ماتت ٣ مرات
لماذا دفناه يا جلجل؟ رجعت أنا للبيت، هنا، وقلت: يا ربي، أنا مت ثلاث مرات، خذني وارحمني. لكن الله لم يرحمها.
كانت أم مصطفى في الخامسة والسبعين، ضامرة، عجفاء، ولم يبقَ لها في الدنيا غير الذكريات، وكان مسكنها غرفة مظلمة في بدروم، ولم يكن يؤنسها غير القط «جلجل» الذي كان يعيد إليها هذه الذكريات.
ولم يعد لها من سبيل إلى البقاء سوى تلك الكسرات من الخبز التي يتصدق بها عليها السكان المجاورون، وكانوا أحيانًا يهملون، فتبيت على الطوى هي وجلجل، ولم يكن لها أسنان؛ ولذلك كانت تبلُّ الكسرات بالماء، وتهرسها بأصابعها، ثم تبلعها بعد مضغ مزيف، وكانت تمضغ اللقمة بعد اللقمة، وتعطيها لجلجل؛ لأنها وجدت أنه لا يستمرئ الخبز المبلل فقط بالماء.
وكان جلجل يثير هواجسها وأشجانها، وكانت تخاطبه، وتتحدث إليه، وتناقشه، كما لو كان قريبًا أو صديقًا؛ فقد حرمت الأصدقاء والأقرباء، وكانت الغرفة تطبق عليها بظلامها وصمتها.
وكانت تستريح إلى الحديث معه؛ لأن شهوة البوح وبث النجوى كانا يخففان عنها؛ فكانت أحيانًا تضحك وأحيانًا تبكي، وفي كلتا الحالتين راحة، وكانت تقول:
– إنت يا جلجل نسيت راجي؛ راجي ابن مصطفى، عيب عليك، والله عيب!
ومصطفى هذا كان ابنها، وكان يسمَّى مصطفى القهوجي، وكان له مقهى صغير يبيع فيه فنجان القهوة بربع قرش، وكان ربحه الصافي من هذا المقهى لا يزيد على عشرة قروش في اليوم.
وكان هذا المبلغ يملأ المنزل بالخبز والفول المدمس والفجل والجرجير، وهذا إلى أيام كانت كالأعياد؛ حين كان يشتري سَقَط الخروف أو أكارع العجل، وعندئذ تفوح روائح الطبيخ الدسم في الغرفة، ويأتي مصطفى فيأكل مع زوجته فاطمة الفتَّة الساخنة مع بعض اللحم المريء.
وكانت أم مصطفى تزعم أنها لا تستطيع أن تمضغ اللحم، وكانت بالطبع تكذب، ولكنها كانت تفرح عندما كانت تعرف أن ابنها مصطفى قد أكل وشبع، وأن راجي، ابنه الصغير الذي لم يكمل السنتين، قد أكل أيضًا وشبع قبل أن ينام.
كانت أيامًا هنيئة، تذكرها أم مصطفى بتفاصيلها الصغيرة، وكانت تذكر كيف أن القط جلجل خطف من راجي مزعة من اللحم.
وقد مضى كل ذلك، فمات مصطفى ابنها، وماتت زوجته فاطمة، بل حتى الطفل راجي قد مات، وهي الآن تعيش مع جلجل؛ كلاهما قد لزم هذه الغرفة، وكأنه يعرف أنه لن يبرحها إلا إلى القبر، من القبر وإلى القبر.
وكان القط بعد أن يأكل طعامه الذي مضغتْه له، وبعد أن يشرب، يرفع ظهره كأنه سنام، وينتفخ، ويتمسح بها، ويموء في لذة الشبع.
وكانت هي تضمه وتتحسس فروته وتقول:
– إنت نسيت يا جلجل؟ كان راجي دائمًا يقول قبل النوم: هاتولي جج، جج ينام معي، أنام مع جج، كان يسميك جج.
ويموء القط حولها كأنه فهم ما قالته، وينام في حجرها، فتقول هي:
– أنا مت ثلاث مرات يا جلجل، ثلاث مرات؛ المرة الأولى لما مات ابني مصطفى …
وهنا تنفجر بالبكاء، ويتخضخض جسمها كله حتى يقع القط من حجرها، ويتراجع، وينظر إليها كأنه يستفهم: ماذا حدث؟
وترفع العجوز رأسها إلى سقف الغرفة وهي تقول: حرام، يا ربي حرام، أنا كان عندي غير مصطفى؟ حبلت به بعد سن الأربعين، وربيته، يا رب أخذته مني، أخذته مني ليه؟
ويعود القط إلى حجرها، وتنظر إليه وهي تقول في هدوء:
– إنت فاكر مصطفى ابني يا جلجل؟ مصطفى أبو راجي، إنت فاكره؟ مصطفى حملك وأنت صغير، وجاء بك هنا من الشارع، وفرح بك راجي، ومصطفى كان يشتري لك كل يوم لبن بمليمين حتى كبرت.
ثم تقصُّ على جلجل كيف أن مصطفى ابنها كان رجلًا شهمًا لا يعرف الغش أو السرقة، وكان يعيش بعرق جبينه، وخرج ذات يوم كي يشتري البن والسكر للمقهى، ولكن سيارة داسته وهو عائد، ثم تقول:
– إنت فاكر يا جلجل؟ لا، إنت فاكر، تقدر تنسى؟ لما أدخلوه هنا وهو محمول والدم على رجله؟ أنا وقعت على الأرض، وسمعت مصطفى وهو يقول: رشوا الماء على وجه أمي، سمعته يا جلجل، أنا يومها، أقول لك بالحق، أنا مت أول موته، وبعدها أخذوه للمستشفى وقطعوا رجله.
ويتمطَّى القط جلجل ويتثاءب.
ثم تقص عليه كيف جيء به؛ بابنها مصطفى، بعد ذلك بساق واحدة، وكيف أنها حمدت الله على أنه لا يزال حيًّا، ولو بعاهة، الحمد لله!
ثم تعود إلى النظر في وجه جلجل وتقول:
– لكن ربنا كان يكرهني! والله يا جلجل أنا ما عملت شيء يسخط الله، لكن لله أحكام؛ لما رجع لنا مصطفى؛ أنا وفاطمة زوجته، فرحنا، فرحنا كتير، ولكن رجله ورمت، وانتفخت، وطلعت منها روائح، وجاء الدكتور وقال: لا بد من حمله الآن إلى المستشفى، سامع يا جلجل يروح المستشفى، وكان الدكتور واقفًا يتأمل الغرفة وينظر إلى السقف والأرض، وبعدها قال لي: اسمعي يا ولية، اخرجي من هنا واسكني غرفة تدخلها الشمس، اخرجوا كلكم، هنا رطوبة وموت.
وضحكت أم مصطفى ضحكة مُرَّة كلها علقم، وانقلبت الضحكة إلى بكاء وانتحاب، ثم هدأت ونظرت إلى جلجل وهي تقول:
– اسمع يا جلجل، أخرج من هنا أنا وراجي وأمه ونسكن في بيت تدخله الشمس، كلام الدكتور.
ثم تقص عليه التفاصيل: كيف أن أجرة هذه الغرفة ١٥ قرشًا فقط في الشهر، وكان ابنها يؤدِّيها وهو قادر، فلما مات بعد أن قطعوا ساقه العليا في المستشفى صار الجيران يدفعونها إحسانًا وتصدقًا، ثم ترفع جلجل على ساقيه الخلفيتين وتقول:
– إنت فاكر يا جلجل لما قالوا لنا إن مصطفى ابني مات؟ كان موته بموتي، قل الله يرحمني، أنا مت يوم ما قالوا مصطفى مات.
وهي تقص عليه في كلمات مخنوقة، وحلقها يغص بالبكاء، كيف أن الدنيا لم تعد بعد موته كما كانت قبلًا؛ كانت تأكل اللقمة بالفجل فتجد لها طعمًا، أما بعد ذلك فلم يعد لشيء في الدنيا طعم، ثم تنظر إلى جلجل وتقول:
– أنا أقول لك الحق، فاطمة زوجة مصطفى ماتت، تعرف ماتت ليه؟ من السل، ثم تقص عليه، وهي تترنح من عذاب الذكرى، وبدنها يميل ذات اليمين وذات الشمال، كيف أن فاطمة صارت تخدم في القهوة بعد موت زوجها، ولكنها بردت، ورسخ البرد في صدرها، فكانت طوال الليل تسعل، حتى كان راجي يستيقظ من سعالها ويقول: ماما ماما، ويبكي.
– وأنا كنت أحمله طول الليل وأمشي به حتى ينعس وينام.
ويموء جلجل؛ لعله جائع، ولكن الذكريات تتزاحم على أم مصطفى، وتكاد تنفجر من صدرها، وهي تقص عليه كيف ماتت فاطمة؛ فإنها تركت المقهى وباعوا ما فيه من كراسي وفناجين واشتروا الأدوية لها.
– هو الدواء فيه فائدة يا جلجل؟
ثم تذكر أن الطبيب جاء وقال: اخرجوا من هذه الغرفة، وإن الرطوبة ستقتلهم كلهم. ولكنهم فقراء، وانقطعت فاطمة عن الطعام، وخمدت كما لو كانت شمعة وانطفأت، ولم تعد تأكل، وقبل أن تموت بيوم وقف إلى جانبها راجي فقبَّلت يده، وعضتها، حتى صرخ الطفل، ولما سألتها أم مصطفى عن السبب، قالت: أحب أنه يموت معي، أخاف عليه بعدي، آخذه معي.
ولم تطق أم مصطفى هذه الكلمات، فبكت وهي تقول:
– كان لها حق تخاف، كان لها حق تخاف.
ثم سكتت، وعاد جلجل إلى حجرها يموء كأنه يترضَّاها بعد بكاءها، وأسندت ظهرها إلى الحائط تستعيد أنفاسها، وبقيت صامتة بعض الوقت؛ لأن رأسها كان يدور من أثر البكاء، وتتابعت الصور في خيالها: زوجة ابنها تقيء الدم، ثم تطلب ابنها راجي فتضمه إلى صدرها، وهنا تذكرت أنها عندما وثقت بأن فاطمة في لحظاتها الأخيرة تُسلِم الروح أرادت أن تنزع راجي منها، ولكن أمه حضنته وشدت عليه بيدها، فلم تستطع نزعه، ونظرت إلى جلجل وقالت في هدوء:
– أنا مت الموتة الثانية يا جلجل لما دفنَّا فاطمة ورجعت ولقيت راجي بلا أم، راجي يتيم، عمره أقل من ثلاث سنين بلا أم، وبلا أب، إنت فاهم يا جلجل؟ بلا أم وبلا أب! ولما رجعت قال لي راجي فين ماما؟ ماما فين يا جدة؟
وماء القط، ودار حولها، لا بد أنه كان جائعًا، وزاد مواؤه وعلا، وهنا تنبهت العجوز، فنهضت وأحضرت كسرات من الخبز وبعض الماء وبللتها، ثم جعلت تمضغها وتطعم القط، وما زالت به تمضغ له وتناوله حتى شبع، أما هي فلم تأكل، وقعد القط أمامها ومسحت فروته وهي تقول:
– إنت فيك روايح راجي يا جلجل، إنت كنت كل ليلة تنام معه.
ثم جعلت تقص عليه كيف أن راجي كان نور البيت، وكان مصطفى يحمله معه إلى المقهى، ويربطه بالكرسي، ويشتري له الحلوى، ومات مصطفى فكانت أمه تحمله إلى المقهى أيضًا، وتشتري له الكعك والبسكويت، ولما كان يعطش كانت تضع قطعة من السكر في الماء وتسقيه، وبعد أن ماتت أمه لم يجد أحدًا يحمله إلى الشارع حتى يشم الهواء؛ لأنها هي عجوز عشواء ومقعدة، فكان طوال النهار معها بالغرفة، وكانت تلوك له اللقمة وتمضغها ثم تضعها في فمه كما تفعل مع جلجل.
ثم في يوم ما جعل راجي يصرخ، ويسهل، وكان يضع يده على بطنه، وحمله أحد الجيران إلى الطبيب، فقال إنها دوسنطاريا، وأعطاه الدواء بالمجان.
– وتِعرف يا جلجل، لما الدكتور فحص عن راجي قال: الطفل جميل، وكان جميل والله يا جلجل، كان جميل؛ كان أبيض في بياض مصطفى ابني، وكان سواد عينيه من سواد عيني أمه، وكان يضحك ويتكلم، وإنت عارف؟ الدكتور حضر عندنا هنا في اليوم الثاني وقال: فين الولد؟
حضر وحده من غير ما نطلبه، ولم يطلب منا قرشًا! تعرف ليه؟ هو أحب الولد، أحب راجي، ولما حضر قال: اخرجي يا ولية من الغرفة دي واسكني غرفة فيها شمس، لئلا يموت الولد، الولد يموت.
أخرج أروح فين يا جلجل؟ أروح فين؟ أنا معي قرش؟
وعاد جسمها يتشنج بالبكاء.
وكأن جلجل قد أحس بهذا الحزن الهائج في صدرها، فصاح هو الآخر: ماو، ماو؛ وكأنه يبكي معها.
وارتاحت أم مصطفى إلى بكاء جلجل، ونظرت إليه وقالت:
– أنا عارفه، إنت كنت حبيبه، كنت تنام معه كل ليلة.
ثم قصت تفصيلات موته، موت راجي؛ فقد هزل من الإسهال، وهمد، حتى لم يكن يقدر على القعود في فراشه، وكان طول الوقت يقول: ماما، ماما، ثم كان أمر الله ومات.
– لما دفناه يا جلجل رجعت أنا للبيت، هنا، وقلت: يا ربي، أنا مت ثلاث مرات، خذني وارحمني!
لكن الله لم يرحمها، فبقيت حيَّة تذكر مصطفى ابنها، ثم فاطمة زوجته، ثم راجي؛ الطفل الحلو الذي كان يمكن أن يكبر ويشتد ويدفنها هو.
ثم مدت يدها إلى كومة من الملابس، فأخرجت قميص ابنها مصطفى فتشمَّمته، وقبَّلته، ومسحت به دموعها، ووضعته في حِجرها، ثم مدت يدها وأخرجت منديل الرأس الذي كانت تلبسه فاطمة، فجعلت تقبِّله، وتلحس قماشه، وتمضغه، كما لو كانت لقمة تؤكل، ثم نبشت الملابس وأخرجت قميصًا صغيرًا لا يكاد يملأ يدها، هو قميص راجي، فوضعته على صدرها وضمَّت يدها عليه وهي تقول:
– مصطفى، فاطمة، راجي، يا ربي، أنا مت ثلاث مرات، خذني وارحمني!
كانت أم مصطفى والقط جلجل «عائلة»، كلاهما ينظر إلى الآخر في عطف وحنان وذكريات، وكان بينهما، من وقت لآخر، أحاديث وبكاء ومواء، ولقمة مبللة وجرعة من الماء.
وكان الجيران يسمعون الأحاديث بينهما فيتحسَّر بعضهم ويتنهد، ويقول بعض آخر إن العجوز تخرف، وكان الصبيان يقفون عند الكوَّة الصغيرة التي تتصل منها أضواء النهار إلى غرفتها ويستمعون إليها وهي تهذي أو تتحدث إلى جلجل، فيضحكون ويسخرون.
ومضت الأيام والموت يدب في جسم أم مصطفى، فيُثقل ساقيها، ثم يغشي عينيها بالعمى، ثم يفكك خلايا مخها، حتى صارت تخلط أحلام النوم بأفكار اليقظة ولا تميز بينهما.
ولم يعد الجيران يسمعون إلا الهمسات من القبر الذي كانت تعيش فيه أم مصطفى، ثم انقطع الهمس وماتت، وبقي القط جلجل، وكان يموء في الليل أكثر، كأنه كان يبكي، ثم مات جلجل، وانقرضت عائلة كانت تعيش في بدروم في مدينة القاهرة.