ذلك … مناسب.»
ظنَّت أنيتا أن مارجوت ربما تخلَّت عن الخيلاء، لكنها ربما لم تتخلَّ عن الجنس. ربما تستطيع مارجوت أن تفكِّر في الجنس دون أن تفكر في الأجساد الجميلة أو المشاعر الطيبة. ضربات غير مؤذية.
وماذا عن رويل؟ عم تخلى؟ كانت كل مساومات مارجوت يقابلها شيء واحد؛ ما إذا كان رويل مستعدًّا أم لا.
المساومة، المساومة، الحسابات، المنازل، والمال. لم تستطع أنيتا أن تتخيَّل ذلك. كيف يستطيع المرء تحويل الحب والخيانة إلى أشياء مادية؟ كانت قد اختارت هي في المقابل الدخول في علاقات والخروج منها، عواطف ملتهبة، الإخلاص لنوع واحد من المشاعر، وهو ما كان يتضمَّن عادةً عدم الإخلاص لأي شيء آخر تقريبًا.
قالت مارجوت، في رضاء بالغ: «جاء دورك … أخبرتك شيئًا. جاء دورك كي تخبريني. أخبريني كيف قررت أن تتركي زوجك.»
أخبرتها أنيتا ماذا حدث في أحد المطاعم في كولومبيا البريطانية. كانت أنيتا وزوجها، في إحدى العطلات، قد ذهبا إلى مطعم على جانب أحد الطرق، ورأت أنيتا رجلًا ذكرها برجل كانت تحبه — لا، ربما كان من الأفضل أن تقول مغرمة به — منذ سنوات طويلة. كان الرجل الذي في المطعم ذا بشرة شاحبة، وجه ثقيل، ويرتسم على وجهه تعبير احتقار ومراوغة، وهو ما كان نسخة باهتة من وجه الرجل الذي كانت تحبه، وكان جسده ذو الأرجل الطويلة نسخة من ذلك الرجل إذا كان متثاقلًا في حركته. أحست وكأن روحها تنتزع منها انتزاعًا عندما حان وقت الرحيل من المطعم. كانت تدرك معنى هذا التعبير، كانت تشعر أن روحها تنتزع انتزاعًا، كانت ممزقة وتائهة. طوال سيرهما على الطريق السريع آيلاند هايواي، بين صفوف من أشجار التنوب الطويلة وأشجار الراتنج التي تحوطهما، وعلى متن المعدية المتَّجهة إلى برنس روبرت، كانت تشعر بألم فراق غريب. رأت أنها إذا كانت تستطيع الشعور بألم كهذا، إذا كانت تستطيع الإحساس بشعور أقوى تجاه شبح أكثر مما تشعر به في زواجها، فكان من الأفضل إذن فصم عرى زواجها.
هكذا أخبرت مارجوت. كان الأمر أكثر صعوبة من ذلك، بالطبع، ولم يكن الأمر على هذا النحو من الوضوح.
قالت مارجوت: «إذن، هل رحلت وعثرت على ذلك الرجل الآخر؟»
«لا. كان الأمر من جانب واحد. لم أستطع.»
«هل بحثت عن شخص آخر، إذن؟»
قالت أنيتا، مبتسمة: «وشخص آخر، وثالث.» في تلك الليلة عندما كانت تجلس إلى جوار فراش أمها، في انتظار إعطاء أمها حقنة، كانت تفكر في الرجال، واضعةً الأسماء كلها بعضَها فوق بعض لتمضية وقتها، مثلما يذكر المرء أسماء الأنهار الكبرى في العالم، أو العواصم، أو أبناء الملكة فيكتوريا. شعرت بالأسف على بعضهم لكنها لم تشعر بالندم. تدفق الدفء، في حقيقة الأمر، عبر جسدها. شعور متراكم من الرضا.
قالت مارجوت في قوة: «حسنًا، هذه إحدى السُّبل … لكن الأمر غريب بالنسبة إليَّ. غريب حقًّا. أعني: لا أرى الفائدة المرجوة منه، إذا لم تتزوجيهم.» وتوقفت برهة عن الكلام ثم أضافت: «هل تعرفين ماذا أفعل، في بعض الأحيان؟» نهضت بسرعة واتجهت إلى الأبواب الجرارة. تسمعت، ثم فتحت الباب وألقت برأسها إلى الداخل. ثم عادت وجلست.
قالت: «كنت أتأكد فقط أن ديبي لا تتنصَّت علينا … الصبية، يمكن أن تقولي أي أشياء شخصية مريعة أمامهم وربما تتحدثين باللغة الهندوسية؛ حيث إنهم لا يتنصَّتون أبدًا. لكن الفتيات يتنصَّتن. ديبي تتنصت …»
قالت: «سأخبرك عما أفعل … أذهب وأرى تيريسا.»
قالت أنيتا في دهشة بالغة: «ألا تزال هناك؟ … ألا تزال تيريسا في المتجر؟»
قالت مارجوت: «أي متجر؟ … أوه، لا! لا، لا. لم يعد المتجر موجودًا. لم تعد محطة الوقود موجودة. أُزيلا منذ سنوات خلت. تقيم تيريسا في دار الرعاية التابعة للمقاطعة الآن. لديهم ما يطلقون عليه قسم الحالات النفسية هناك الآن. الأمر العجيب هو أنها عملت هناك لسنوات وسنوات، تتناول الصينيات المستديرة وترتِّب الأشياء وتفعل هذا وذاك من أجل النزلاء. ثم بدأت هي نفسها تمر بنوبات مضحكة. لذا، في بعض الأحيان تعمل هناك، وفي أحيان أخرى تنزل هناك، إذا كنت تفهمين ما أقصد. عندما تنتابها إحدى تلك النوبات، لا تسبب أي مشكلات. هي مشوشة فقط بعض الشيء. ثرثرة طوال الوقت. على نحو ما كانت تفعل دائمًا، وإن كانت تفعل ذلك أكثر الآن. كل ما تقوم به هو الثرثرة والعناية بنفسها. إذا ذهبت لزيارتها، فستطلب منك دومًا إحضار زيت استحمام أو عطر أو مكياج. في المرة الأخيرة التي ذهبت فيها إليها، جئت لها ببعض منتجات العناية بالشعر. كنت أظن أن في ذلك نوعًا من المخاطرة، شيء معقد لن تستطيع استخدامه. لكنها قرأت الإرشادات، وصبغت شعرها بصورة حسنة. لم تفسد الأمور. أعني بمشوَّشة أنها تظن نفسها أنها على متن سفينة. السفينة التي تحمل عرائس الحرب. تنقلهن جميعًا إلى كندا.»
قالت أنيتا: «عرائس الحرب.» رأتهن متوَّجات بتيجان من الريش الأبيض، ريش مهوَّش، رائع. كانت تفكر في قبعات زمن الحرب.
لم تكن في حاجة إلى أن تراه، لسنوات لم يكن لديها أدنى رغبة في أن تراه. يقوِّض الرجل حياتك لفترة غير محدودة، ثم في يوم ما لا شيء، مجرد فراغ حيث كان، فراغ لا يعوَّل عليه.
قالت مارجوت: «هل تعلمين ماذا مر بخاطري في هذه اللحظة؟ شكل المتجر في الصباح. ونحن آتيتان إليه شبه متجمِّدتين. كانت حياتنا صعبة لكننا لم نعرف ذلك.»
كنا نمتلك القوة، هكذا حدثت أنيتا نفسها. كنا نمتلك قوة التحول، عندما يكون المرء منا ممتلئًا بالخوف والحماس — لا يوجد شيء في الحياة غير مهم. قوة لا يفكِّر المرء في فقدانها؛ لأن المرء لا يعرف بامتلاكه لها على الإطلاق.
قالت مارجوت، في نبرة صوت خفيضة وغير مصدقة: «كانت معتادة على المجيء والطرق على الباب … هناك. هناك، عندما كان رويل معي في الغرفة. كان الأمر مريعًا. لا أعلم. لا أعلم. هل كنت تظنين أنه الحب؟»
من موقعها هنا كانت الذراعان الطويلتان لمصد الأمواج تبدوان مثل أعواد كبريت طافية. تبدو الأبراج، والأكوام الهرمية، وسير النقل في منجم الملح، مثل ألعاب كبيرة طافية. تلمع البحيرة مثل ورق الفويل. يبدو كل شيء برَّاقًا، وبارزًا، ومسالمًا. مشدوهًا.
قالت مارجوت: «جميعنا على متن السفينة … تعتقد أن جميعنا على متن السفينة. لكنها المرأة التي سيلاقيها رويل في هاليفاكس، هذه المرأة المحظوظة.»
•••
كانت مارجوت وأنيتا قد بلغتا هذا المبلغ من الحديث. ولم تكونا مستعدَّتين بعدُ للتوقف عن الحديث. كانتا سعيدتين إلى حدٍّ كبير.