فايف بوينتس
أثناء شربهما الفودكا وعصير البرتقال في ساحة المقطورات (عربات الإقامة) على المنحدرات الصخرية فوق بحيرة هورون، يحكي نيل باور قصة لبريندا. وقعت أحداث القصة في مكان بعيد جدًّا، في مدينة فيكتوريا، بكولومبيا البريطانية، حيث نشأ نيل. رغم أن نيل ليس أصغر كثيرًا من بريندا — أقل من ثلاث سنوات — يبدو بالنسبة لها في بعض الأحيان كما لو كان يفصل بينهما جيلٌ كاملٌ؛ لأن بريندا نشأت هنا، وأقامت هنا، وتزوَّجَتْ كورنيليس زنت عندما كانت تبلغ عشرين عامًا، بينما نشأ نيل على الساحل الغربي، حيث كانت الأشياء مختلفة جدًّا، وترك منزله — عندما كان يبلغ من العمر ستة عشر عامًا — للسفر والعمل في أنحاء البلاد.
لم تَرَ بريندا من مدينة فيكتوريا، في الصور، سوى الزهور والجياد. كانت الزهور تتدلى من سلال معلقة من أعمدة إنارة قديمة الطراز، التي تملأ المغارات وتزيِّن المتنزهات، وكانت الجياد تجر عربات من السائحين لمشاهدة المناظر الرائعة.
يقول نيل: «ليست هذه سوى الأشياء التافهة التي يشاهدها السائحون … تقريبًا نصف المكان لا يضم إلا هذه الأشياء التافهة. ليست هذه هي الأماكن التي أتحدَّث عنها.»
يتحدَّث نيل عن فايف بوينتس، وهو كان — ولا يزال — قسمًا، أو ربما ركنًا من المدينة؛ حيث كانت هناك مدرسة وصيدلية وبقالة صينية ومتجر حلوى. عندما كان نيل لا يزال في المدرسة، كانت تدير متجر الحلوى امرأةٌ عجوزٌ دائمة التبرُّم، لها حاجبان مرسومان. كانت معتادة على ترك قطتها تتمدد في الشمس على النافذة. بعد وفاتها، تولَّى أشخاص آخَرون أوروبيون، لا بولنديون أو تشيكيون، بل من دولة ما أصغر — كرواتيا، أهذه دولة؟ — إدارة المتجر وأدخلوا تعديلات عليه؛ تخلَّصوا من الحلوى القديمة والبالونات البالية التي لا تُنفَخ، والأقلام الجافة التي لا تكتب، وحبات الفول المكسيكية النطاطة الفاسدة. قاموا بطلاء المتجر بالكامل ووضعوا بعض المقاعد والموائد. كانوا لا يزالون يبيعون الحلوى — لكن في برطمانات نظيفة الآن، بدلًا من الصناديق الكرتونية التي تبول عليها القطط — والمساطر والمماحي. بدءوا أيضًا في العمل كمقهى صغير، يقدِّم قهوة ومشروبات غازية وكعكًا منزليًّا.
كانت الزوجة التي تصنع الكعك حيية وسريعة الاهتياج، وإذا جئتَها وحاولتَ دفع مقابل ما اشتريتَ، فستنادي على زوجها باللغة الكرواتية، أو أيٍّ ما كانت اللغة التي تناديه بها — دعنا نفترض أنها الكرواتية — في رهبة بحيث تجعلك تشعر كما لو أنك قد اقتحمت منزلها وانتهكت خصوصيتها. كان الزوج يتحدث الإنجليزية بشكل جيد جدًّا. كان رجلًا صغير الحجم أصلع، مهذَّبًا وعصبيًّا، مدخِّنًا شرهًا جدًّا، وكانت هي امرأة ضخمة، سمينة، كتفاها محنيتان، ترتدي دومًا ميدعة وسترة صوفية مغزولة. كان يغسل النوافذ ويكنس الممر الجانبي ويتلقى الأموال من الزبائن، وكانت هي تعد المخبوزات وتصنع الكعك وتصنع أشياء لم يسمع الناس عنها من قبلُ، لكن سرعان ما تصير مشهورة، مثل البيروغة وخبز بذور الخشخاش.
كانت ابنتاهما تتحدثان الإنجليزية تمامًا مثل الكنديين، وكانتا تذهبان إلى مدرسة الراهبات. ترجع البنتان من مدرستهما مرتديتين زيهما المدرسي في آخِر المساء، وتبدآن العمل مباشرةً. كانت الأخت الصغرى تغسل فناجين القهوة والأكواب وتنظِّف الموائد، في حين كانت الأخت الكبرى تقوم بباقي الأعمال؛ فكانت تقدِّم الطلبات للزبائن، وتشغِّل ماكينة الدفع النقدي، وتضع الطلبات على صواني التقديم، وتفرِّق الأطفال الصغار الذين يقتربون من المحل دون أن يشتروا شيئًا. وعندما تفرغ الأخت الصغرى من عملها، كانت تجلس في الغرفة الخلفية لتؤدي فروضها المنزلية، بينما لم تكن الأخت الكبرى تستريح قط، فإذا لم يكن لديها أي عمل عليها القيام به، فكانت تكتفي بالجلوس إلى ماكينة الدفع النقدي، تراقب ما يحدث.
كانت الأخت الصغرى تُسمَّى ليزا، وكانت الأخت الكبرى تُدعَى ماريا، كانت ليزا صغيرة الحجم وجميلة الشكل بالنسبة لطفلة في سنها، في المقابل، كانت ماريا تقريبًا في حدود الثالثة عشرة من عمرها، تمتلك نهدين كبيرين مترهلين، وبطنًا كبيرة مستديرة، ورجلين سمينتين. كانت ترتدي نظَّارة، وكانت تضفِّر شعرها حول رأسها. كانت تبدو كما لو أنها في الخمسين من عمرها.
وكانت تتصرف كما لو أنها كذلك، على النحو الذي تولَّتْ به إدارة المتجر. كان والداها لا يمانعان في إفساح المجال لها. انسحبت الأم إلى الغرفة الخلفية، وصار الأب يكتفي بتقديم المساعدة لها. كانت ماريا تفهم الإنجليزية وتفهم في الأمور المالية، ولم يكن ثمة شيء يُخِيفها. كان كل الأطفال الصغار يقولون: «أفٍّ لماريا هذه، أليست فظَّة؟» كانت تبدو كما لو أنها تعرف كل شيء عن إدارة الأعمال.
•••
كانت بريندا وزوجها يديران عملًا حرًّا أيضًا. اشتريا مزرعةً جنوب بحيرة لوجان وملآ المخزن فيها بأدوات منزلية مستعملة (التي كان كورنيليس يعرف كيف يصلحها)، وأثاث مستعمل وأشياء أخرى كثيرة: أطباق، وصور، وسكاكين، وشوك، وحليٍّ، ومجوهرات، يُقبِل الناس على شرائها نظرًا لرخص ثمنها. كان اسم المكان مخزن زنت للأثاث. محليًّا، كان الكثير من الناس يشيرون إليه باسم «الأثاث المستعمل على الطريق السريع».
لم يكن هذا عملهما دومًا. كانت بريندا تدرِّس في حضانة أطفال، وكان كورنيليس — الذي يكبرها باثني عشر عامًا — يعمل في منجم الملح في والي، المطل على البحيرة. بعد وقوع الحادث له، كان عليهما أن يفكِّرَا في شيء يمكنه فعله بينما هو جالس معظم الوقت، واستخدما المال الذي كان بحوزتهما في شراء مزرعة قديمة، لكن مبانيها في حالة جيدة. تركت بريندا عملها، نظرًا لكثرة ما كان على كورنيليس عمله بنفسه. كانت تمر ساعات خلال اليوم، وفي بعض الأحيان أيام طوال كان يرقد فقط ويشاهد التليفزيون، أو كان يرقد على أرضية غرفة المعيشة يحاول التكيُّف مع الألم.
في الأمسيات، كان كورنيليس يحب أن يقود الشاحنة إلى والي. لا تبادر بريندا أبدًا بالعرض عليه بأن تقود هي الشاحنة، بل تنتظره أن يبادر قائلًا: «لماذا لا تقودين أنت؟» إذا لم يُرِدْ أن تؤثِّر حركة ذراعيه أو قدميه على ظهره. كان الأطفال معتادين على الذهاب معهم، لكنهم الآن في المرحلة الثانوية — لورنا في الصف الحادي عشر، ومارك في الصف التاسع — ولذلك فهم عادةً لا يرغبون في ذلك الآن. تجلس بريندا وكورنيليس في الشاحنة الواقفة في مكان الانتظار، وينظرون إلى طيور النورس المتراصة حول حائل الأمواج، وصوامع الغلال، والأعمدة الهائلة المُضاءة باللون الأخضر، والممرات المنحدرة التي توصل للمنجم الذي كان كورنيليس يعمل فيه؛ حيث توجد تلال من الملح الرمادي الخشن. في بعض الأحيان، كان يوجد قارب طويل في الميناء. بالطبع، توجد قوارب للتنزُّه في الصيف، وأشخاص يتزلَّجون على المياه، وأناس يصطادون من على رصيف الميناء. كان وقت الغروب يجري الإعلان عنه يوميًّا على لوحة في الشاطئ آنذاك؛ فكان الناس يأتون إلى الشاطئ خصيصى لرؤيته. الآن، في أكتوبر، اللوحة خالية والأنوار مُضاءة بطول الميناء — لا يزال هناك واحد أو اثنان من هواة الصيد يصطادان — ويبدو الماء متلاطم الأمواج وباردًا، ويبدو الميناء كمكان تجاري بحت.
لا يزال ثمة عمل يجري على الشاطئ. منذ أوائل الربيع السابق، وُضعت صخور صلبة في بعض الأماكن، ووضعت رمال في أماكن أخرى، وأنشئ لسان صخري طويل، وكل هذا يُكوِّن معًا حاجزًا لحماية الشاطئ، مع وجود طريق غير ممهَّد بحذائه، كانا يقودان الشاحنة عليه. كان كورنيليس لا يعبأ بظهره؛ فكل ما كان يريده هو أن يشاهد كل هذا. كانت الشاحنات الكبيرة، والجرافات، والبلدوزرات تعمل طوال اليوم، ولا تزال قابعةً هناك، كوحوش طيِّعة ساكنة مؤقتًا، في المساء. هنا يعمل نيل؛ يقود نيل هذه الأشياء، ينقل الصخور في المكان، ويُخلِي المساحات المطلوبة، ويمهِّد الطريق الذي يقود بريندا وكورنيليس شاحنتهما عليه. إنه يعمل لدى شركة فوردايس للمقاولات، ومقرها لوجان، والتي تحظى بعقد تنفيذ هذا المشروع.
ينظر كورنيليس إلى كل شيء. يعرف ما تحمله القوارب (قمح لين، وملح، وذرة) وإلى أين تذهب، ويعرف طريقة تعميق مجرى الميناء، ويريد دومًا أن يُلقِي نظرةً على الأنبوب الهائل الذي يمتد بزاوية إلى الشاطئ ويعبره، مُخرِجًا ماءً ورواسبَ طينيةً وصخورًا من قاع البحيرة الذي لم يَرَ ضوءَ النهار قط. يذهب ويقف بجانب هذا الأنبوب ليستمع إلى الجلبة الجارية داخله، الأصوات المدوية للصخور والمياه التي تهدر في طريقها. يتساءل عمَّا سيفعله شتاءٌ قاسٍ بكل هذه التغييرات والترتيبات إذا أزاحت البحيرة الصخور وما في الشاطئ، ثم طرحتها جانبًا وبدأت في نحر المنحدرات الطينية، مثلما حدث من قبلُ.
تستمع بريندا إلى كورنيليس وتفكِّر في نيل. تشعر بالمتعة في أن تتواجد في المكان الذي يقضي نيل معظم أوقاته. تحب أن تفكِّر في الضوضاء والحركة المستمرة لهذه الآلات وفي الرجال ذوي الأذرع العارية الذين يقودون هذه الآلات القوية في سهولة بالغة، كما لو كانوا يعرفون على نحو طبيعي ما ستفضي إليه هذه الأصوات المدوية والحركة العنيفة التي تتم على الشاطئ. وكذلك شخصياتهم العفوية وحلاوة روحهم. إنها تعشق رائحة العمل في أجسادهم، اللغة التي يتحدثون بها، استغراقهم في أعمالهم، وتجاهلهم لها. ترغب في أن تحصل على رجل خرج لتوِّه من خضم كل ذلك.
عندما تكون هناك مع كورنيليس ولم تَرَ نيل لفترة، تشعر بعدم راحة ووحدة، كما لو كان هذا عالم يدير ظهره لها، لكن بعد لقائها بنيل، تنظر إليه كمملكتها؛ وكل ما فيه ملكها. في الليلة السابقة على الليلة التي يلتقيان فيها — الليلة الماضية، على سبيل المثال — كان يجب أن تشعر بالسعادة والتلهف، لكن في حقيقة الأمر تبدو الأربع والعشرون ساعة الماضية، بل اليومان أو الثلاثة الأخيرة، مليئة أكثر مما ينبغي بالمتاعب، بحيث لم يكن بوسعها أن تشعر إلا بالحذر والقلق. عَدٌّ تنازلي؛ فهي تعد الساعات حقيقةً. لديها ميل إلى ملء الساعات المتبقية بأعمال طيبة؛ أعمال تنظيف في المنزل كانت تؤجِّلها، جز الحشائش، إجراء عملية إعادة ترتيب لمخزن الأثاث، بل انتزاع الحشائش الضارة من الحديقة الصخرية. صباح يوم اللقاء نفسه تمر الساعات أبطأ ما يكون وتمتلئ بالمخاطر. توجد لديها قصة دومًا تختلقها حول المكان الذي من المفترض أن تذهب إليه فيما بعد الظهيرة، غير أن ما ستفعله لا يمكن أن يكون ضروريًّا جدًّا — حيث سيجذب هذا الانتباه أكثر من اللازم إلى الأمر — لذا ثمة احتمال، دومًا، أن يحدث شيء يجعل كورنيليس يقول: «هلا تؤجِّلين ذلك إلى وقت لاحق خلال الأسبوع؟ هلا تفعلين ذلك في يوم آخَر؟» ليس عدم قدرتها على لقاء نيل في هذه الحالة هو ما يزعجها؛ حيث سينتظر نيل ساعةً أو ما إلى ذلك، ثم سيعرف ما حدث، بل هو أنها تعتقد أنها لم تَعُدْ تستطيع تحمُّل الأمر؛ أن تكون على هذا القدر من القرب منه، ثم لا تستطيع أن تقابله. غير أنها لا تشعر بأي اشتياق جسدي خلال ساعات العذاب الأخيرة تلك، حتى استعداداتها السرية — اغتسالها، إزالة الشعر الزائد من جسدها، دهان جسدها بالزيت، والتعطر — لم يكن يثيرها. تظل جامدةً، تؤرقها التفاصيل، الأكاذيب، الترتيبات، حتى اللحظة التي ترى فيها سيارة نيل. كان يتبع الخوفَ من أنها لن تستطيع ترك زوجها للقاء نيل، خلال فترة القيادة التي تستمر خمس عشرة دقيقة؛ الخوفُ من عدم مجيئه إلى هذه البقعة الخالية المتطرفة، عند المستنقع التي هي مكان لقائهما. لعل ما كانت تتطلع إليه، خلال تلك الساعات الأخيرة، شيء غير مادي، شيء إذا فقدته فلن يصبح مثل فقدان وجبة يتوق المرء إليها في جوعه بل مناسبة تعتمد عليها حياتك أو خلاصك.
•••
بحلول الوقت الذي صار نيل فيه مراهقًا أكبر سنًّا — وإن لم يكن كبيرًا بحيث يمكن أن يذهب إلى الحانات، بل كان ما زال يتردد على متجر حلوى فايف بوينتس (احتفظت العائلة الكرواتية بالاسم الأصلي) — كان التغيير قد بدأ، وهو ما يتذكره كلُّ مَن كان حيًّا آنذاك. (هذا ما يعتقد نيل، لكن بريندا تقول: «لا أعرف، بالنسبة إليَّ كان كل ذلك مجرد تغيير في المكان.») أُسقِط في يد الجميع، لم يكن أحد مستعدًّا. كانت بعض المدارس تتشدَّد حيال إطالة الشعر «للصبية»، وظن البعض بإمكانية التغاضي عن ذلك والتركيز على الأمور المهمة. كان كل ما يطلبونه هو ربط الشعر برباط مرن. وماذا عن الملابس، السلاسل، القطع المصنوعة من حبات الخرز، والصنادل المصنوعة من الحبال، والملابس المصنوعة من القطن الهندي، والتطريزات الأفريقية؟ كل شيء صار هكذا فجأةً ناعمًا وفضفاضًا ولامعًا. في فيكتوريا، ربما لم يَجْرِ احتواء التغيير بالقدر الكافي مثلما جرى في أماكن أخرى. تسرَّبَ التغيير. ربما جعل المناخ الناس أكثر لينًا، لا الشباب فقط. كان ثمة انتشار هائل للزهور الورقية وتدخين الماريجوانا والموسيقى (الأشياء التي كانت تبدو غير مألوفة على الإطلاق آنذاك، مثلما يقول نيل، وتبدو الآن عادية جدًّا)، والموسيقى الخارجة من نوافذ مباني وسط المدينة التي كانت تتعانق مع أعلام مرخية، فوق أحواض الزهور في متنزه بيكون هيل بارك، وصولًا إلى الأجمات الصفراء على المنحدرات الصخرية المطلة على البحر، إلى الشواطئ السعيدة المُطلة على القمم السحرية لجبال الأولمب. كان الجميع مشاركًا في الحدث.
•••
كان أساتذة الجامعات يتجولون في الأرجاء واضعين زهورًا خلف آذانهم، وكانت الأمهات تسير تفعل الشيء نفسه. كان نيل وأصدقاؤه يزدرون هؤلاء الناس فطريًّا؛ هؤلاء العجائز الهيبيز الحذرين. دخل نيل وأصدقاؤه عالم المخدرات والموسيقى بشكل جَدِّيٍّ.
عندما كانوا يريدون أن يتعاطوا المخدرات، كانوا يذهبون إلى خارج متجر الحلوى. في بعض الأحيان، كانوا يذهبون إلى أماكن بعيدة مثل المقابر ويجلسون فوق الحاجز البحري. في بعض الأحيان كانوا يجلسون بجانب السقيفة خلف المتجر. لم يكن بإمكانهم الدخول؛ فقد كانت السقيفة مغلقة. ثم كانوا يدخلون متجر الحلوى ويشربون المياه الغازية ويأكلون سندويتشات الهمبورجر والهمبورجر بالجبن والكعك والحلوى المُحلاة بالقرفة؛ لأنهم كانوا يتضورون جوعًا. كانوا يسندون ظهورهم إلى مقاعدهم ويتأملون الزخارف تتحرك في السقف القديم المصنوع من الصفيح المضغوط، الذي قام الكرواتيون بطلائه باللون الأبيض. كانوا يتخيلون الزهور، والأبراج، والطيور، والوحوش، وكأنها تسبح عاليًا فوق رءوسهم.
تقول بريندا سائلةً: «ماذا كنتم تتعاطون؟»
«صنف رائع جدًّا، إلا إذا كان ما اشتريناه فاسدًا؛ حشيشًا، ومواد مهلوسة، وميسكالين في بعض الأحيان، وفي بعض الأحيان مزيجًا من هذا وذاك. أشياء غير ضارة على الإطلاق.»
«أقصى ما فعلته هو أنني دخَّنْتُ ثُلث سيجارة على الشاطئ، حينما لم أكن متأكدة ماذا كان ذلك، وعندما عُدْتُ إلى المنزل صفعني أبي على وجهي.»
(ليست هذه هي الحقيقة؛ كان ذلك كورنيليس، صفعها كورنيليس على وجهها. كان ذلك قبل أن يتزوَّجَا، عندما كان كورنيليس يعمل في الدوام الليلي في المنجم، وكانت هي تجلس في منطقة الشاطئ بعد حلول الظلام مع بعض الأصدقاء من نفس عمرها. في اليوم التالي أخبرته، فصفعها على وجهها.)
كان كل ما فعلوه في متجر الحلوى هو الأكل، وعمل أفعال لا معنى لها، والجلوس في انتشاء، وممارسة ألعاب غبية، مثل عمل سباقات بينهم للسيارات اللعبة على الموائد. في إحدى المرات، رقد أحدهم على الأرض وقاموا برش الكاتشب عليه. لم يعبأ أحد؛ لم يكن زبائن النهار — ربَّات البيوت اللائي كُنَّ يشترين المخبوزات، وأرباب المعاشات الذين كانوا يقضون أوقات فراغهم يحتسون القهوة — يأتون ليلًا قط. كانت الأم وليزا قد عادتا إلى المنزل الذي كانت العائلة تعيش فيه في المقطورة، ثم بدأ الأب في العودة إلى المنزل، بعد فترة قصيرة من وقت العشاء. كانت ماريا هي مَن تبقى بالمتجر. لم تكن تعبأ بما كانوا يفعلونه، طالما لم يسبِّبوا أي خسائر، وطالما كانوا يدفعون.
كان هذا هو عالم المخدرات الذي كان الصبية الأكبر سنًّا ينتمون إليه، العالم الذي أبقوا الصبية الأصغر خارجه. مَرَّ وقت قصير قبل أن يلاحظوا أن الصبية الأصغر كانوا يخفون شيئًا أيضًا؛ كان لديهم عالمهم السري الخاص بهم. كانوا يزدادون وقاحةً وإحساسًا بذواتهم. كان بعضهم يضايقون بشدة الصبية الأكبر سنًّا حتى يشتروا لهم مخدرات. هكذا صار جليًّا كيف كانت تتوفر لديهم بعض الأموال التي مصدرها غير معروف.
لدى نيل الآن أخ أصغر منه يُسمَّى جوناثان. شخص مستقيم جدًّا الآن، متزوج ويعمل مدرسًا. بدأ جوناثان بالتلميح، وهو ما كان يفعله صبية آخَرون، لم يستطيعوا الاحتفاظ بالسر لأنفسهم، وسرعان ما ذاع الأمر. كانوا يحصلون على أموالهم من ماريا. كانت ماريا تدفع لهم ليضاجعوها. كانوا يضاجعونها في السقيفة الخلفية بعد أن تغلق المتجر ليلًا؛ حيث كان لديها مفتاح السقيفة.
كانت تتحكم أيضًا في الدخل اليومي للمتجر. كانت تقوم بإفراغ درج ماكينة الدفع النقدي ليلًا، وكانت تمسك الدفاتر. كان والداها يثقان فيها. لِمَ لا؟ كانت حاذقة في الحساب، وكانت تكرِّس حياتها لإدارة أعمال المتجر. كانت تفهم عمليات إدارة المتجر بالكامل أفضل من والديها. كان يبدو أنهما يشعران بالطمأنينة إزاء الأمور المالية، ولم يكونا يريدان أن يضعا أموالهما في البنك. كانا يضعان الأموال في خزانة أو ربما في صندوق محكَم الغلق في مكان ما، وكانا يأخذان منه قَدْر حاجتهما. لا بد أنهما شعرا أنهما لا يستطيعان الثقة بأحد، أو بالبنوك أو أي شخص، خارج دائرة العائلة. كم كانت ماريا عطية من الرب إليهما! فهي متزنة وذكية، ليست جميلة جدًّا ما يغريها بأن تضع آمالها أو طاقتها في أي شيء آخَر بخلاف إدارة أعمال المتجر. كانت ماريا بمثابة الوتد في العائلة.
كانت أطول بمقدار رأس، وأثقل وزنًا بمقدار ثلاثين أو أربعين رطلًا من هؤلاء الصبية الذين كانت تدفع لهم.
•••
توجد لحظات سيئة قليلة دومًا بعد أن تقود بريندا شاحنتها من الطريق السريع — حيث يكون لديها عذر للقيادة هناك، حال رآها أحد — إلى الطريق الجانبي. كانت شاحنتها لافتة للانتباه، لا يمكن أن يخطئها أحد. لكن بمجرد أن تعزم أمرها وتشرع في الأمر، وهي تقود إلى مكان ليس من المفترض أن تكون فيه، تشعر أنها أقوى. وعندما تقود سيارتها إلى طريق المستنقع المهجور، لا يوجد أي عذر ممكن تقديمه. إذا رآها أحد هنا، فسيكون أمرها قد انتهى. عليها أن تقود مسافة نصف ميل تقريبًا في العراء قبل أن تصل إلى منطقة الأشجار. كانت تأمل في أن تُزرع الذرة، التي كانت ستنمو لارتفاعات طويلة وتخفيها، لكنهم لم يزرعوا ذرة بل فاصوليا. على الأقل لم يجرِ رش الطرق الجانبية هنا؛ كانت الحشائش والطحالب وأجمات التوت قد نمت عاليًا، وإن لم يكن عاليًا بما يكفي لإخفاء شاحنة. كانت هناك أزهار عصا الذهب والصقلاب، قرون بذورها مفتوحة، وكانت عناقيد متدلية من الفواكه السامة البراقة، والكرم البري فوق كل شيء، وتزحف حتى إلى الطريق. وأخيرًا، صارت بريندا في الداخل، دخلت نفق الأشجار؛ شجر أرز وشوكران، وعند الدخول أكثر في المنطقة الأكثر بللًا كانت توجد أشجار الطمراق الرفيعة، والكثير من أشجار القيقب اللينة ذات الأوراق الصفراء والبنية المرقطة. لا يوجد ماء آسن، ولا توجد برك سوداء، حتى في الأماكن القصية في منطقة الأشجار. كانا محظوظين في ظل الصيف الجاف والخريف. كانت ونيل محظوظين، وليس المزارعون؛ فإذا كانت السنة ممطرة، ما كانا سيلجئان لهذا المكان. كانت الأخاديد الصلبة التي تمر عجلات سيارتها فيها ستصبح طينًا لزجًا وكانت النقطة التي تنحرف عندها بالسيارة في آخِر المكان ستصبح مجرد منخفض طيني.
تقع هذه البقعة داخل تلك المنطقة بنحو ميل ونصف الميل. هناك أماكن صعبة في القيادة فيها، تلي منحدرين صغيرين يبرزان من المستنقع، وجسرًا خشبيًّا ضيقًا فوق جدول لا تستطيع أن ترى أي ماء تحته، فقط بعض نباتات قرة العين والقراص المصفرة، التي تمتص غذاءها من الطين الجاف.
يقود نيل سيارة من طراز ميركوري زرقاء قديمة — أزرق قاتم — والتي يمكنها السير في بركة، بقعة من ظلام المستنقعات تحت الأشجار. جاهدت بريندا حتى ترى السيارة، وهي لا تمانع في أن تصل هناك قبله بدقائق، حتى تتمالك نفسها، وتفرد شعرها، وتفحص مكياجها، وترش عنقها (وفي بعض الأحيان بين رجليها أيضًا) بعطر بحقيبة يدها. تصبح قلقة عند مرور أكثر من بضع دقائق. لا تخشى الكلاب البرية أو المعتدين أو الأعين التي تتلصص عليها من بين الأيكات — كانت معتادةً على قطف التوت هنا عندما كانت طفلة؛ وهكذا عرفت هذا المكان. تخاف مما قد لا يكون هناك، لا مما هو موجود؛ غياب نيل، إمكانية تخلِّيه عنها، إنكاره المفاجئ لها. إن هذا يمكن أن يحول أيَّ مكان، أيَّ شيء، إلى مكان قبيح وخطر وغبي. أشجار أو حدائق أو أماكن انتظار أو مقاهي — لا يهم. في إحدى المرات، لم يأتِ؛ كان مريضًا، ربما كان بسبب تسمُّم غذائي أو آلام رهيبة بالرأس بسبب الإفراط في شرب الخمر، والتي لم يصادفها من قبلُ في حياته، مثلما أخبرها عبر الهاتف تلك الليلة، وكان عليها أن تتظاهر أن شخصًا كان يهاتفهم ليبيعهم أريكة. لم تَنْسَ فترة انتظارها قط؛ فقدان الأمل، الحرارة، والبق — كان ذلك في شهر يوليو — وكان جسدها يرشح عرقًا، هنا في شاحنتها، مثل إقرار يائس بالهزيمة.
ها هو، لقد أتى قبلها، تستطيع أن ترى أحد مصابيح السيارة الميركوري عبر ظلال أشجار الأرز الكثيفة. يبدو الأمر كشخص يلقي نفسه بالماء عندما يكون جسده شديد الحرارة، مجروحًا ومقروصًا في كل مكان جرَّاء قطف التوت من الأجمة في الصيف؛ العذوبة المحيطة بالأمر، العطف البارد الذي يغرق جميع مشاكلك في أعماقه الفجائية. تركن بريندا شاحنتها وتعدل من شعرها وتقفز خارجة منها، وتجرب الباب لترى ما إذا كان موصدًا، وإلا سيرسلها نيل على عجل إلى الشاحنة، مثل كورنيليس، لتتأكد من أنها قد أغلقتها. تسير عبر المسافة المشمسة الصغيرة، الأرض التي تتناثر الأوراق عليها، ترى نفسها تسير، مرتدية بنطالها الأبيض الضيق والبلوزة الفيروزية، وحزامًا أبيض متدلِّيًا، وحذاء بكعب عال، وحقيبتها فوق كتفها. امرأة رشيقة، بشرتها بيضاء منمشة، وعيناها زرقاوان تحفهما ظلال وخطوط تحديد زرقاء، والتي تُغلَق على نحو جذَّاب إزاء أي إضاءة. تنعكس الشمس على شعرها الأشقر الضارب إلى الحمرة — والذي تم تصفيفه بالأمس — مثل تاج من البتلات. ترتدي الكعب العالي فقط من أجل قطع هذه المسافة القصيرة، فقط من أجل لحظة عبور الطريق هذه عندما تقع عيناه عليها، من أجل حركة الحوض والطول الزائدين التي يمنحها الكعب إياها.
في الغالب، يتضاجعان في سيارته، هنا تمامًا في مكان لقائهما، رغم أنهما يظلان يخبر كل منهما الآخَر أن ينتظر: توقَّفْ، انتظِرْ حتى نصل إلى المقطورة. تعني «انتظِرْ» عكس ما تشير إليه، بعد برهة. في إحدى المرات، بدآ المضاجعة بينما كانا لا يزالان يقودان. خلعت بريندا بنطالها وتنورتها الصيفية الفضفاضة، غير منبسة بكلمة، ناظرةً إلى الأمام مباشَرةً، وانتهى بهما المطاف بالتوقف على جانب الطريق السريع، مخاطرين في ذلك أيما مخاطرة. الآن، عندما يمران بهذه النقطة، تقول دومًا شيئًا من قبيل: «لا تحِدْ عن الطريق هنا.» أو «يجب أن تُوضَع علامة تحذيرية هنا.»
يقول نيل: «لافتة تاريخية!»
لديهما تاريخ من العلاقة الجسدية، تمامًا مثل العائلات أو الأشخاص الذين يذهبون إلى المدرسة معًا. ليس لديهما أشياء أخرى أكثر من ذلك. لم يتناولا وجبة واحدة معًا، أو يشاهِدَا فيلمًا. مع ذلك، يمران معًا ببعض المغامرات المعقَّدَة والأخطار، ليس فقط مغامرة من نوع التوقف على جانب الطريق السريع للمضاجعة. ويقومان بأشياء خطرة، كلٌّ يُدهِش الآخَر بها، على نحوٍ صحيح دومًا. في الأحلام، يراودك إحساس أنك شاهدت هذا الحلم من قبلُ، أن هذا الحلم يتكرر مرارًا، وتعلم أن الأمر ليس على هذا النحو من البساطة. تعلم أن ثمة نظامًا خفيًّا كاملًا يُطلَق عليه اسم «الأحلام»، بما أنه ليس ثمة اسم أفضل تُطلِقه عليه، وأن هذا النظام لا يُشبِه الطرق أو الأنفاق، بل يشبه أكثر الشبكة الجسدية الحية، التي تنكمش وتتمدد كلها، والتي تكون غير متوقَّعة لكنها مألوفة في نهاية المطاف؛ حيث توجد أنت الآن، حيث كنتَ دومًا. كانت الأمور تمضي على هذا النحو معهما ومع الجنس، تسير إلى مكانٍ كذلك، وكانا يفهمان الأشياء نفسها حول الأمر برمته ويثقان أحدهما في الآخر، حتى الآن.
في مرة أخرى على الطريق السريع، رأت بريندا سيارة بيضاء ذات غطاء قابل للطي، سيارة بيضاء قديمة من طراز موستانج غير مكشوفة تقترب — كان ذلك في الصيف — فاختبأت في أرضية السيارة. قالت: «مَن في تلك السيارة؟ انظر، سريعًا، قُلْ لي.»
قال نيل: «فتياتٌ، أربع أو خمس فتيات يبحثن عن شباب.»
قالت بريندا مختبئةً مرة أخرى: «ابنتي! من الجيد أنني لم أربط حزام الأمان.»
«هل لديك ابنة كبيرة بما يكفي كي تقود سيارة؟ وهل ابنتك تمتلك سيارة ذات غطاء قابل للطي؟»
«سيارة صديقتها. لا تقود لورنا بعدُ، لكنها تستطيع؛ فهي تبلغ من العمر ستة عشر عامًا.»
شعرت أن ثمة أشياء كان يمكن أن يتفوَّه بها، والتي أملت ألَّا يفعل. الأشياء التي يشعر الرجال أنهم مدفعون لقولها عن الفتيات الصغيرات.
قالت بريندا: «كان من الممكن أن يكون لديك فتاة في مثل عمرها … ربما لديك مثلها، لكنك لا تعرف. لقد كذبَتْ عليَّ هي أيضًا، كانت تقول إنها ذاهبة لتلعب التنس.»
مرةً أخرى لم يقل شيئًا كانت تأمل ألَّا تسمعه، أي إشارة خبيثة تذكِّرها بالكذب. لقد مَرَّ الخطر.
كلُّ ما قاله هو: «لا عليك، خذي الأمور ببساطة. لم يحدث شيء.»
لم يكن لديها سبيل لمعرفة كم كان يفهم مشاعرها في تلك اللحظة، أو ما إذا كان يفهم أي شيء عنها على الإطلاق. لم يذكرا كورنيليس قطُّ، رغم أنه كان الشخص الذي تحدَّث نيل إليه أولًا عندما جاء إلى مخزن الأثاث. كان يبحث عن درَّاجة، دراجة رخيصة كي يقودها في الطرق الريفية. لم يكن لديهما أي درَّاجات آنذاك، لكنه لم يرحل وظلَّ يتحدث مع كورنيليس لفترة، عن نوع الدراجة التي يريدها، عن طرق إصلاح أو تحسين هذا النوع من الدراجات، عن كيف يمكن أن يجدا درَّاجةً مثل التي يريدها. قال إنه سيمر عليهما مرة أخرى. حدث ذلك فعلًا، في وقت قريب جدًّا، ولم يكن هناك سوى بريندا. كان كورنيليس قد ذهب إلى المنزل ليستريح قليلًا، كان ذلك اليوم أحد الأيام الصعبة بالنسبة إليه. أوضح نيل وبريندا أحدهما إلى الآخر كلَّ شيء آنذاك، على الرغم أنهما لم يقولا شيئًا محدَّدًا. عندما هاتفها نيل وطلب منها أن تحتسي معه شرابًا، في حانة على طريق البحيرة، كانت تعلم ماذا كان يقصد وكانت تعلم كيف سترد عليه.
أخبرته أنها لم تفعل شيئًا كذلك من قبلُ قط. كانت تلك كذبة من ناحية، وكان ذلك صحيحًا من ناحية أخرى.
•••
خلال ساعات عمل المتجر، لم تجعل ماريا التعاملات تتداخل بعضها مع بعض. كان الجميع يدفع مثلما هو معتاد. لم تكن تتصرف بطريقة مختلفة على الإطلاق؛ كانت لا تزال مسئولة عن أمور المتجر. كان الصبية يعلمون أن لديهم قوة تفاوضية، لكنهم لم يكونوا واثقين قط إلى أي مدى؛ دولار، دولارين، خمسة دولارات. لم يكن الأمر كما لو كان أن عليها أن تركن إلى واحد أو اثنين منهما. كان ثمة دومًا أصدقاء في الخارج، منتظرين وراغبين، وكانت تصطحب أحدهم إلى السقيفة قبل أن تستقل الحافلة إلى المنزل. حذَّرتهم أنها ستتوقف عن التعامل معهم إذا تفوَّهوا بكلمة، وصدَّقوها لفترة. لم تكن تستخدمهم بانتظام في البداية، أو كثيرًا جدًّا.
كان ذلك في البداية. مع مرور أشهر قليلة، بدأت الأمور تتغير. تزايدت احتياجات ماريا. صارت عملية التفاوض أقل سريةً وأكثر صعوبةً. شاع الأمر. تقلَّصَتْ سلطة ماريا، ثم سُحِقَتْ سحقًا.
«هيا ماريا، أعطني عشرة دولارات. أنا أيضًا. ماريا، أعطني عشرة دولارات أنا أيضًا. هيا ماريا، تعرفينني جيدًا.»
«عشرين دولارًا ماريا. أعطني عشرين دولارًا هيا. عشرين دولارًا. أنت مدينة لي ماريا. هيا الآن. لا ترغبين في أن أخبر أحدًا. هيا ماريا.»
«عشرون، ثم عشرون، عشرون». ماريا تستسلم. تذهب إلى السقيفة كل ليلة. ثم بدأ بعض الصبية في الرفض، وكأن ليس لديها ما يكفيها من متاعب. يريدون المال أولًا. يأخذون المال ثم يرفضون. يقولون إنها لم تدفع لهم. كانت تدفع لهم، كانت تدفع لهم أمام شهود، وكان الشهود ينكرون ذلك. يهزون رءوسهم، ويسخرون منها. «لم تدفعي له قط. لم أرك قط. ادفعي لي الآن وسأذهب. أعدك بأن أفعل. سأذهب. ادفعي لي عشرين دولارًا ماريا.»
وها هم الصبية الأكبر سنًّا، الذين عرفوا من أشقائهم الأصغر ماذا يجري، يأتون إليها عند ماكينة الدفع النقدي ويقولون: «ماذا عني ماريا؟ تعرفينني أنا أيضًا. هيا ماريا، ماذا عن عشرين دولارًا؟» هؤلاء الفتية لا يذهبون معها إلى السقيفة أبدًا. هل كانت تظن أنهم سيفعلون؟ لا يَعِدونها حتى بذلك، لا يسألونها إلا مالًا فقط. «أنت تعرفينني منذ فترة طويلة ماريا.» يهدِّدون ويتملقون: «أَلَسْتُ صديقكِ أنا أيضًا، يا ماريا؟»
لم يكن أحدٌ صديقًا لماريا.
كان هدوء ماريا الوقور المترقب قد ذهب. صارت شرسة، ومتجهمة، وخبيثة. بينما كانت ترمقهم بنظرات مفعمة بالكراهية، واصلت إعطاءهم المال، واصلت إعطاءهم الدولارات. لا تحاول حتى أن تتفاوض، أو تجادل، أو ترفض، بعد الآن. في إحدى نوبات غضبها العارم فعلت ذلك، غضب عارم صامت. كلما زادت إهاناتهم لها، كانت الأوراق المالية فئة العشرين دولارًا تطير خارجة من درج ماكينة الدفع النقدي. لم تفعل إلا أقل القليل، ربما لا شيء، لكسب مودتهم الآن.
كان نيل وأصدقاؤه منتشين طوال الوقت. طوال الوقت الآن توفَّر لديهم هذا المال. يرون تدفقات جميلة لذرات متطايرة من أسطح موائد الفورميكا. تهرب أرواحهم المغيبة من تحت أظافر أصابعهم. ذهب صواب ماريا، واستنزفت أموال المتجر. كيف يمكن أن يستمر ذلك؟ ما نهاية ذلك كله؟ يجب أن تلجأ ماريا الآن إلى صندوق المال محكَم الإغلاق؛ لا تكاد تكفيها الأموال في درج ماكينة الدفع النقدي بنهاية اليوم. وتظل أمها تُعِدُّ المخبوزات طوال الوقت وتصنع البيروغة، ويظل الأب يكنس الممر الجانبي ويحيي الزبائن. لم يخبرهم أحد بالأمر، وتمضي بهم الأمور كالمعتاد.
كان يجب أن يعرفا بأنفسهما. وجدا فاتورةً لم تدفعها ماريا — شيئًا من هذا القبيل، شخص أتى معه فاتورة غير مدفوعة — وذهبا لأخذ مال لتسديدها، فلم يجدا أي نقود. لم يكن ثمة مال حيث كانوا يحتفظان به، في خزانةٍ، أو صندوقٍ محكَمِ الإغلاق، أو أي شيء من هذا القبيل، ولم يكن موجودًا في أي مكان آخَر؛ ذهب المال. هكذا عرفوا بالأمر.
أنفقت ماريا كل المال، كل ما ادَّخَروه، كل أرباحهم التي تراكمت ببطء، كل الأموال التي كانوا يديرون عملهم من خلالها. حقًّا، كل شيء! لا يستطيعون دفع الإيجار الآن، لا يستطيعون دفع فاتورة الكهرباء أو الدفع لموردي بضائعهم. لا يستطيعون الاستمرار في إدارة متجر الحلوى. على الأقل، اعتقدوا أنهم لا يستطيعون ذلك. ربما لا يملكون الحماس اللازم للاستمرار في إدارة المتجر.
أُغلِق المتجر. وُضِعت لافتة على الباب تقول: «مغلق حتى إشعار آخَر.» مَرَّ عام كامل قبل إعادة فتح المتجر. تحوَّل المتجر إلى مغسلة قائمة على الخدمة الذاتية.
قال الناس إن السبب في ذلك كان أم ماريا، تلك المرأة الضخمة الخنوعة المحنية، التي أصرت على إثبات التهمة على ابنتها. كانت مذعورة من اللغة الإنجليزية وماكينة الدفع النقدي، لكنها دفعت بماريا إلى المحكمة. بالطبع، أُدِينت ماريا لكنها كحَدَثٍ جرى إيداعها في مكان لرعاية الأحداث، ولم يكن ثمة شيء يمكن عمله حيال الصبية على الإطلاق. كذبوا كلهم على أي حال؛ قالوا إنهم لا علاقة لهم بالأمر. لا بد أن والدَيْ ماريا وجَدَا عملًا، لا بد أنهما واصَلَا العيش في فيكتوريا؛ نظرًا لأن ليزا واصلت العيش فيها. كانت لا تزال تسبح لدى مسابح جمعية الشبان المسيحيين، وخلال بضع سنوات كانت تعمل في متجر إيتون في مجال مستحضرات التجميل. كانت ساحرة ومتغطرسة جدًّا آنذاك.
•••
يحضر نيل فودكا وعصير برتقال دومًا ليشرباهما هو وبريندا. هذا اختيار بريندا. قرأت في موضع ما أن عصير البرتقال يجدِّد فيتامين سي الذي تستنزفه المشروبات الكحولية، وهي تأمل ألَّا يلاحظ أحدٌ أنها احتست الفودكا من خلال رائحة فمها. ينظِّم نيل الأشياء داخل المقطورة، أو هكذا تعتقد؛ نظرًا للحقيبة الورقية الممتلئة بعلب الجعة الموضوعة على خزانة المؤن، وكومة من الصحف المكبوسة معًا — غير المثنية في حقيقة الأمر — وزوج الجوارب الموضوع في أحد الأركان. ربما يفعل زميله في السكن ذلك؛ رجل يُدعَى جاري، لم تقابله بريندا قط أو ترى صورةً له، ولن تعرفه إذا التقيا في الشارع. هل سيعرفها هو؟ يعرف أنها تأتي هنا، ويعرف متى؛ هل يعرف حتى اسمها؟ هل يميز عطرها، رائحة علاقتها الجنسية مع نيل، عندما يعود إلى البيت في المساء؟ تحب المقطورة، النحو الذي لا يبدو أي شيء فيها منظمًا أو دائمًا. توُضَع الأشياء حيثما تصبح مناسبةً. لا توجد ستائر أو حصائر طعام، ولا توجد حتى زجاجات ملح وفلفل، فقط ملاحة وعلبة فلفل، مثلما تأتي من المطعم. تعشق رؤيةَ فراشِ نيل غيرَ مرتَّب، عليه غطاء فوقه نقوش مربعة، ووسادة مستوية، ليس فراش زوجين أو فراش مرض وراحة وتعقيد، بل فراش شهوته ونومه، وكلاهما مجهد وداعٍ إلى الغفلة. إنها تحب حياة جسده، على يقين تام بحقوقه. تريد أوامر منه لا طلبات. تريد أن تصبح مرتعه.
لا يزعجها قليلًا إلا قذارة الحمام، مثل قذارة أي شخص آخَر، وترغب في أن يهتما أكثر بتنظيف الحمام وحوض الاغتسال.
يجلسان إلى المائدة لاحتساء الشراب، ينظران إلى الخارج عبر نافذة المقطورة إلى ماء البحيرة الفولاذي، المتلألئ المضطرب. الأشجار هنا — نظرًا لأنها مكشوفة للرياح التي تهب على البحيرة — عارية تقريبًا من الأوراق. هياكل شجر البتولا والحور متصلبة وبرَّاقة والقش يحيط بالماء. ربما تكون هناك ثلوج خلال شهر، وبالتأكيد خلال شهرين. سيجري إغلاق طريق البحر، وربط القوارب الصغيرة في الشتاء، وسيكون ثمة مساحة ثلجية رائعة من الشاطئ إلى المياه. يقول نيل إنه لا يعرف ماذا سيفعل، بمجرد انتهاء العمل في الشاطئ. ربما سيبقى، ويحاول الحصول على وظيفة أخرى. ربما سيتقدَّم بطلب تأمين بطالة لفترة، ويشتري عربة ثلجية، ويستمتع بالشتاء، أو قد يرحل ويبحث عن وظيفة في مكان آخَر، ويزور الأصدقاء. لديه أصدقاء في جميع أنحاء أمريكا الشمالية وخارجها، ولديه أصدقاء من بيرو.
تقول بريندا: «ماذا حدث بعد ذلك؟ هل لديك أدنى فكرة عمَّا حدث لماريا؟»
يقول نيل: لا، ليس لديه أدنى فكرة عنها.
لن تبرح القصة بريندا وشأنها؛ فستلازمها مثل طبقة على اللسان، مذاق في الفم.
تقول بريندا: «حسنًا، ربما تزوَّجت بعد أن خرجت. تتزوج كثيرات ممَّن هُنَّ لَسْنَ على قدر كبير من الجمال. هذا مؤكد. ربما فقدت بعض الوزن وتبدو أجمل.»
يقول نيل: «مؤكَّد … ربما يدفع رجال لها، وليس العكس.»
«أو ربما لا تزال قابعةً في واحد من تلك الأماكن، تلك الأماكن التي يضعون الناس فيها.»
تشعر بألم الآن بين رجليها، أمر معتاد بعد واحد من هذه اللقاءات. إذا كانت ستقف في هذه اللحظة، فكانت ستشعر بارتجاف في ذلك المكان، ستشعر بأن الدماء تتدفق ثانيةً عبر الأوردة والشرايين الصغيرة جميعها التي جرى سَحْقها وجرحها، ستشعر بنفسها ترتجف مثل بثرة كبيرة منتفخة.
ترتشف رشفةً طويلةً وتقول: «إذن، كم استطعت أن تحصل منها؟»
يقول نيل: «لم أحصل على أي شيء على الإطلاق؛ كنتُ فقط أعرف هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يفعلون ذلك. لقد كان أخي جوناثان هو مَن يأخذ منها أموالًا. أتساءل عمَّا سيقوله إذا ذكَّرْتُه بالأمر الآن.»
«الصِّبْيَة الأكبر أيضًا! كنتَ تقول: إن الصِّبْيَة الأكبر كانوا يعرفون. لا تقل لي إنك كنتَ فقط تشاهد ما يحدث ولم تحصل على نصيبك.»
«إن ما «أقوله» لكِ هو الحقيقة، لم أحصل على شيء البتة.»
طقطقت بريندا بلسانها تعبيرًا عن امتعاضها، وأفرغت محتويات الكأس في فمها ثم حركته على المائدة، وهي تنظر في ريبة إلى الدوائر التي بداخله.
يقول نيل: «هل تريدين كأسًا آخَر؟» يتناول الكأس منها.
تقول له: «عليَّ أن أذهب … حالًا.» ربما تضاجِع أحدًا في عجلة إذا كان هذا ضروريًّا، لكنك تحتاج إلى وقت كي تتعارك معه. هل هذا هو ما هما في طريقهما إليه؟ عراك؟ تشعر بالتوتر لكنها سعيدة. سعادتها قصيرة وخاصة، ليست سعادة من ذلك النوع الذي يفيض خارجك ويلون كل شيء من حولك، ويجعلك غير مكترث في أريحية بما تقول. العكس تمامًا؛ تشعر بالخفة والتوتر والتشرذم. عندما يأتيها نيل بكأس آخَر ممتلئ، تتجرع رشفةً واحدةً منه مباشَرةً، حتى تحافِظ على هذا الإحساس.
تقول: «اسمك كاسم زوجي! من المضحك أنني لم أفكر في ذلك من قبلُ.»
كانت قد فكَّرت في ذلك من قبلُ. لم تذكر ذلك فقط من قبلُ، ظانَّةً أن هذا شيئًا لن يحب نيل أن يسمعه.
يقول: «كورنيليس ليس كنيل.»
«هذا اسم هولندي. وبعض الهولنديين يختصرون الاسم إلى نيل.»
«حسنًا، لكنني لستُ هولنديًّا، واسمي ليس كورنيليس، بل نيل.»
«لكن يظل الأمر أن اسمه إذا جرى اختصاره كنتَ ستُدعَى مثله.»
«اسمه ليس مختصرًا.»
«لم أقل ذلك. قلتُ إذا كان سيجري اختصاره.»
«إذن، لماذا تقولين إذا لم يُختصَر؟»
لا بد أن شعورًا مماثلًا يراوده هو أيضًا؛ ذلك الصعود البطيء الذي لا يُقاوَم لانفعال جديد، الحاجة إلى قولِ وسماعِ أشياء سيئة. يا لها من متعة جامحة ومحرِّرة للمشاعر التي توجد في الحركة الأولى! ويا له من إغراء مثير للاستمرار، والذي سيؤدي حتمًا إلى خراب! لا تستطيع أن تتوقف من أجل التفكير في السبب عن حاجتكَ إلى ذلك الخراب. فأنت تفعل ذلك وحسب.
يسأل نيل فجأةً: «لماذا علينا أن نشرب في كل مرة؟ هل نرغب في أن نتحول إلى مدمني كحوليات أو شيء من هذا القبيل؟»
ترتشف بريندا رشفة سريعة وتدفع بكأسها بعيدًا، وتقول له: «مَن عليه أن يشرب؟»
تعتقد أنه يقصد أنهما يجب أن يشربا القهوة، أو المشروبات الغازية، لكنه ينهض ويذهب إلى التسريحة حيث يحتفظ بملابسه، ويفتح درجًا، ويقول لها: «تعالي إلى هنا.»
تقول له: «لا أريد أن أرى أيًّا من هذه الأشياء.»
«أنت لا تعرفين أصلًا ما يوجد هنا.»
«بالطبع أعرف.»
بالطبع هي لا تعرف، ليس على وجه التحديد.
«هل تظنين أن شيئًا ما سيعضك؟»
ترتشف بريندا رشفةً أخرى من كأسها وتظل تنظر خارج النافذة. تبدأ الشمس في الغروب، دافعةً بضوئها البرَّاق عبر المائدة لتدفئ يديها.
يقول نيل: «أنت ترفضين؟»
تقول: «أنا لا أرفض أو أقبل.» بدأت تشعر أنها فقدت بعض السيطرة، بعدم السعادة مثلما كانت تشعر. «لا أعبأ بما تفعل؛ هذا شأنك.»
يقول نيل في نبرة رقيقة متكلفة: «أنا لا أرفض أو أقبل! … لا أعبأ بما تفعل!»
هذه هي الإشارة، التي كان على أحدهما أن يعطيها. لمحة كراهية، وَضَاعَة محضة، مثل ومضة نصل. إشارة على أن العراك سيبدأ من فوره. أخذت بريندا رشفةً كبيرةً، كما لو كانت تستحقها. تشعر برضاء بائس. تقف وتقول: «حان موعد ذهابي.»
يقول نيل: «ماذا لو كنتُ غير مستعدٍّ للذهاب بعدُ؟»
«أتحدَّثُ عن نفسي، ليس أنت.»
«أوه! هل شاحنتك بالخارج؟»
«أستطيع أن أسير.»
«لكن المسافة إلى شاحنتك تبلغ خمسة أميال.»
«سار الناس خمسة أميال من قبلُ.»
يقول نيل متعجِّبًا: «في حذاء كهذا؟!» نظر كلاهما إلى حذائها الأصفر، الذي يتوافَق لونه مع الطيور المطرزة من الستان على سترتها فيروزية اللون. كانت قد اشترتهما وارتدهما من أجله!
يقول: «أنت لم ترتدي هذا الحذاء للسير به … أنت ترتدينه حتى تُظهِر كلُّ خطوة تخطينها مؤخرتَكِ الكبيرة.»
•••
تسير في الطريق المحاذي لشاطئ البحيرة، في الحصى، وهو ما جرح قدميها عبر الحذاء، وجعلها تنتبه إلى كل خطوة تخطوها؛ تحسُّبًا أن يلتوي كاحلها. يعتبر الطقس الآن في ذلك الوقت — في فترة ما بعد الظهيرة — أبرد من أن تكتفي بارتداء سترة. تهب الرياح على البحيرة على جانبيها، وفي كل مرة تمر مركبة — خاصةً الشاحنة — تدور دوامة من الرياح الجافة حولها وترتطم حبات الرمل بوجهها. تبطئ بعض الشاحنات بالطبع، وكذلك بعض السيارات أيضًا، ويصيح الرجال فيها عبر النوافذ. تتوقف إحدى السيارات على نحو مباغت على الحصى أمامها. تقف جامدة، لا تستطيع أن تفكِّر فيما عساها أن تفعل، وبعد لحظة تتحرك السيارة بقوة ثانية ناحية الرصيف ثم تبدأ هي في السير مجدَّدًا.
هذا جيد، فهي ليست في خطر حقيقي. لا تقلق حتى أن يراها أحد يعرفها. تشعر أنها حرَّة أكثر من أن تعبأ بأي شيء. تفكِّر في المرة الأولى التي أتى نيل فيها إلى مخزن الأثاث، وفي طريقة وضعه لذراعه حول عنق شمشون، وقوله له: «ليس هذا كلب حراسة، سيدتي.» كانت تعتقد أن كلمة «سيدتي» وَقِحة مصطنعة، مستقاة من أحد أفلام ألفيس بريسلي القديمة. وكان ما قاله بعد ذلك أسوأ. نظرت إلى شمشون، وقالت: «هو أفضل ليلًا.» وقال نيل: «وأنا أيضًا.» وقح متغطرس متعالٍ، هكذا ظنَّتْ. وهو ليس صغيرًا بما يكفي حتى يمكن التغاضي عن ذلك. لم يتغير رأيها كثيرًا في المرة الثانية. ما حدث هو أن كل ذلك صار شيئًا لا بد من تخطِّيه. كان بمقدورها أن تبين له أن ليس عليه أن يتصرف على هذا النحو. كانت مهمتها أن تتلقى هداياه بجدية، بحيث يكون هو جادًّا أيضًا، وأَرْيَحِيًّا وممتنًا. كيف كانت متأكدة مبكرًا هكذا أن ما لم يعجبها فيه لم يكن حقيقيًّا؟
بعد أن تجاوزت الميل الثاني، أو ربما النصف الثاني من الميل الأول، لحقت بها السيارة الميركوري. تقف السيارة فوق الحصى عبر الطريق. تمضي إليها وتدخلها. لا ترى سببًا في ألَّا تفعل ذلك. لا يعني ذلك أنها ستتحدث إليه، أو أن تكون معه مدة أطول من الدقائق القليلة التي ستستغرقها القيادة إلى طريق المستنقع والشاحنة. لا يجب أن يكون وجوده مؤثِّرًا عليها تمامًا مثل حبات الرمل المتطايرة على جانبَي الطريق.
تفتح النافذة بالكامل حتى يشوِّش تيار الريح البارد على أي شيء ربما يريد أن يقوله.
يقول: «أريد أن أعتذر عن التعليقات الشخصية التي بدَرَتْ مني.»
ترد: «لِمَ؟ هذا صحيح. مؤخرتي كبيرة.»
«لا.»
تقول: «بل هي كذلك.» في نبرة ختامية صادقة يائسة. يخرسه ذلك بضعة أميال، حتى يستديرا عبر طريق المستنقع ويقودان عبر الأشجار.
«إذا كنتِ تظنِّينَ أن ثمة إبرة في الدرج، فهذا غير صحيح.»
ترد: «ليس من شأني على الإطلاق أن أعرف ما كان في الدرج.»
«كل ما كان هناك هو بعض المسكنات والمهدئات وبعض الحشيش.»
تتذكَّر شجارًا مع كورنيليس، شجارًا كاد أن يفضي إلى فسخ خطبتهما. لم تكن هذه هي المرة التي صفعها على وجهها فيها لتدخينها الماريجوانا. استطاعا تجاوُزَ ذلك سريعًا. لم يكن الأمر يتعلق بأي شيء في حياتهما. كانا يتحدثان عن رجل كان كورنيليس يعمل معه في المنجم، وزوجته وطفلهما المعاق ذهنيًّا. قال كورنيليس: إن هذا الطفل كان متخلِّفًا، وكان كل ما يفعله هو التحدث بكلام غير مفهوم في مكان منعزل بأحد أركان غرفة المعيشة والتبرز في بنطاله. كان الطفل يبلغ من العمر ستة أو سبعة أعوام، وكان ذلك هو كل ما كان يفعله. قال كورنيليس إنه يعتقد أن أي شخص لديه طفل كذلك له الحق في التخلُّص منه. قال إن ذلك ما كان سيفعله. لا مراء في ذلك. هناك طرق كثيرة يمكن من خلالها عمل ذلك والإفلات من العقاب، وراهَنَ أن كثيرًا من الناس يفعلون ذلك. تشاجَرَ هو وبريندا شجارًا عنيفًا حول ذلك، لكن طوال وقت جدالهما وعراكهما كانت بريندا تشك في أن هذا شيئًا لم يكن كورنيليس ليفعله حقيقةً. كان شيئًا عليه أن يقول إنه سيفعله. يقوله لها. بالنسبة إليها، كان عليه أن يصر أنه سيفعل هذا، وهو ما جعلها تغضب أكثر منه مما لو كانت تعتقد أنه صادق تمامًا ومباشِر بشكل قاسٍ فيما يقول. أرادها أن تناقش معه هذا الأمر. أراد أن يرى اعتراضها، رعبها. ولِمَ ذلك؟ يريد الرجال أن يختلقوا أمورًا من لا شيء، مثل التخلص من طفل معاقٍ ذهنيًّا، أو تعاطي المخدرات، أو قيادة السيارات بسرعة وطيش شديدين. ولِمَ ذلك؟ حتى يتباهوا بإظهار طبيعتهم القاسية المصطنعة إزاء طيبتك الأنثوية الغضة؟ حتى يستسلموا لكِ في النهاية متبرمين، ولا يكون عليهم أن يتظاهروا بالسوء والطيش بعد ذلك؟ مهما كان من أمر، فأنت تسأمين من ذلك.
في حادث المنجم، كان من الممكن أن يُسحَقَ كورنيليس حتى الموت. كان يعمل في الدوام الليلي عندما وقعت الحادثة. يُحفر قطع سفلي في الجدران الكبيرة للصخور الملحية، ثم تُحفر ثقوب لوضع المتفجرات فيها، ثم تُركَّب وصلات المتفجرات؛ حيث يقع انفجار كل ليلة قبل خمس دقائق من منتصف الليل. تتفكَّك شريحة الملح الهائلة، لتبدأ رحلتها إلى السطح. رُفع كورنيليس في قفص في نهاية ذراع رافعة. كان عليه أن يُزِيل المادة المتكسرة الموجودة على السقف ويثبت الوصلات في مكانها من أجل تنفيذ عملية التفجير. حدثت مشكلة في أدوات التحكم الهيدروليكية التي كان كورنيليس يشغلها. توقف كورنيليس في مكانه، وحاول إعادة تشغيلها لكن تيارًا زائدًا تسبب في جعله يندفع في قوة إلى الأعلى، بحيث رأى السقف الصخري يُطبِق عليه مثل غطاء. خفض رأسه، وتوقَّفَ القفص، وصدمه نتوءٌ صخريٌّ في ظهره.
كان كورنيليس قد عمل في المنجم مدة سبعة أعوام قبل هذه الحادثة، وكان بالكاد يتحدَّث إلى بريندا عن طبيعة العمل فيه. ها هو الآن يُخبِرها. يقول: إن هذا عالم قائم بذاته، كهوف وأعمدة، تمتد أميالًا تحت البحيرة. إذا دخلتَ ممرًّا لا توجد معكَ آلات تضيء الجدران الرمادية — الهواء المليء بالغبار الملحي — وأغلقتَ مصباح الرأس، فستعرف معنى الظلام على حقيقته؛ الظلام الذي لا يراه الأشخاص الموجودون على سطح الأرض أبدًا. تبقى الآلات في الأسفل إلى الأبد. يجري تجميع بعضها في الأسفل، تُؤخَذ إلى الأسفل في أجزاء، ويجري تركيبها جميعًا بالأسفل، وأخيرًا، يجري فحصها جيدًا للحصول على الأجزاء الصالحة للاستخدام فيها قبل خروجها من الخدمة، ثم يجري وضعها في ممر مغلَق، والذي يُعَدُّ بمثابة مقبرة لهذه الآلات. تُصدِر هذه الآلات ضوضاء هائلة عندما تعمل، وتشوش الضوضاء التي تصدر عنها وعن مراوح التهوية على أي صوت إنساني. والآن توجد آلة جديدة تستطيع القيام بما ذهب كورنيليس في القفص لعمله؛ تستطيع تلك الآلة تنفيذ العمل بمفردها، دون تدخُّلٍ من إنسان.
لا تعرف بريندا ما إذا كان يتوق إلى العمل بالمنجم. إنه يقول لا. يقول إنه لا يستطيع النظر إلى سطح الماء دون أن يتصوَّر كل شيء تحته، وهي أشياء لا يستطيع أحدٌ لم يَرَها أن يتخيَّلَها.
•••
يسير نيل وبريندا بالسيارة تحت الأشجار، حيث لا تكاد تشعر بالرياح على الإطلاق.
يقول نيل: «بالمناسبة، أخذت بعض المال. حصلتُ على أربعين دولارًا، وهي — مقارنةً ببعض ما حصل عليه الصِّبْيَة الآخرون — شيء لا يُذكَر. أقسم أن هذا هو كل شيء، أربعين دولارًا. لم أحصل على أكثر من ذلك.»
لم تنبس ببنت شفة.
يقول: «لم أكن أتوقَّع أن أعترف بالأمر. كنتُ فقط أريد أن أتحدَّث عنه، ثم إن ما يضايقني هو أنني كذبتُ على أي حال.»
الآن تستطيع أن تسمع صوته بصورة أفضل، وتلاحظ أن صوته على وتيرة واحدة ومتعب مثل صوتها. ترى يديه على عجلة القيادة وتفكِّر في مدى صعوبة محاولة وصف كيف يبدو. من على بُعْدٍ — في السيارة، منتظرًا إياها — يبدو دومًا شيئًا برَّاقًا يخطف الأبصار، حضوره بارز وواعد. عند الاقتراب منه، يمتلك بعض المناطق المتعارضة؛ بشرة حريرية أو خشنة، شعر منتصب أو ذقن حليقة بها بعض الشعيرات، روائح فريدة أو مشتركة مع رجال آخرين. لكن هناك نوع من الحيوية؛ صفة فيه تراها في أصابعه القصيرة البليدة، أو الانحناءات الضاربة إلى السمرة في جبهته، وحتى تسمية ذلك بحيوية لا يُعتبَر وصفًا دقيقًا؛ يُعتبَر ذلك مثل طاقة تنبعث منه، تصعد من الجذور، واضحة ومتحركة، تملؤه كله. هذا هو ما أرادتْ أن تتبعه؛ الطاقة، التيار، تحت الجلد، كما لو كان ذلك هو الشيء الوحيد الحقيقي.
إذا حولت بصرها إلى جانبها الآن، فستراه على حقيقته؛ تلك الجبهة المنحنية الضاربة إلى السمرة، الحافة المتراجعة من شعر بني متجعد، وحواجب ثقيلة بها بعض الشعر الرمادي، عينان عميقتان لونهما فاتح، وفم طلق، متجهم وأبيٌّ. رجل صبياني آخِذٌ في الكبر، على الرغم من أنها لا تزال تشعر بخفته وحيويته، وهو يعلوها عندما يضاجعها، في مقابل جسد كورنيليس الذي يقبع فوقها في امتلاك، مثل أطنان من الأغطية. مسئولية، هكذا تشعر بريندا حينها. هل ستشعر بالمثل حيال هذا الرجل أيضًا؟
يستدير نيل بالسيارة، ويشير إلى أنها الآن مستعدة للعودة، وأن الوقت قد حان لها كي تخرج من السيارة وتذهب إلى شاحنتها. يرفع يديه عن عجلة القيادة أثناء دوران المحرك، ويحرك أصابعه، ثم يمسك بعجلة القيادة بقوة مرة أخرى، بقوة شديدة، حتى تكاد تظنها تنفجر. يقول: «يا إلهي! لا تخرجي من السيارة الآن! لا تخرجي من السيارة!»
لم تضع حتى يدًا على مقبض الباب، لم تبادر بحركة تشير إلى انصرافها. أَلَا يعرف ما يجري؟ ربما يحتاج المرء إلى المرور بخبرة الدخول في الكثير من المعارك الزوجية حتى يفهم الأمر، حتى يعرف أن ما تفكِّر في أنه النهاية — ولفترة ما تأمَل ذلك — بالنسبة إليك، ربما لا يمثل إلا بداية مرحلة جديدة، استمرار للعلاقة. هذا هو ما يحدث، هذا ما قد حدث. لقد فقد بعض بريقه بالنسبة إليها، وربما لا يستطيع استرجاعه أبدًا. ربما ينطبق الأمر نفسه بالنسبة إليها معه. تشعر بوطأة ثقله وغضبه ومفاجأته، تشعر بذلك أيضًا في نفسها. تعتقد أن الأمر كان حتى الآن جيدًا.