قصة غرام
ولكن ليس هذا كل الغرام؛ فإننا نغرم بالمجد، ونغرم بالفن، ونغرم بالفلسفة، ونغرم بالطبيعة و …
جاءني سكرتير التحرير وقال: إن القراء يشكون لأن قصصك لا تحوي غرامًا، وبعضهم يقول: إن الغرام أساس القصة.
قلت: ولكن جميع قصصي — تقريبًا — تحوي غرامًا.
قال: أعني الغرام بالمرأة؛ أي الحب بين الرجل والمرأة.
قلت: ولكن ليس هذا كل الغرام؛ فإننا نغرم بالمجد، ونغرم بالفن، ونغرم بالفلسفة، ونغرم بالطبيعة، و …
قال: ولكن غرام المرأة؟
قلت: إذا كان الغرام بالمرأة سيشغلنا عن الغرام بالمجد فإننا يجب أن نؤثر المجد على المرأة.
قال: ألم تقل في إحدى مقالاتك إن الحب يجب أن يكون الأساس للزواج؟
قلت: هو كذلك، وأيما أساس آخر للزواج؛ كالمال أو الوجاهة، هو أساس من رمل ينهار عليه بناء الزواج، ولكن اسمع، هل يمكنك أن تتخيل «نابليون» وهو في حروبه وبرامجه لتغيير الدنيا وتأليف المستقبل، يقعد إلى مكتبه كي يكتب خطابًا غراميًّا لحبيبته يبيِّن لها مقدار ما سحره جمالها، ويصف لها عينيها وأنفها وشفتيها وصدرها؟ أو هل يمكنك أن تتخيل «تولستوي» يفعل ذلك؟
قال: أنت تتحدث الآن عن حب العظماء الذين أُغرموا وعشقوا فكرة أو هدفًا، فهل تعتقد أن القراء يحبُّون أن تصف لهم مثل هذا الغرام أو العشق؟ أظن أنهم لن يكترثوا به!
قلت: ولم لا؟ ألا تعرف قصة الحب بين الأديب الفيلسوف «برنارد شو» والممثلة الرائعة «ألن تري»؟ لقد نُشر كتاب قبل سنوات يحوي الخطابات التي تبودلت بينهما عن حبهما مدة سنوات، وكان أعظم ما يلفت في هذا الحب أن الحبيبين لم يكونا يلتقيان؛ فقد كان «برنارد شو» يقصد إلى دار التمثيل ويقعد على مقعد أمامي، ويراها كل ليلة وهي تمثِّل، فإذا عاد إلى منزله قعد إلى مكتبه وكتب إليها خطابًا يُسِرُّ إليها فيه باختلاجاته وارتعاشاته.
وهنا ضحك سكرتير التحرير وقال: هذا حب في الهواء.
فقلت: ولكن هذه الخطابات لم تكن كلها اختلاجات وارتعاشات؛ إذ كانت تحوي أيضًا الحكمة والفلسفة والفن.
قال: ولكن، لماذا لم يكونا يلتقيان؟
قلت: استبقاءً للحب؛ حتى لا ينطفئ باللقاء، وحتى يغذوه الخيال فلا يفسد أو يفتر بالواقع.
قال: ولكن، هل هذا يطاق؟!
قلت: إن ها هنا موضوعًا للتحليل، واعتقادي أن الحب يفتر، وقد يموت بالإسراف في البعد كما يموت بالإسراف باللقاء؛ بالاثنين، وأظن أن حبهما مات وإن لم يُفهم هذا من رسائلهما.
فتململ سكرتير التحرير وقال: نريد قصة تحتوي غرامًا، ودعك من هذه الفلسفة؛ ألم يكن «برنارد شو» نباتيًّا؟ وهل ننتظر من رجل لا يشتهي أكل اللحم أن يشتهي حب المرأة؟!
قلت: إنك أذكرتني الآن؛ فإن «غاندي» كان نباتيًّا أيضًا، وتزوج عن حب، ولكنه عندما بلغ سن الرابعة والثلاثين انفصل عن زوجته، وصار ينام وحده في غرفة أخرى.
قال: ولماذا؟
قلت: لأنه رأى أن يتزوج الهند، وأن يُغرم بالإنسانية، وأن يَأرق في الليل فيذكر استقلال الأمم ومكافحة الاستعمار، أليس في هذا الغرام ما يعلو على الغرام بين رجل وامرأة؟
قال: ولماذا لا يجمع بين الاثنين؟
قلت: لأنه لا يستطيع أن يعبد ربَّين ويصلي في معبدين.
قال: ولكن «غاندي» شاذ.
قلت: إنه فذ، وعصرنا بمشكلاته العديدة وما تجرُّ في أثرها من كفاح واستمتاع، يغرينا بالحب للإنسانية، ويطالبنا بالأفذاذ، ونحن نحس أن وجودنا يتزايد بهذا الحب أكثر مما يتزايد بالحب للمرأة؛ لا، بل إن اهتماماتنا الإنسانية وانكبابنا على الدرس والكفاح يرتفع بنا إلى درجة من النضج تجعلنا نحدد ونقيِّد استمتاعاتنا بالحب للجنس الآخر، ألم تسمع عن «هافلوك إليس»؟
قال: وماذا في «هافلوك إليس»؟
قلت: إنه رجل أرصد نفسه للفلسفة والعلم، وقد أخرج في بداية هذا القرن نحو أربعين مؤلفًا في مختلف العلوم، ولم يكن يؤلِّفها، وإنما كان يرأس تحريرها ويوجه مؤلفيها، وكان يهدف من ذلك إلى أن يصوغ الذهن الأوربي كي يفكر التفكير العلمي، وقد نجح، ثم هو أيضًا أول رائد للبحوث الجنسية وتشريح الحب أو تأليفه، ومؤلفاته حجَّة لمن يدرسون هذه الموضوعات.
فقال سكرتير التحرير: وأين كل هذا من ضرورة احتواء القصة للحب؟!
قلت: انتظر قليلًا؛ فإنه قبل نحو سبعين سنة عرف امرأة تشير إلى ضوء الفجر الجديد، وتدعو إلى مجتمع علمي، فأحبها وأحبته؛ أحب كل منهما عناصر الارتقاء في الآخر.
قال: وهل سعدا بالحب؟
قلت: سعدا بالحب والزواج بضع سنوات قليلة، ثم انتهى «هافلوك إليس» إلى ما انتهى إليه «غاندي».
قال: وعاش في غرفة أخرى ينام فيها وحده؟
قلت: لا، فعل أكثر من ذلك؛ إذ هو اختار مسكنًا غير المسكن الذي كانت تقيم فيه زوجته.
قال: هل كان هذا عقب الطلاق؟
قلت: لا، لم يحدث بينهما طلاق؛ فإنهما كانا على حب متين، ولكن لأن لكل منهما شخصية فذة، ولأن لكل منهما اهتمامات إنسانية وعلمية واجتماعية تستغرق الوقت العظيم والجهد المتواصل، فإنهما انفصلا كي يجد كل منهما الحرية التامة في مواصلة عمله وتأدية رسالته.
قال: وهل يمكن أن يسمَّى هذا زواجًا؟
قلت: كانا يجتمعان شهرًا أو شهرين كل سنة.
ونفض سكرتير التحرير يده وهو يقول:
– ما دامت هذه أفكارك عن الحب والزواج فلن تستطيع أن تكتب قصة.
قلت: ليست الدنيا قصصًا، إنما الدنيا كفاح ورسالة، ومع ذلك، سأكتب لك قصة تحوي غرامًا وزواجًا.
قال: وكيف ذلك؟
قلت: هاكَ خلاصة القصة: كان «أندريه أوجست» طالبًا في كلية العلوم في السوربون في باريس، وكان البحث العلمي يستوعب كل وقته في النهار والليل، لا يكاد يجد في اليوم كله سوى خمس أو ست ساعات للنوم، وتخرَّج في السوربون، وأسَّس معملًا صغيرًا للتجارب في الدجاج والفئران والديدان، وكان هدفه أن يصل إلى الغذاء الذي يجدد الأنسجة فيطيل العمر، كما يقي من المرض، وبعد آلاف التجارب نجح في الاهتداء إلى هذا الغذاء، وفي يوم نجاحه غمره الهوى حتى صار يرقص! أفلا تعترف معي بأن هذا الغرام بإيجاد غذاء يأكله كل الناس وتزيد أعمارهم به إلى الضعف خير من الغرام بالمرأة؟
قال: أجل، خير ألف مرة.
قلت: ولكن اسمع، فإن «أندريه أوجست» كان مع غرامه هذا بالعلم قد تعرَّف إلى فتاة، وكانت تزوره وهو بالمعمل، ولم يكن يلتفت إليها أيام بحثه قبل اهتدائه إلى الغذاء المضاعِف للعمر، أما بعد ذلك فقد شرع يرفِّه عن نفسه؛ فصار يزور الملاهي معها، ويجالسها ويتحدث إليها كثيرًا، وأعادت إليه شبابه المنسي فأُغرم بها.
قال: هذه طوالع حسنة للقصة؛ قصة بلا حب للمرأة ليست قصة.
قلت: ولكنك لم تستمع إلى آخرها! فإن «أوجست» كان قد فكَّر كثيرًا في الانتفاع بهذا الغذاء، وكان يجد في أزمة العالم الحاضرة أن غذاءه الرخيص الذي يمكن أية عائلة في العالم أن تطبخه وتأكله، هذا الغذاء لا فائدة منه ما دام العالم يحارب ويقتل بعضه بعضًا؛ وخاصةً عندما نعرف أن الحرب القادمة قد تقتل ربع البشر أو نصفهم، ولهذا السبب أعلن عن غذائه، وشرط أنه لن يفضي بالسر الخاص بتركيبه إلا للأمة التي تقدِّم البراهين العملية على أنها لا تنوي الحرب ولا تستعد لها.
فقال سكرتير التحرير: هذا رجل عظيم!
وقلت: لما أَحبَّ هذه الفتاة جعلت تغريه بجمالها كي يفشي لها سر الغذاء، ولم يكن قصدها سيئًا، وإنما هي شهوة الاستطلاع العلمي فقط، وأفشى لها السر؛ للحب الوثيق بينهما.
فقال: وماذا فعلت به؟
قلت: كانت هذه الفتاة تنتمي إلى الأمة التي تتهيأ للحرب، فحملتها وطنيتها على أن تفشي السر لرجالها.
قال: أعوذ بالله! وماذا فعل هو؟
قلت: لما عرف «أندريه أوجست» أن سر الغذاء قد عرفته الأمة التي تنوي الحرب انتحر!