مينسيتونج
١
يُسمَّى الكتاب «عطايا». مكتوب عنوانه بحروف ذهبية على غلاف أزرق باهت، وأسفل منها اسم المؤلفة بالكامل: ألميدا جوينت روث. أشارت الجريدة المحلية «فيديت» إليها باعتبارها «شاعرتنا». يبدو أن ثمة مزيجًا من الاحترام والازدراء، لعملها وجنسها، أو للوضع المتوقع من هذا. توجد صورة فوتوغرافية في واجهة الكتاب، واسم المصوِّر في أحد الأركان، والتاريخ: ١٨٦٥. نُشِر الكتاب لاحقًا، في عام ١٨٧٣.
للشاعرة وجه طويل، أنف طويل نسبيًّا، عينان داكنتان شجيتان، تبدو على استعداد للانحدار على وجنتيها مثل دموع عملاقة، وكثير من الشعر الداكن ينسدل حول وجهها في لفائف متدلية. هناك مسحة بارزة من الشعر الرمادي، على الرغم من أنها في هذه الصورة كانت لا تزيد عن خمسة وعشرين عامًا. هي ليست فتاة جميلة لكنها من نوع النساء اللائي ربما يكبرن في صحة وجمال، ولا يسمنَّ أبدًا. ترتدي فستانًا أو سترةً داكنة اللون بها ثنايات ومزيَّنة بزركشة مضفرة، وزخارف شريطية، مَرِنة من قماش أبيض — كشكشة أو عقدة — تملأ منطقة فتحة الرقبة. ترتدي قبعة أيضًا، قد تكون مصنوعة من القطيفة، بلون داكن لتتلاءم مع الفستان. قبعة غير مزركشة، لا شكل لها، شيء مثل بيريه لين، وهو ما يجعلني أرى مقاصد فنية، أو على الأقل غرابة خجولة وعنيدة، في هذه المرأة الشابة التي يشير عنقها الطويل ورأسها المائل إلى الأمام أيضًا إلى أنها طويلة القامة، هيفاء، وصعبة المراس إلى حدٍّ ما. من خصرها إلى أعلى، تبدو مثل أحد النبلاء الشباب من زمنٍ آخَر. ربما كانت هذه موضة تلك الأيام.
كتبت في مقدمة كتابها: «في عام ١٨٥٤، جاء بنا والدي — أمي، وأختي كاثرين، وأخي ويليام، وأنا — إلى كندا الغربية (مثلما كانت تُسمَّى آنذاك). كان أبي يتخذ صناعة السروج مهنةً له، لكنه كان رجلًا مثقَّفًا يستطيع الاستشهاد عن ظهر قلب من الكتاب المقدس، وأعمال شكسبير، وكتابات إدموند بيرك. راجت صناعته في هذه الأراضي الجديدة واستطاع تأسيس متجر سروج ومنتجات جلدية، وبعد عام استطاع بناء بيت مريح أعيش فيه (وحيدة) الآن. كنتُ أبلغ من العمر أربعة عشر عامًا، أكبر الأبناء، عندما جئنا إلى هذه الأنحاء قادمين من كينجستون، وهي مدينة أتذكَّر شوارعها الأنيقة كثيرًا وإن لم أرها مجدَّدًا. كانت أختي تبلغ من العمر أحد عشر عامًا وأخي تسعة أعوام. عند حلول الصيف الثالث الذي عشنا أثناءه هنا، أصيب أخي وأختي بحمى كانت منتشرة آنذاك، وقضى كلاهما نحبه لا يفصل موت أحدهما عن الآخَر إلا أيام قليلة. لم تستطع أمي أن تستعيد قواها بعد هذه الطامة التي أصابت عائلتنا. تدهورت صحتها، وبعد ثلاث سنوات أخرى ماتت هي الأخرى. صِرْتُ بعدها قائمة على شئون المنزل لأبي، وكنتُ سعيدةً لقيامي بذلك مدة اثني عشر عامًا، حتى مات فجأةً ذات صباح في متجره.
منذ نعومة أظفاري، كنتُ مغرمَة بالشِّعر، وشغلت نفسي — وفي بعض الأحيان كنتُ أخفِّف من أحزاني، التي لم تكن في نظري أكثر مما يمكن أن يصادفه أي شخص يعيش على هذه الأرض — من خلال محاولاتي المتعثرة العديدة لقرضه. لم تكن أصابعي بارعة بما يكفي، حقًّا، لأعمال الكروشيه، كما تأكدت من عدم مهارتي في صنع المنتجات المبهرة المطرزة التي يراها المرء كثيرًا اليوم — التي عليها صور سلال الفواكه والزهور الممتلئة، والصِّبْيَة الهولنديين الصغار، والفتيات المرتديات قبعات حاملات أوعية رش الزهور — لذا، أقدِّم بدلًا من ذلك كنتاج لأوقات فراغي، ما يلي من أبيات شعر عفوية، وقصائد قصصية، وثنائيات شعرية، وتأملات.»
ها هي عناوين بعض القصائد: «الأطفال في ألعابهم»، و«سوق الغجر»، و«زيارة إلى عائلتي»، و«ملائكة في الجليد»، و«تشامبلين عند مصب نهر مينسيتونج»، و«موت الغابة العجوز»، و«مزيج حديقة». هناك قصائد أخرى أقصر، حول الطيور والزهور البرية والعواصف الثلجية. هناك بعض الشعر الهزلي حول ما يفكِّر الناس فيه عند استماعهم إلى العظة في الكنيسة.
«الأطفال في ألعابهم»: الكاتبة، طفلة، تلعب مع أخيها وأختها، واحدة من تلك الألعاب التي يحاول الأطفال على الجانبين المتنافسين استدراج وإمساك بعضهم بعضًا. تستمر الكاتبة في اللعب في ضوء الشفق الآخِذ في الإظلام، حتى تدرك أنها وحدها، وقد كبر سنها. لا تزال تسمع الأصوات (الشبحية) لأخيها وأختها يناديان: «تعالِ، تعالِ، دَعْ ميدا تأتِ.» (ربما كان يُطلَق على ألميدا ميدا بين أفراد العائلة، أو ربما اختصرت اسمها حتى يتلائم مع القصيدة.)
«سوق الغجر»: يعيش الغجر في مكان قرب المدينة، «سوق» يبيعون فيه الملابس والحلي، وتخشى الكاتبة كطفلة صغيرة أن يسرقها الغجر، وأن يأخذوها بعيدًا عن عائلتها. بدلًا من ذلك، أُخِذت عائلتها منها، سرقها مجموعة من الغجر التي لا تستطيع العثور عليهم أو التفاوض معهم على عودة عائلتها.
«زيارة إلى عائلتي»: زيارة إلى المقابر، حوار من طرف واحد.
«ملائكة في الجليد»: علَّمت الكاتبةُ أخاها وأختها ذات مرة طريقة صنع «الملائكة» من خلال الرقود في الجليد وتحريك ذراعيهما في شكل أجنحة. كان أخوها يقفز دومًا في غير اكتراث، صانعًا ملاكًا مشلول الجناح. هل سيصبح هذا الملاك كاملًا في السماء، أم هل سيطير بجناح بديل، في شكلٍ دائريٍّ؟
«تشامبلين عند مصب نهر مينسيتونج»: تحتفي هذه القصيدة بالاعتقاد الشائع، غير الصحيح، الذاهب بأن المستكشف أبحر في اتجاه الشاطئ الشرقي من بحيرة هورون وبلغ مصب النهر العظيم هذا.
«موت الغابة العجوز»: قائمة بجميع الأشجار — أسمائها، وشكلها، واستخداماتها — التي جرى قطعها في الغابة الأصلية، مع وصف عام للدِّبَبَة، والذئاب، والعقبان، والغزلان، والطيور المائية.
«مزيج حديقة»: ربما جرى وَضْعُها كقصيدة قرينة لقصيدة الغابة. تعرض قائمة بالنباتات المجلوبة من دول أوروبية، مع بعض شذرات تاريخية وأسطورية، مع عرض للطابع الكندي للغابة الناتج عن هذا المزيج.
٢
في عام ١٨٧٩، كانت ألميدا روث لا تزال تعيش في المنزل الواقع على ناصية شارعَيْ بيرل ودوفرين، المنزل الذي كان والدها قد بناه لعائلته. لا يزال المنزل موجودًا اليوم، يعيش صاحب متجر الكحوليات فيه. تُغطَّى جوانب المنزل بألواح من الألومنيوم، وحلَّ رواق مغلق محل الشرفة. سقيفة الحطب، السياج، البوابات، الحمام الخارجي، الإسطبل، كل ذلك لم يَعُدْ موجودًا. تُظهِر صورةٌ التُقِطت في ثمانينيات القرن التاسع عشر جميع هذه الأشياء في مواضعها. يبدو المنزل والسياج متهالكين بعض الشيء، في حاجة إلى طلاء، لكن ربما يرجع ذلك إلى الشكل الباهت للصورة الفوتوغرافية الضاربة للَّوْن البني. تبدو النوافذ ذات الستائر الشريطية مثل العيون البيضاء. لا توجد شجرة ظليلة كبيرة على مرمى البصر، وفي حقيقة الأمر، صارت أشجار الدردار الطويلة — التي كانت تلقي بظلالها على المدينة حتى خمسينيات القرن العشرين، فضلًا عن أشجار الإسفندان التي تظللها الآن — أشجارًا صغيرة نحيفة تسورها سياجات خشنة لحمايتها من الأبقار. في غياب ظلال تلك الأشجار، توجد مساحات مكشوفة تمامًا — أفنية خلفية، وحبال غسيل، وأكوام خشب، وسقائف مرقعة، وإسطبلات، وحمامات خارجية — مشهد عار تمامًا، ومكشوف، وشائع. لا توجد سوى منازل قليلة يوجد بها ما يشبه الحديقة، بل مجرد رقعة من موز الجنة وكثيبات نمل والبقايا الناتجة عن تقليب وتسوية الأرض. ربما تنمو بعض زهور البتونيا فوق جذل شجرة، في صندوق مستدير. الطريق الرئيسي فقط مفروش بالحصى، بينما لا تعدو الشوارع الأخرى عن طرق غير ممهَّدَة، موحلة أو ترابية وفق فصول السنة. يجب أن تُسيَّج الأفنية لإبعاد الحيوانات عن البيوت. وتُعقَل الأبقار في أراضي خالية أو تترك لتُرعَى في أفنية خلفية، لكن في بعض الأحيان تهرب الأبقار. تهرب الخنازير أيضًا، وتتجول الكلاب في حرية أو تغفل بطريقة متعالية على الممرات. لقد ترسخت جذور للمدينة، ولن تختفي، إلا أنها صارت تبدو كمخيم. وكما هو الحال في أي مخيم، فهي مزدحمة دومًا؛ مليئة بالناس الذين يسيرون عادةً داخل المدينة حيث يشاءون؛ مليئة بالحيوانات، التي تخلِّف روثَ خيول، وفضلاتِ أبقارٍ، وبرازَ كلابٍ، ترفع السيدات تنوراتهن لتفاديها؛ وممتلئة بضجيج المباني والسائقين الذين يصيحون في جيادهم وضجيج القطارات التي تجيء إلى المدينة عدة مرات يوميًّا.
أقرأ عن تلك الحياة في جريدة «فيديت».
كانت شريحة الشباب ضمن السكان أكبر مما هي عليه الآن، ومما ستكون عليه مستقبلًا في أي وقت. لا يأتي الأشخاص الذين تخطَّوا عمر الخمسين إلى مكان جديد، غير مجهَّز. هناك عدد قليل إلى حدٍّ ما من الأشخاص مدفونون في المقابر، لكن مات معظمهم صغيرًا في حوادث، أو أثناء الولادة، أو بسبب الأوبئة. يسود الشباب المدينة الآن. يطوف الأطفال — الصِّبْيَة — في الشوارع في مجموعات. الذهاب إلى المدرسة إجباري فقط مدة أربعة أشهر سنويًّا، وهناك الكثير من الأعمال المؤقتة التي يستطيع طفل في الثامنة أو التاسعة أن يقوم بها، مثل جمع الكتان، ورعاية الجياد، وتوصيل البقالة، وتنظيف الممرات أمام المتاجر. يقضي الأطفال وقتًا كبيرًا يبحثون عن المغامرات. في أحد الأيام، تتبعوا امرأةً عجوزًا مخمورة تُكنَّى كوين آجي، ووضعوها في عربة يد وداروا بها حول المدينة، ثم ألقوها في مصرف لإفاقتها. يقضون أيضًا وقتًا طويلًا في محيط محطة السكك الحديدية؛ يقفزون بين عربات القطار، ويتحدون بعضهم بعضًا في المخاطرة بذلك، وهو ما يؤدي من حين إلى آخَر إلى إحداث عاهة بأحدهم أو قتله. ويراقبون أي غرباء يأتون إلى المدينة؛ يتبعونهم، يعرضون مساعدتهم وحمل حقائبهم، ويوصلونهم (مقابل خمسة سنتات) إلى أحد الفنادق. أما الغرباء غير الموسرين، فيتعرضون للإهانة والتوبيخ. تحيط التخرصات بجميع الغرباء، مثل سحابة من الذباب. هل يأتون إلى المدينة لبدء أعمال جديدة، لإقناع أهل المدينة بالاستثمار في أحد المشاريع، لبيع الأدوية أو الأدوات الجديدة، لإلقاء المواعظ على نواصي الشوارع؟ تجري هذه الأشياء في أي يوم من أيام الأسبوع. خُذْ حذرك، هكذا تحذِّر جريدةُ «فيديت» الناسَ، هناك احتمالات لاقتناص الفرص وأخرى للتعرُّض للخطر. يجوب الطرقَ — خاصةً السكك الحديدية — متشردون، ومحتالون، وباعة جائلون نصابون، وأفَّاقون، ولصوصُ. يجري الإعلان عن السرقات: تُستثمَر الأموال ولا يراها أصحابها مرة ثانية، بنطال يُسرَق من حبل غسيل، وخشب من كومة أخشاب، وبيض من حظيرة دجاج، ولا يعاد كل ذلك ثانيةً. تزداد مثل هذه الحوادث في الجو الحار.
يتسبب الطقس الحار في حوادث أيضًا؛ تهتاج كثيرًا من الجياد، وتقلب العربات التي تقودها. تعلق الأيادي في آلات العصر أثناء الغسيل، وينشطر رَجلٌ إلى نصفين في مصنع قطع الأخشاب، ويُقتَل طفل يقفز عند سقوط قِطَع خشب في فناء الأخشاب. لا ينام أحد جيدًا. يصاب الأطفال بالجفاف بسبب حالات الإسهال الصيفي الشديدة، ولا يستطيع البدناء التقاط أنفاسهم بسهولة. يجب أن تُورَى الأجساد الثرى بسرعة. ذات يوم، يتجوَّل رجل في الشوارع ويقرع جرس بقرة وينادي قائلًا: «توبوا! توبوا!» ليس هذا رجلًا غريبًا هذه المرة، بل شابٌّ يعمل لدى الجزار. خذوه إلى المنزل، لفوه في ملابس مبلَّلة باردة، وأعطوه دواءً مهدئًا للأعصاب، واجعلوه يلزم الفراش، وصَلُّوا من أجل شفاء عقله. إذا لم يتعافَ، فيجب أن يُنقَل إلى مستشفى الأمراض العقلية.
يواجه منزل ألميدا روث شارع دوفرين، وهو شارع راقٍ بعض الشيء. في هذا الشارع، يمتلك تجارٌ وصاحبُ مصنعٍ ومسئولُ آبارٍ ملحية منازلَهم الخاصة، لكن شارع بيرل، الذي تطل عليه نوافذ منزلها الخلفية وتفتح البوابة الخلفية للمنزل عليه، يختلف تمامًا عنه. تجاور منازل العمال منزلها. صف من المنازل الصغيرة لكن المحترمة المتشابهة المتلاصقة، وهو ما لا غبار عليه. تتدهور الأحوال مع الاتجاه نحو نهاية المربع السكني، ويصير المربع الأخير مؤسفًا. لا يعيش فيه أحد إلا أفقر الأشخاص، الأشخاص غير المحترمين، الذين لا يستحقون المساعدة، هناك على حافة حفرة طينية (جرى تصريفها مُذْ ذاك)، تُسمَّى مستنقع شارع بيرل. هناك تنمو الأعشاب الكثيفة والمتنامية، ويتم إنشاء أكواخ مؤقتة، وتتراكم أكوام من النفايات والحطام، وتتجمع مجموعات من الأطفال الأقزام، وتُلقَى المياه القذرة عبر الأبواب. تحاول المدينة أن تُجبِر هؤلاء الناس على بناء حمامات داخلية، لكنهم يذهبون إلى قضاء حاجتهم بين الأجمات. إذا قصدت مجموعة من الصِّبْيَة شارع بيرل بحثًا عن مغامرة، فيحصلون على الأرجح على أكثر مما كانوا يقصدونه. يُقال إن مأمور المدينة لا يستطيع أن يذهب إلى شارع بيرل ليلة السبت. لم تتجاوز ألميدا روث صفَّ المنازل المجاور لها أبدًا. تعيش في أحد هذه المنازل فتاة صغيرة اسمها آني، التي تساعدها في تنظيف المنزل. لم تبلغ تلك الفتاة الصغيرة؛ نظرًا لأنها فتاة محترمة، المربع الأخير من شارع بيرل أو المستنقع. لن تذهب أي امرأة محترمة إلى هناك أبدًا.
على الرغم من ذلك، يمثِّل هذا المستنقع نفسه، الذي يقع إلى الشرق من منزل ألميدا روث، مشهدًا رائعًا عند الفجر. تنام ألميدا في الجزء الخلفي من المنزل. لا تزال تمكث في غرفة النوم نفسها التي كانت تشاركها فيها أختها كاثرين، لا تفكِّر في الانتقال إلى غرفة النوم الأمامية الكبيرة، حيث كانت أمها ترقد في الفراش طوال اليوم، والتي صارت لاحقًا مكان إقامة والدها الوحيد. من نافذتها، تستطيع أن ترى الشمس تشرق، وضباب المستنقع يمتلئ بالضوء، وتتحرك الأشجار الكبيرة الأقرب إلى المستنقع عبر الضباب، وتتحول الأشجار الأبعد إلى لون شفاف. أشجار البلوط، والإسفندان اللينة، والتمرك، والجوز المر الخاصة بالمستنقع.
٣
كان جارفيس بولتر أحد الغرباء الذين وصلوا إلى محطة السكك الحديدية قبل سنوات قليلة، وهو يعيش حاليًّا في المنزل المجاور لألميدا روث، لا يفصله عنها سوى أرض خالية اشتراها، في شارع دوفرين. المنزل أكثر بساطة من منزل روث، ولا يحتوي على أشجار فاكهة أو زهور مزروعة حوله. من المفهوم أن هذا يمثِّل نتيجةً طبيعيةً لكون جارفيس بولتر أرملًا ويعيش وحده. ربما يحافظ أي رجل على نظافة وترتيب بيته، لكنه أبدًا — إذا كان رجلًا بحق — لن يسرف في تزيينه. يجبر الزواج الرجل على أن يعيش وسط زينة وفي غمار عاطفة أكبر، ويحميه أيضًا من شطحات طبيعته — من التقتير الشديد أو الكسل المُترف، من القذارة، ومن النوم أو القراءة، الشرب، التدخين، أو العقلانية المفرطة.
بالنظر إلى المصلحة الاقتصادية، يُعتقد أن أحد الرجال المحترمين في مدينتنا يواظب على جلب الماء من الصنبور العام، ويعمل على دعم مخزونه من الوقود من خلال التقاط الفحم المتناثر على خط السكك الحديدية. هل يفكِّر هذا الرجل في دفع مقابل ما أخذ إلى المدينة أو شركة السكك الحديدية، من خلال توريد الملح بشكل مجاني؟
هذه هي صحيفة «فيديت»، المليئة بالنكات الخبيثة والتعريض والاتهامات الصريحة، التي لا يمكن أن تمر بالنسبة إلى أي جريدة اليوم دون حساب. إنها تتحدث هنا عن جارفيس بولتر، على الرغم من الحديث عنه في احترام بالغ في مقاطع أخرى، باعتباره قاضيًا مدنيًّا، ربَّ عمل، وقسيسًا. هو رجل متحفظ، هذا كل ما في الأمر. غريب الأطوار، إلى حدٍّ ما. وكل هذا ربما يرجع إلى وحدته، حياة الترمل التي يحياها. حتى مَلْؤه للماء بنفسه من صنبور المدينة وملؤه لدلو الفحم من خط السكك الحديدية. إنه مواطن كريم، ميسور الحال: رجل طويل — ممتلئ الجسم قليلًا؟ — يرتدي حلة سوداء وحذاء لامع عالي الرقبة. هل له لحية؟ ذو شعر أسود به مسحة من الشعر الرمادي. له هيئة صارمة وواثقة، وبثرة كبيرة شاحبة اللون وسط الشعر الكث لأحد حاجبيه؟ يتحدث الناس عن زوجة شابة جميلة حبيبة، ماتت أثناء الوضع أو بسبب حادث مريع، مثل حريق في المنزل أو حادث قطار مروِّع. لا يوجد أي أساس لهذه الأقاويل، لكنها تثير الفضول أكثر حوله. كل ما قاله الرجل لهم إن زوجته ماتت.
أتى إلى هذا الجانب من البلاد بحثًا عن النفط. كان أول آبار النفط على الإطلاق التي جرى اكتشافها في العالم في مقاطعة لامتون، إلى الجنوب من هنا، في خمسينيات القرن التاسع عشر. بحثًا عن النفط، اكتشف جارفيس بولتر الملح. شرع في العمل على اكتشاف الملح لتحقيق أقصى ربح منه. عندما يذهب إلى المنزل عائدًا من الكنيسة بصحبة ألميدا روث، يخبرها عن آبار الملح التي يمتلكها. تبلغ ألفًا ومائتي قدمٍ عمقًا. يجري ضخ المياه الساخنة إليها، وهو ما يسهم في إذابة الملح. ثم يجري ضخ الماء المالح إلى السطح، الذي يجري صبه في أواني تبخير هائلة موضوعة فوق نيران بطيئة ثابتة، بحيث يجري تبخير الماء ويبقى الملحُ الصافي عاليَ الجودة. هذه سلعة لن يتوقف الطلب عليها أبدًا.
تقول ألميدا: «ملح الأرض!»
يقول، مقطبًا: «نعم.» ربما يعتقد أن ذلك ينطوي على إهانة له. لم تكن تقصد ذلك. يتحدث عن المنافسين في المدن الأخرى الذين يسيرون على نهجه ويحاولون الاستيلاء على أكثر من حصتهم في السوق. لحسن الحظ، آبارهم غير محفورة إلى أعماق سحيقة، ولا تجري عمليات التبخير لديهم على نحو فعَّال. وبينما يوجد ملح في كل مكان تحت هذه الأرض، لا يسهُل استخراجه كما يظن البعض.
تقول ألميدا: أَلَا يعني هذا أنه كان هناك بحر عظيم هنا في وقت سابق؟
يرد جارفيس بولتر: إن هذا جائز جدًّا، جائز جدًّا. يستمر في الحديث مخبرًا إياها عن مشاريع أخرى له، مصنع طوب، فرن حجر جيري. ويشرح لها طريقة عمل ذلك، ويشير إلى أماكن وجود الطَّفلة الجيدة. يمتلك أيضًا مزرعتين، تزود الأخشاب فيهما العمليات اللازمة لصناعاته بالوقود.
بين الأزواج السائرين على مهل إلى المنزل من الكنيسة صبيحةَ يوم أحد قريب مشمس، لاحظنا رجلًا معروفًا يعمل في صناعة الملح وأديبةً، ربما ليسا في ريعان شبابهما، لكنهما مع ذلك لا تظهر عليهما علامات الكبر. هل نخمن مَن هما؟
تظهر أخبار كتلك طوال الوقت في صحيفة «فيديت».
هل يخمنون مَن هما، وهل يعني هذا وجود علاقة بينهما؟ تمتلك روث بعض المال الذي تركه والدها لها، ولديها منزلها. ليست كبيرة في السن بحيث لا يمكنها إنجاب طفلين. هي ربة منزل ممتازة، تستطيع صنع الكعك المثلج المطعم والفطائر المحلاة بمهارة عالية، والتي غالبًا ما لا تجدها إلا في السيدات الأكبر سنًّا. (إشارةَ توقير لها في معرض الخريف.) لا يوجد ثمة ما يعيب مظهرها، وهي أجمل من معظم النساء المتزوجات في مثل عمرها، فلم يثقَل كاهلها بعدُ بالأعمال المنزلية والأطفال. لكن لِمَ مَرَّ قطار الزواج عليها خلال سنوات حياتها الأولى التي كان يمكن أن تتزوج فيها، في بلد يريد من النساء أن يكنَّ متزوجات ومنجبات؟ كانت فتاة كئيبة إلى حدٍّ ما، ربما كانت تلك هي المشكلة. أثَّر موت أخيها وأختها، ثم أمها، التي طار صوابها — في حقيقة الأمر — قبل عامٍ من وفاتها، وكانت ترقد في فراشها تتفوه بالترهات؛ كل هذا أثَّر عليها ولم تكن صحبة جيدة. أَضِفْ إلى هذا كلَّ هذه القراءة والشعر — بدا ذلك مثل عقبة، عائق، هاجس، لدى فتاة شابة أكثر مما هو لدى امرأة في منتصف العمر، التي كانت تحتاج إلى شيء في النهاية حتى تشغل أوقاتها. على أي حال، مرَّت خمس سنوات منذ نشر كتابها؛ لذا ربما تخطَّتْ هذه المرحلة. ربما كان الأب الفخور، المُطلع هو الذي كان يشجعها؟
يُسلِّم الجميع جدلًا أن ألميدا روث ترى في جارفيس بولتر زوجًا مناسبًا لها، وستوافق إذا طلب منها الزواج. وهي تفكِّر فيه. لا ترغب أن ترتفع بآمالها إلى أبعد الآفاق، ولا ترغب في أن تجعل نفسها أضحوكة. ترغب في إشارة. إذا كان يأتي إلى الكنيسة في أمسيات الآحاد، فستكون ثمة فرصة، خلال بعض شهور السنة، للعودة إلى المنزل بعد حلول الظلام. سيحمل مصباحًا. (لا توجد بعدُ إضاءةٌ في شوارع المدينة.) سيؤرجح المصباح لإنارة الطريق أمام الآنسة الكريمة ويلاحظ قوامها النحيف الرقيق. ربما يمسك بذراعها عند نزولهما عن الرصيف. لكنه لا يذهب إلى الكنيسة ليلًا.
بل إنه لا يناديها، أو يصحبها إلى الكنيسة في صباح الآحاد. سيكون هذا بمثابة إعلان. يصحبها إلى المنزل، مرورًا ببوابة منزله، يرفع قبعته، ثم يتركها. لا تدعوه إلى منزلها؛ فلا تستطيع امرأة تعيش وحدها أن تفعل ذلك أبدًا. بمجرد أن يصبح رجل وامرأة من أي عمر وحدهما بين أربعة جدران، من المُفترض أن يحدث أي شيء؛ مشاعر ملتهبة عفوية، شهوة فجائية، رغبة متوحشة، انتصار الحواس. أي احتمالات لا بد أن يراها الرجال والنساء بعضُهم في بعض لاستنباط هذه الأخطار، أو بالاعتقاد في وجود أخطار، كم مرة يجب أن يفكروا في الاحتمالات؟
عندما يسيران جنبًا إلى جنب، تستطيع أن تشم صابونَ وزيتَ الحلاقةِ خاصته، تبغَ غليونِه، رائحةَ صوفِ وكتانِ وجلدِ الملابس الرجالية التي يرتديها. تشبه الملابس المناسبة، المهندمة، الثقيلة التي يرتديها تلك التي اعتادت أن تنظفها بالفرشاة وتنشِّيها وتكويها لوالدها. تفتقد عمل ذلك؛ امتنان والدها، سلطته الأبوية العميقة العطوفة. تجعل ملابسُ جارفيس بولتر ورائحتُه وحركاتُه جميعًا الجلدَ على جانب جسدها المجاور له يقشعر أملًا، وتؤدي أي ارتعاشة خفيفة إلى وقوف الشعر في ذراعيها. هل يمكن أن يُعتبَر ذلك علامةً على الحب؟ تتصوره يأتي إلى غرفتها — غرفتهما — في لباسه الداخلي الطويل وقبعته. تعلم أن ملابسه هذه مثيرة للسخرية، لكنه لا يبدو كذلك في عقلها، فهو يحظى بصورة الوقاحة الجليلة لشخص يظهر في حلم. يدخل الغرفة، ويرقد على الفراش إلى جوارها، مستعدًّا لأخذها في أحضانه. أسيخلع قبعته؟ لا تعرف؛ حيث تتغلب عليها عند هذه النقطة حالة من الترحاب والخضوع، آهة مكبوتة. سيكون زوجها.
شيئا واحدا لاحظتْه بشأن النساء المتزوجات؛ أَلَا وهو طريقة تكوين كثيرات لصور محدَّدة لأزواجهن. يبدَأْنَ بتحديد تفضيلات أزواجهن، وآراءهم، وطرقهم السلطوية. تقُلْنَ مثلًا، زوجي مميز جدًّا. زوجي لا يأكل اللفت. لا يأكل اللحم المحمر. (أو لا يأكل إلا اللحم المحمَّر.) يفضل اللون الأزرق (البني) في ملابسه طوال الوقت. لا يستطيع احتمال موسيقى الأرغن. يكره أن يرى امرأةً تخرج وهي مكشوفة الرأس. سيقتلني إذا دخَّنْتُ بعض التبغ. على هذا النحو، يجري صنع صورة رجال غير واثقين، لا يرون إلا أنفسهم، يجري صنع أزواج، أرباب بيوت. لا تستطيع ألميدا روث تخيُّل نفسها تفعل ذلك. تريد رجلًا لا يحتاج أن يُصنَع، رجلًا حازمًا وواثقًا وغامضًا بالنسبة إليها. لا تبحث عن رفقة. يبدو الرجال — عدا والدها — ناقصين على نحوٍ ما، تنقصهم العاطفة. لا شك في أن ذلك ضروري، بحيث يقومون بما يجب عليهم القيام به. هل ستكتشف هي نفسها، مع معرفتها بوجود ملح في الأرض، طريقة استخراجه وبيعه؟ ليس على الأرجح. ستفكِّر في البحر القديم. لا يملك جارفيس بولتر، مثلما هو متوقَّع تمامًا، وقتًا لتأمُّل مثل هذه التخرُّصات.
وبدلًا من أنْ يصطحبها بولتر إلى الكنيسة، يتقدَّم بفكرة أخرى أكثرَ جرأةً. ربما يستأجر جوادًا ويأخذها في نزهة في الريف. إذا فعل ذلك، فستشعر بالسرور والأسف معًا؛ بالسرور لأنها تجلس إلى جانبه، يقودها، تتلقى انتباهه أمام العالم بأسره. وبالأسف لعدم قدرتها على تأمُّل المناظر الريفية بنفسها؛ حيث ستتغلف نظرتها إليها، بطريقة ما، بحديثه واهتماماته. يحتاج الريف الذي تكتب عنه في قصائدها إلى مثابرة وعزم في تأمُّله. يجب تجاهُل بعض الأشياء. أكوام الروث، بالطبع، والحقول السبخية الممتلئة بأجذال الأشجار العالية المحترقة، والأكوام الهائلة من أغصان الأشجار في انتظار يوم مناسب لحرقها. سوِّي الاعوجاج في الجداول، وتحولت إلى مصارف ذات ضفاف مرتفعة موحلة. وبينما سوِّرَ بعض حقول المحاصيل والمراعي بأجذال أشجار كبيرة، غير مشذبة، مُقتلَعة، سوِّرَت مزارع ومراعٍ أخرى بسياجات غير مصقولة مصنوعة من قضبان سكة حديد موصولة بعضها ببعض. أعيد زرع كل الأشجار الموجودة في الأحراج؛ لذا فهي تعد زرعة ثانية. لا توجد أشجار بحذاء الطريق أو الممرات الضيقة أو حول المزارع، ما عدا بضع أشجار صغيرة هزيلة، جرى زراعتها حديثًا. يجري البدء في بناء مجموعات من المخازن الخشبية — المخازن الكبرى التي ستنتشر في الريف في السنوات المائة التالية — ومنازل خشبية كئيبة، وكل أربعة أو خمسة أميال توجد قرية صغيرة مهلهلة تضم كنيسة ومدرسة ومتجرًا ودكانَ حدادة. ريف نقي جرى انتزاعه انتزاعًا من الغابة، لكنه يعج بالناس. توجد مزرعة كل مائة فدان، تحظى كل مزرعة بعائلة، تمتلك معظم العائلات عشرة أو اثني عشر طفلًا. (هذه هي الأراضي التي سيخرج منها أمواج تلو أمواج من المستوطنين — بدأت بالفعل في إرسال المستوطنين — إلى شمال أونتاريو والغرب.) صحيح أن بإمكان المرء جمع الزهور البرية في الربيع من الأحراج، غير أن على المرء أن يخوض في قطعان من الأبقار القرناء للوصول إليها.
٤
تعاني ألميدا إلى حدٍّ كبير من الأرق، ووصف لها الطبيب مستحضرات بروميد وأدوية مهدئة للأعصاب. تتناول البروميد، لكن قطراته تجعلها تحلم أحلامًا حية ومزعجة جدًّا؛ لذا نحَّتِ الزجاجة جانبًا لتستخدمها في حالات الطوارئ فقط. أخبرت الطبيب أنها تشعر بأن مقلتَيْ عينيها جافتان، مثل الزجاج الساخن، وأن مفاصلها تؤلمها. طلب منها ألَّا تقرأ كثيرًا، وألَّا تجلس إلى المكتب كثيرًا، وأن تشغل نفسها بأعمال المنزل وتمارس التمارين الرياضية. يعتقد أن مشاكلها الصحية ستنتهي إذا تزوَّجَتْ. يعتقد ذلك على الرغم من أن العقاقير المهدئة للأعصاب توصف لنساء متزوجات.
هكذا، تنظِّف ألميدا المنزل وتسهم في تنظيف الكنيسة، وتساعد أصدقاءها الذين يقومون بلصق ورق حائط أو يتأهبون للزفاف، وتخبز إحدى كعكاتها الشهيرة لنزهة يوم الأحد المدرسية. في يوم سبت حار في شهر أغسطس، تقرِّر صنع جيلي من الكرم. ستكون الدوارق الصغيرة من جيلي الكرم هدايا جميلة في الكريسماس، أو للمرضى، لكنها بدأت إعداد الجيلي في وقت متأخر من اليوم، ولم تنتهِ منه بحلول الليل. في حقيقة الأمر، وضعت الثمار الساخنة في الكيس القماشي لتوها كي ينزل العصير منها. تحتسي ألميدا بعض الشاي، وتتناول قطعة من الكعك بالزبد (وهي أحد الأشياء التي تستمتع بها منذ طفولتها)، وهذا هو كل ما تحتاج إليه في العشاء. تغسل شعرها في الحوض وتغسل جسدها بالإسفنج حتى تصبح نظيفة يوم الأحد. لا تنير مصباحًا. ترقد على الفراش والنافذة مفتوحة على مصراعيها ولا توجد سوى ملاءة تصل إلى وسطها، وتشعر شعورًا رائعًا بالإجهاد، بل وتشعر حتى بقليل من النسيم.
عندما تستيقظ، يبدو الليل شديد الحرارة ومليئًا بالأخطار. ترقد متعرقة في فراشها، ويتولَّد لديها الانطباع بأن الضوضاء التي تسمعها هي أصوات سكاكين، ومناشير، وفئوس — كلها أدوات غاضبة تقطِّع وتطعن وتخرق رأسها. لكن هذا ليس صحيحًا؛ مع استفاقتها أكثر، تميِّز الأصوات التي سمعتها من قبلُ في بعض الأحيان — شجار في أحد أيام السبت في الصيف في شارع بيرل. عادةً، تتمحور أصوات الضوضاء حول أحد الشجارات. الناس مخمورة، وهناك الكثير من الصياح والتشجيع فيما يتعلق بالشجار، سيصرخ أحدهم قائلًا: «جريمة قتل!» في إحدى المرات، كانت ثمة جريمة قتل، لكنها لم تقع خلال أحد الشجارات. طُعِن رجل عجوز حتى الموت في كوخه، ربما بسبب بضعة دولارات كان يحتفظ بها في حاشية فراشه.
تنهض من الفراش وتذهب إلى النافذة. سماء الليل صافية، بلا قمر وبها نجوم برَّاقة. كوكبة الفرس الأعظم أمامها مباشَرَةً، فوق المستنقع. عرَّفها والدها بهذه الكوكبة من النجوم — تلقائيًّا، تعدُّ نجومها. تستطيع الآن تمييز الأصوات، أصوات فردية. لا شك أن بعض الناس استيقظوا، مثلها، من النوم. وهم يصرخون: «اصمتوا!» «توقفوا عن هذا العويل وإلا سأنزل وأوجعكم ضربًا!»
لكن لا يسكت أحد. كان الأمر كما لو كان ثمة كرة من النار تتدحرج في شارع بيرل، ينبثق منها شرر — فقط النار تُحدِث ضوضاء؛ صياح وضحك وصراخ وشتائم، وشرر نيران تمثِّل أصواتًا تنبثق وحدها. يميز صوتان نفسهما تدريجيًّا: صراخ شديد صاعد وهابط وسيل منتظم، سريع وبنبرة خفيضة من السباب الذي يتضمن جميع تلك الكلمات التي تربط ألميدا بينها وبين الخطر والانحلال الأخلاقي والروائح الكريهة والمناظر المنفرة. ثمة شخص ما يُضرَب، شخص يصيح قائلًا: «اقتلني. اقتلني الآن.» إنها امرأة. تستمر في البكاء قائلةً: «اقتلني. اقتلني.» وفي بعض الأحيان يبدو فمها مختنقًا من كثرة الدماء. لكن ثمة شيء مستفز ونبرة انتصار في صراخها. ثمة شيء متكلَّف بشأن صراخها. ويصيح الأشخاص حولها قائلين: «توقَّفْ! توقَّفْ عن ذلك!» أو «اقتلها. اقتلها.» في نوبة محمومة، كما لو كانوا في مسرح أو مباراة رياضية أو مباراة ملاكمة مقابل المال. تحدِّث ألميدا نفسها أنها رأت ذلك من قبلُ؛ دائمًا ما يكون الأمر في جزء منه نوع من المباراة التمثيلية بين هؤلاء الأشخاص. هناك نوع من المحاكاة الساخرة الفجة، مبالغة، حلقة مفقودة، كما لو أن أي شيء فعلوه — حتى القتل — ربما لم يكن شيئًا يؤمنون به، لكن لم يكن لهم قدرة على منعه.
هناك الآن صوت شيء يُقذَف — مقعد، لوح خشب؟ — وصوت كومة حطب أو جزء من سياج ينهار. كثير من الصرخات الجديدة المندهشة، صوت عَدْوٍ، أشخاص يخرجون عن مسارهم، وصوت جلبة يقترب أكثر. تستطيع ألميدا أن تميِّز جسدًا محنيًّا، يجري مرتديًا فستانًا رقيقًا. هذه هي المرأة. تمسك بشيء مثل عصا من الخشب أو لوح خشبي، وتستدير وتُلقي بها في اتجاه الجسد غير واضح الملامح الذي يطاردها.
تصيح الأصوات: «هيا، أمسك بها.» «هيا، اضربها بقوة.»
يتراجع الكثيرون الآن. يقترب الجسدان الآن من أحدهما من الآخر ويشتبكان، ثم يفترقان مجدَّدًا، ثم يسقطان أخيرًا على سياج ألميدا. يصبح الصوت الذي يصدر عنهما الآن صوتًا مرتبكًا كثيرًا — صوت تكميم، وقيء، ونخير، ولَكْمٍ. ثم يصدر صوت طويل مهتزٌّ مختنق من الألم والذل، والاستسلام الكامل، وهو صوت ربما يصدر عن أي منهما أو كليهما.
تراجعت ألميدا عن النافذة وجلست على الفراش. هل كان ذلك الذي سمعته صوت جريمة قتل؟ ما العمل؟ ماذا ستفعل؟ يجب أن تضيء مصباحًا، يجب أن تنزل إلى الأسفل لتضيء مصباحًا، يجب أن تنزل إلى الفناء، يجب أن تنزل إلى الأسفل، إلى الفناء، المصباح، تنام على فراشها وتضع الوسادة على وجهها في دقيقة. الدرج، المصباح. ترى نفسها بالأسفل، في القاعة الخلفية، تسحب مقبض الباب الخلفي. تغط في النوم.
تستيقظ، جافلة، في ضوء النهار المبكر. تظن أن ثمة غرابًا كبيرًا يجلس على حافة نافذتها، يتحدث على نحو استنكاري لكن غير مندهش عن أحداث الليلة السابقة. «استيقظي وحركي عربة اليد!» يقول لها، مؤنِّبًا، وتفهم أنه يعني شيئًا آخَر ﺑ «عربة اليد»، شيئًا سيِّئًا ومحزنًا. ثم تستفيق ولا ترى أي غراب. تنهض من الفراش على الفور وتنظر من النافذة.
يوجد كومة شاحبة تركن في الأسفل قبالة سياجها — جسد إنسان.
«عربة يد.»
تضع روبًا فوق رداء نومها وتنزل إلى الأسفل. لا يزال الضوء في الغرف الأمامية ضعيفًا جدًّا، ستائر المطبخ منسدلة. يصدر صوت «بلوب بلاب» على نحوٍ متمهل، صوت ناقد، يُذكِّرها بحديث الغراب. ليس هذا إلا عصير الكرم، تتساقط قطراته خلال الليل. تجذب مقبض الباب وتخرج من الباب الخلفي. تنسج العناكب خيوطها فوق المدخل ليلًا، وزهور الخطمي تتدلى مثقلةً بالندى. عند السياج، تفرِّج بين زهور الخطمي اللزجة وتنظر إلى الأسفل كي ترى.
ترى جسد امرأة مكوَّمًا هناك، مقلوبة على جانبها، ووجهها مسحوق في الأرض. لا تستطيع ألميدا أن ترى وجهها. لكن هناك نهدًا عاريًا، بحلمة بنية اللون بارزة مثل حلمة ضرع بقرة، ومؤخرة ورجلًا عاريين، يظهر في المؤخرة جرح في حجم زهرة دوار شمس. لون البشرة غير المجروحة مائل للرمادي، مثل دبوس دجاجة نيء منزوع. ترتدي شيئًا مثل رداء نوم أو فستان عادي. رائحتها قيء. بول، شراب، قيء.
وهي حافية القدمين، مرتدية رداء النوم والروب الشفاف، تعدو ألميدا هاربةً. تجري حول جانب منزلها بين أشجار التفاح والشرفة. تفتح البوابة الأمامية وتهرب عبر شارع دوفرين إلى منزل جارفيس بولتر، الأقرب إليها. تخبط بباطن يدها الباب عدة مرات.
تقول عندما يظهر جارفيس بولتر أخيرًا: «هناك جسد امرأة.» يرتدي بنطاله ذي اللون الداكن، الذي ترفعه حمالات، وقميص نصف مفتوح، وجهه غير حليق، شعره واقف في رأسه. «سيد بولتر، عذرًا. هناك جسد امرأة، عند بوابتي الخلفية.»
ينظر إليها مليًّا: «هل هي ميتة؟»
نفسه بارد، ووجهه مكفهرٌّ، وعيناه شديدتا الاحمرار.
تقول ألميدا: «نعم، أعتقد أنها قُتِلت.» تستطيع أن ترى جزءًا من القاعة الأمامية الكئيبة بمنزله بينما تستقر قبعته على أحد المقاعد. تقول وهي تجاهد في أن تجعل صوتها خفيضًا ومفهومًا: «استيقظْتُ ليلًا. سمعت صوت جلبة آتية من شارع بيرل. كنتُ أستطيع سماع هذا — شخصين. كنتُ أستطيع سماع رجل وامرأة يتشاجران.»
يلتقط قبعته ويضعها على رأسه. يغلق ويُحكِم إغلاق الباب الأمامي بالمفتاح، ويضع المفتاح في جيبه. يسيران معًا على الممر وترى أنها حافية القدمين. تحجم عن قول ما تشعر أنها تحتاج لأن تقوله بعد ذلك؛ أنها مسئولة عما حدث، كان بإمكانها الخروج بمصباح، كان بإمكانها الصراخ (لكن مَن عساه كان في حاجة إلى مزيد من الصراخ؟) كان بإمكانها إبعاد الرجل. كان بإمكانها طلب المساعدة آنذاك، لا الآن.
يقصدان شارع بيرل، بدلًا من دخول فناء روث. بالطبع، لا يزال الجسد موجودًا، مقوَّسًا، نصفَ عارٍ، تمامًا مثلما كان من قبلُ.
لا يسرع جارفيس بولتر في السير أو يتوقف. يتجه مباشَرَةً نحو الجسد وينظر إليه، يلكز القدم بطرف حذائه، مثلما قد تلكز كلبًا أو خنزيرًا.
يقول: «أنتِ.» لا بصوت مرتفع جدًّا وإن كان حازمًا، ثم يلكز الجسد مرة أخرى.
تشعر ألميدا بمرارة في حلقها.
يقول جارفيس بولتر: «إنها حية.» وتُثبِت المرأة صِدْقَ ظنه. فتتحرك، وتتأوَّه في ضعف.
تقول ألميدا: «سأحضر الطبيب.» لو أنها لمست المرأة، لو أنها أجبرت نفسها على لمسها، لم تكن لترتكب هذا الخطأ.
يقول جارفيس بولتر: «انتظري، انتظري. دعينا نَرَ إذا ما كانت تستطيع النهوض أم لا.»
يقول مخاطبًا المرأة: «هيا انهضي الآن. هيا انهضي، الآن. انهضي.»
يحدث الآن شيء مدهش. ينهض الجسم على أطرافه الأربعة، الرأس مرفوعة — الشعر ملطَّخ بالدماء والقيء — وتبدأ المرأة في ضرب رأسها، بعنف وعلى نحو متكرِّر، إزاءَ سياج ألميدا روث الوتدي. مع ضربها رأسَها تستعيد صوتها، وتُطلِق صراخًا بفم مفتوح مفعم بالقوة وما يبدو كما لو كان نوعًا من السرور المأزوم.
يقول جارفيس بولتر: «بعيدة كل البُعْد عن الموت … لن أزعج الطبيب حتى.»
تقول ألميدا مع إدارة المرأة وجهها الملطَّخ: «هناك دماء.»
يقول: «نزف من أنفها … ليس حديثًا.» ينحني ويمسك بالشعر الفظيع القريب من فروة الرأس ليمنعها من ضرب رأسها.
يقول: «هلا توقَّفْتِ عن هذا الآن … توقفي. اذهبي إلى المنزل، الآن. اذهبي إلى المنزل من حيث أتيتِ.» توقَّفَ الصوت الصادر عن فم المرأة. يهز رأسها قليلًا محذِّرًا إياها، قبل أن يترك شعرها: «اذهبي إلى المنزل!»
بإطلاق شعرها، تهب المرأة إلى الأمام، تنهض على قدميها. تستطيع السير. تترنح وتتعثر في الشارع، صانعةً أصوات صراخ متقطعة حذرة. يراقبها جارفيس بولتر لبرهة ليتأكد أنها في طريقها إلى منزلها، ثم يأخذ ورقة كبيرة لزهور الأرقطيون، يمسح فيها يده. ويقول: «ها هو الجسد الميت يرحل!»
لأن البوابة الخلفية كانت مغلقة، سارا معًا إلى البوابة الأمامية. البوابة الأمامية مفتوحة. لا تزال ألميدا تشعر بالغثيان. معدتها منتفخة، تشعر بالحرارة والدوار.
تقول في وهن: «الباب الأمامي مغلَق … خرجتُ من المطبخ.» لو أنه يتركها، فستذهب مباشَرَةً إلى الحمام، لكنه يتبعها وصولًا إلى الباب الخلفي وإلى القاعة الخلفية. يتحدث إليها في نبرة مرح مزعجة لم تسمعها منه من قبلُ. يقول: «لا داعي للانزعاج … ليس هذا إلا نتيجة السكر. لا يجب أن تعيش آنسة كريمة وحدها على مقربة هكذا من حي سيئ.» يمسك بذراعها من فوق الكوع. لا تستطيع فتح فمها لتتحدث إليه لتشكره؛ فإذا فتحت فمها ستتقيأ.
ما يشعر جارفيس بولتر به في هذه اللحظة تجاه ألميدا روث لم يشعر به خلال جميع رحلات السير المشوبة بالحذر تلك، وجميع حساباته حول قيمتها المحتملة، احترامها الذي لا مراء فيه، وجمالها المقبول. لم يستطع تخيُّلَها كزوجة. الآن، صار هذا ممكنًا. يثيره بما يكفي شعرها السائب — الرمادي قبل أوانه، الكثيف، الناعم — وجهها المتورِّد بشدة، ملابسها الشفافة التي لا يجب أن يراها إلا زوجها، رعونتها، ارتباكها، حماقتها، حاجتها؟
يقول لها: «سأمر عليك لاحقًا … سأصطحبك إلى الكنيسة.»
عند ناصية شارعَيْ بيرل ودوفرين صبيحة الأحد الماضي جرى اكتشاف — من قِبَل آنسة كريمة مقيمة هناك — جسد امرأة من شارع بيرل، ظُنَّ أنها ميتة لكن، كما اتضح، لم تكن إلا في حالة سُكْرٍ بيِّنٍ. استفاقت من غيبوبتها الشديدة — أو غير ذلك — بسبب حزم السيد بولتر، جار وقاضٍ مدني، والذي استُدِعي من قِبَل الآنسة الكريمة. حوادث من هذا النوع، غير لائقة ومزعجة ومخزية لمدينتنا، صارت مؤخرًا شائعة جدًّا.
٥
بمجرد رحيل جارفيس بولتر وسماعها صوت إغلاق البوابة الأمامية لمنزلها، تهرع ألميدا إلى الحمام، لكن لا تكتمل راحتها، وتدرك أن الألم والاحتقان في الجزء السفلي من جسدها يأتيان من تراكم دماء الحيض الذي لم تبدأ في التدفق بعدُ. تغلق الباب الخلفي وتحكم إغلاقه. ثم، متذكرةً كلمات جارفيس بولتر عن الكنيسة، تكتب على قطعة ورق: «لست على ما يرام، وأرغب في أن أستريح اليوم.» تلصق الورقة جيدًا في الإطار الخارجي للنافذة الصغيرة في الباب الأمامي. تُحكِم إغلاق هذا الباب أيضًا. ترتعش كما لو كان ذلك جرَّاء صدمة أو خطر عظيم. مع ذلك، توقد نارًا حتى تصنع شايًا. تغلي الماء، تأخذ كمية من أوراق الشاي، وتصنع قدرًا كبيرًا من الشاي، الذي يصيبها بخاره ورائحته بالغثيان أكثر. تصب فنجانًا بينما لا يزال الشاي خفيفًا، وتضيف عدة قطرات من الدواء المهدئ للأعصاب. تجلس لتتناول الشاي دون فتح ستائر المطبخ. هناك وسطَ الأرضِ يوجد كيس الجيلي معلَّقًا على عصا المقشة بين ظهرَيْ مقعدين. بقعت ثمار وعصير الكرم القماش المنتفخ باللون البنفسجي الداكن. يقطر العصير — «بلوب بلاب» — في الحوض بالأسفل. لا تستطيع أن تجلس وتنظر إلى شيء كهذا. تأخذ فنجانها، قدر الشاي، وزجاجة الدواء إلى غرفة الطعام.
لا تزال تجلس هناك عندما بدأت الجياد في المرور في طريقها إلى الكنيسة، مثيرةً سحبًا من الغبار. ستصبح الطرق ساخنة كالرماد. تظل في مكانها عندما تُفتَح البوابة ويتناهى إلى سمعها وقع خطوات رجل واثق في الشرفة. سمعُها حادٌّ جدًّا إلى درجة أنها تستطيع سماع صوت الورقة تُنزَع من الإطار وتُفتح، تكاد تسمعه يقرؤها، تسمع الكلمات تدور في رأسه. ثم تمضي الخطوات في الاتجاه المعاكس، أسفل الدرج. تُغلَق البوابة. ترد إلى ذهنها صورة شواهد قبور، ما يجعلها تضحك. تسير شواهد القبور في الشارع على أقدامها الصغيرة المنتعلة، أجسادها الطويلة منحنية إلى الأمام، تعبيراتها تبدو عليها أمارات الانشغال والقسوة. تقرع أجراس الكنائس.
ثم تدق الساعة في قاعة الكنيسة معلنة الثانية عشرة، وهكذا تمر ساعة.
يزداد المنزل حرارة. تشرب المزيد من الشاي وتضيف إليه المزيد من الدواء. تعرف أن الدواء يؤثِّر عليها، مسئول عن كسلها غير العادي، عدم قدرتها على الحركة، استسلامها دون أي مقاومة لبيئتها المحيطة. هذا حسن. يبدو ضروريًّا.
بيئتها المحيطة — جانب من بيئتها المحيطة — في غرفة الطعام تتمثل في الآتي: جدران مغطاة بورق حائط مزخرَف لونه أخضر داكن، ستائر ذات شرائط وستائر قطيفة أرجوانية داكنة تغطي النوافذ، مائدة عليها مفرش كروشيه وطبق من فواكه مغطَّاة بمادة شمعية، بساط رمادي مائل إلى اللون الوردي تزيِّنه باقات ورد زرقاء ووردية، وبوفيه عليه مفارش مزدانة ويشتمل على أطباق ودوارق مزركشة ومستلزمات شاي فضية. أشياء كثيرة يمكن مشاهدتها. تبدو الزخارف مفعمة بالحياة، وكل واحدة من هذه الأشياء في حالة حركة وتدفُّق وتغيُّر. أو ربما انفجار. تنشغل ألميدا روث خلال اليوم بمراقبتها، لا منعها من التغير بل مشاهدتها وهي تتغير، حتى تفهم التغير، حتى تكون جزءًا منه. تجري أمور كثيرة في هذه الغرفة بما لا يَدَعُ مجالًا لمغادرتها. لا ترد لها حتى فكرة مغادرتها.
بالطبع، لا تستطيع ألميدا من خلال ملاحظاتها الفكاك من الكلمات. تظن أنها تستطيع، لكنها لا تقدر على ذلك. سرعان ما يوحي هذا التوهُّج والتمدُّد بكلمات، لا كلمات محدَّدة بل فيض من الكلمات في مكان ما، توشك أن تفصح عن نفسها لها. بل قصائد. نعم، مرة أخرى، قصائد. أو قصيدة واحدة. أليس هذا هو بيت القصيد، قصيدة واحدة عظيمة تتضمن كل شيء ومن ثم، آهٍ، تجعل جميع القصائد الأخرى — القصائد التي كتبتها — غير مترابطة، مجرد محاولة وخطأ، مجرد حطام؟ نجوم وزهور وطيور وأشجار وملائكة في الثلوج وأطفال ميتون عند الشفق، هذا لا يمثِّل حتى نصف القصيدة. يجب الإيغال في الجلبة القذرة في شارع بيرل والطرف المصقول لحذاء جارفيس بولتر وعجزه الذي يشبه عجز دجاجة مقطَّعة في لباسه الأسود المائل إلى الزرقة. لقد ابتعدت ألميدا الآن كل البعد عن المشاركات الوجدانية الإنسانية، أو مشاعر الخوف، أو الأمور المنزلية الحميمية. لا تفكِّر فيما قد يجري بالنسبة إلى تلك المرأة، أو في الحفاظ على سخونة عشاء جارفيس بولتر وتعليق ملابسه الداخلية الطويلة على حبل الغسيل. فاض حوض عصير الكرم وسال العصير فوق أرضية المطبخ، مبقعًا ألواح الأرضية، ولن تزول البقعة أبدًا.
عليها أن تفكِّر في أشياء كثيرة في آنٍ واحد — تشامبلين والهنود العُرَاة والملح في أغوار الأرض، لكن بالإضافة إلى الملح هناك أيضًا المال، الرغبة في جَنْي المال المختمرة في رءوس كرأس جارفيس بولتر. هناك أيضًا العواصف العاتية في الشتاء والأفعال الخرقاء والجهولة في شارع بيرل. التحولات في المناخ حادة في الغالب، وإذا تأملتها مليًّا، فلن تجد سلامًا حتى في النجوم. كل ذلك يمكن التعبير عنه فقط إذا جرى تمريره من خلال قصيدة، وتُعتبَر كلمة «تمريره» ملائمة؛ نظرًا لأن اسم القصيدة سيكون — بل هو — «مينسيتونج». اسم القصيدة هو اسم النهر. لا، في حقيقة الأمر النهر مينسيتونج هو القصيدة، بمواضعه العميقة ومنحدراته وأجزائه الهائلة العميقة تحت أشجار الصيف وكتله الثلجية القاسية المتناثرة في نهاية الشتاء ومواسم فيضانه المدمرة في الربيع. تنظر ألميدا بعمق، بعمق شديد في صورة النهر في عقلها، وفي مفرش المائدة، وترى زهور المفرش تطفو. تبدو بارزة وحمقاء، تلك الزهور التي نسجتها أمها بالكروشيه، لا تبدو مثل الزهور الحقيقية. لكن يبدو جهدها، استقلالها الطافي، وسرورها بذواتها السخيفة مثيرًا جدًّا للإعجاب بها. إشارة أمل. «مينسيتونج.»
لا تبرح غرفتها حتى الغسق، وعندما تذهب إلى الحمام ثانيةً تكتشف أنها تنزف، فقد بدأ تدفُّق دم حيضها. عليها أن تحصل على منشفة تربطها، وتضمد نفسها. لم تمضِ من قبلُ قط، في كامل صحتها، يومًا بكامله مرتدية رداء النوم. لا تشعر بأي قلق حيال ذلك. في طريقها إلى المطبخ، تسير عبر بركة من عصير الكرم. تعرف أن عليها تجفيفها، لكن ليس الآن، وتصعد إلى الطابق العلوي مخلِّفةً آثار أقدام قرنفلية اللون، وهي تشم رائحة دمها المتدفق وعرق جسدها الذي ظل موجودًا طوال اليوم في الغرفة الحارة المغلقة.
لا حاجة للانزعاج.
لم تكن تظن أن ورود الكروشيه تسطيع أن تطفو سابحةً، أو أن شواهد القبور تستطيع الهرولة في الشارع. لا تخلط بين ذلك والواقع، ولا تخلط بين أي شيء آخَر والواقع، وهكذا تعرف أنها لا تزال سليمة العقل.
٦
٢٢ أبريل ١٩٠٣. في محل إقامتها، في الثلاثاء الماضي، بين الثالثة والرابعة عصرًا، ماتت امرأة ذات موهبة وذوق رفيع، أثرى قلمها، في الأيام الخالية، أدبنا المحلي بمجموعة شعرية تتسم بالرقة والبلاغة. لعل من المحزن أن في السنوات الأخيرة صار عقل هذه المرأة الكريمة مشوَّشًا بعض الشيء وسلوكها بالتبعية طائشًا وغير معتاد إلى حدٍّ ما. تأثَّر اهتمامها بأصول اللياقة وباهتمامها بنفسها وأناقتها، إلى درجة أنها صارت — في عيون أولئك الذين لا يعرفون كبرياءها وتأنُّقها السابقَيْن — شخصًا مألوفًا غريب الأطوار، أو — وهو ما يثير الحزن — محل سخرية. لكن مُحِيت هذه الهفوات جميعها من الذاكرة، ولا يُذكَر إلا شعرها المنشور الممتاز، جهودها في الأيام الخالية في مدرسة الأحد، عنايتها الفائقة بوالديها، طبيعتها النسائية النبيلة، واهتماماتها الخيرية، وإيمانها الديني الذي لا يتزعزع. استغرق مرضها الأخير فترةً قصيرةً رحيمة. أُصِيبت بالبرد، بعد تبلُّلها بالكامل خلال تجوُّلها في مستنقع شارع بيرل. (قيل إن بعض الأطفال المشاغبين طاردوها حتى سقطت في الماء. وهكذا هي وقاحة وقسوة بعض شبابنا الصغير، ومضايقتهم المستمرة لهذه الآنسة الكريمة، بحيث لا يمكن غض الطرف عن ذلك تمامًا في السياق.) تطوَّر البرد إلى التهاب رئوي، وماتت، لم يجاورها حتى النهاية إلا جارة سابقة، السيدة بيرت (آني) فريب، التي شهدت نهايتها الهادئة المفعمة بالإيمان.
يناير ١٩٠٤. اختفى أحد مؤسِّسي مجتمعنا، شخص من أوائل أصحاب الأعمال في هذه المدينة، فجأةً من بين ظهرَانَيْنَا صبيحة يوم الإثنين الماضي، بينما كان ينظر في المراسلات الواردة إليه في مكتبه بشركته. كان السيد جارفيس بولتر يمتلك روحًا تجارية رائعة وحية، روحًا كانت فاصلة في إقامة لا شركة واحدة فقط بل عدة شركات محلية، جالبًا فوائد الصناعة والإنتاجية والعمالة إلى مدينتنا.
هكذا تمضي صحيفة «فيديت» في عرضها الأحداث، في فيض وثقة. لا تكاد حالة وفاة تمر دون الإشارة إليها، أو لا يجري تقييم حياة أحد.
•••
بحثتُ عن قبر ألميدا روث في المقابر. وجدتُ شاهِد مقبرة العائلة. كان ثمة اسم واحد فقط عليه، روث. ثم، لاحظت شاهدين مستويين في الأرض، على مسافة أقدام قليلة — تراها مسافة ستة أقدام؟ — من الشاهد القائم. كُتِب على أحدهما «بابا»، وعلى الآخَر «ماما». بعيدًا عن هذين الشاهدين، وجدتُ شاهدين مستويين آخَرين، مكتوبًا عليهما اسمَا ويليام وكاثرين. كان عليَّ أن أزيح جانبًا بعض الحشائش الزائدة والتراب حتى أرى اسم كاثرين كاملًا. لا توجد تواريخ ميلاد أو وفاة لأي شخص، لا شيء يشير إلى عامل القرابة. كان هذا نوعًا من إحياء الذكرى، ليس من أجل العالم. لم تكن ثمة ورود أيضًا؛ لا توجد أي آثار على وجود شُجيرات ورود. ربما جرى اقتلاعها. لا يحب حارس المقابر هذه الأشياء، التي تعترض عمل جزازات العشب، وإذا لم يكن ثمة أحد يعترض، فسيقتلعها على أي حال.
ظننْتُ أن ألميدا جرى دفنها في مكان آخَر. عندما جرى شراء قطعة الأرض هذه — وقت موت الطفلين — كان لا يزال متوقَّعًا أن تتزوج، وأن ترقد في نهاية المطاف إلى جوار زوجها. ربما لم يَدَع أحد لها مكانًا هنا. ثم، رأيتُ الشواهد المستوية في الأرض تمتد من الشاهد القائم. أولًا شاهدا الأبوين، ثم شاهدا الطفلين، اللذين جرى وضعهما على نحو يفسح مكانًا لشخص ثالث، لاستكمال دائرة الشواهد. خطوت عدد خطوات من شاهد «كاثرين» يساوي نفس عدد الخطوات للوصول من شاهد «كاثرين» إلى شاهد «ويليام»، وعند هذه النقطة بدأت في نزع الحشائش وإزالة التراب بيديَّ العاريتين. سرعان ما تحسَّسْتُ الشاهد وكنتُ أعلم أنني على صواب. واصلت ما كنتُ أفعل وعملت على تنظيف الشاهد، وقرأتُ عليه اسم «ميدا». ها هو مع الشواهد الأخرى يحدِّق في السماء.
تيقنتُ من بلوغي حافة الشاهد. كان ذلك هو الاسم المنقوش عليه، ميدا. هكذا، كان صحيحًا أنها كانت تُدعَى بهذا الاسم بين أفراد العائلة، لا فقط في القصيدة، أو ربما اختارت اسمها من القصيدة، حتى يُكتَب على شاهد قبرها.
ظننْتُ أن لا أحد حيًّا في العالم بأسره سواي سيعرف هذا، سيكتشف العلاقة. وسأكون آخِر شخص يفعل ذلك. لكن ربما ليس الأمر كذلك. الناس فضوليون، القليل منهم ربما، وسيدفعهم دافع إلى اكتشاف الأشياء، حتى التافهة منها. سيربطون بين الأشياء. تراهم يتجولون بكراسات، يزيلون التراب من شواهد القبور، يستعرضون الميكروفيلم، أملًا في رؤية هذه الشذرة من الزمان، وعمل ربط ما، ينقذون شيئًا ما من الأنقاض.
وربما لا يفهمون الأمر، في النهاية. ربما فهمتُ أنا نفسي الأمر خطأ. لا أعلم إذا ما كانَتْ قد تناولَتِ اللودانوم (مستحضرًا أفيونيًّا) أم لا. تفعل الكثير من السيدات ذلك. لا أعلم إذا ما كانت قد أعَدَّتْ جيلي الكرم يومًا.