تجربة علمية
يرى النور ولا يحس النار، ويجد المعنى ولا يجد الجسم، وينظر إلى اللؤلؤ في الأعماق البعيدة، ولكنه لا يمس الماء القريب منه!
كان نجيب طالبًا في معهد الفنون الجميلة، وكان يدرس الجسم البشري دراسة الفنان الذي يحاول أن ينقل إلى المتفرج ملامح النفس إلى جنب ملامح الجسم، بل هو لم يكن يبالي بملامح الجسم كثيرًا؛ فقد كنت أتأمل بعض رسومه فأجد المعنى المستتر أكثر مما أجد الصورة الواضحة، وأحس بالدلالة أكثر مما أحس بالتقاطيع، وأذكر أني نظرت إلى إحدى صوره فسَرَت في ظهري قشعريرة وقلت له: كأن هذا الرجل يحس ارتعاشًا في نفسه.
فقال: هذا هو ما قصدت؛ إني أرسم النفس لا الجسم.
وكنت أراه يرافق إحدى الطالبات، فقلت له: يا نجيب، احذر فتنة الجمال وأنت في هذه السن؛ لأنك في الأغلب تشتهي أكثر مما تحب، وشبابك يحملك على الإعجاب بكل فتاة، ولكن بعد سنين سوف تجد أن الحب يبعث في نفسك ضروبًا أخرى من الإعجاب لن تجدها فيمن تعجب بهن في الوقت الحاضر.
فقال: إن إعجابي بزميلتي، هناء، فنيٌّ؛ فقد أحلْتُ حبي لها إلى فن، بل إني أحاول أن أجعل حبي لها حبًّا خالدًا لا ينطفئ، بقوة الامتناع؛ أنظر على بعد وأتحدث على بعد، وقد وجدت أن اشتغالي برسمها يساعدني على هذا الموقف منها، ثم لا تنسَ أنها هي أيضًا تشتغل برسمي.
وفهمت من نجيب أنه يحب هناء حبًّا جنونيًّا، ولكنه يعتقد أن الحب يفسد وينتهي ويموت إذا أطفئ؛ ولذلك يمكن بالامتناع والبعد أن يعيش هذا الحب، ثم وجد كلاهما أنه عندما يرسم أحدهما الآخر يتَّجه بكليِّته إلى استكناه الشخصية التي تستتر خلف الجسم، وينظر من خلال العين إلى ما وراءها، ويحاول أن يفسر المعنى الأزلي في انفراج الشفتين، وأن ينقل إلى المتفرج الدلالة في تطلع الرأس أو انسجام العنق.
وسمعته مرة يقول لهناء وهي ترسمه:
«عبرة الرسم وميزته على التصوير الفتوغرافي أن تستخرجي من شخصيتي وأن تبيِّني ميزات الرجولة التي أمتاز بها؛ فإن الرجال في الظاهر سواءٌ في الرجولة، ولكننا عندما نخترق حجابهم ونتعمق ملامحهم نجد التباين العظيم بينهم: هذا شجاع، وهذا جبان، وهذا حذر متبصِّر، وهذا طائش أرعن، وهلم جرًّا. وأنا حين أرسمك لا أبالي أن أنقل نقلًا صحيحًا عينيك أو أنفك أو صدرك؛ لأن القُمْرَة الفتوغرافية تفعل ذلك، وإنما أنا ألتفت إلى معنى التبصُّر في عينيك، وإلى معنى الأمومة في ثدييك، وهذا ما يجب أن تفعليه معي أنا؛ ارسمي قلبي وعقلي، ارسمي نفسي».
واستقر نجيب وهناء على هذا الموقف؛ كلاهما ينظر النظرة الفنية إلى الآخر، وفي الوقت نفسه ينأى ويعلو على ما اعتاد الناس من الحب؛ وذلك كي يبقى حبهما حيًّا مشتعلًا لا ينطفئ أبدًا.
وبقيا على هذا سنتين، ولم يتم أحدهما رسم الآخر، وكانا يجتمعان كل يوم نحو ساعتين، يترجم كل منهما شخصية الآخر على اللوحة بالريشة والألوان، وهذا مع ما التزمه كل منهما تجاه الآخر من النأي والعلو والاحتجاز.
وقلت: يا نجيب، هذا خطأ، هذا لا يدوم، إنك أزريت بالطبيعة، ورفست الحب بقدمك!
فقال نجيب: ولكنه حب دائم، وبعد سنة أكون أنا وهناء قد تخرَّجنا، وعندئذ نتغير ونتزوج.
فقلت: ولكن هل من الممكن أن تتغيرا؟
فقال: وهل في هذا شك؟
وكنت لحبي لنجيب أحب أن أصدِّق ما يقوله، فلما انتهت السنة وهنأته بالنجاح هو وهناء، قلت له: الآن كل شيء قد سار على ما تحبَّانه، وقد أتممتما الرسمين، فهلمَّ إلى الزواج.
وأمَّن كلاهما على كلامي، وشرعا بعد أيام يتهيَّئان للزواج، ولكن بعد نحو شهر جاءني نجيب وهو يقول: أنا منكوب، أنا عاجز عن الزواج، بل إن هناء أيضًا تقول إن زواجنا لن يجدي.
ولطمت وجهي عندما سمعت هذ الكلمات، فإن ما خشيته قد وقع؛ ذلك أنهما قد أفسدا حبَّهما، وأبدلا مجراه الطبيعي مجرًى آخر، هو المجرى الفني؛ فقد أمضيا نحو ثلاث سنوات يقعد كل منهما أمام الآخر كل يوم، ولكن ليس كما يقعد الشاب أمام الفتاة، وإنما كما يقعد الفنان أمام الصورة أو الرسم؛ ينتقدها ويتعمق معانيها، يرى النور ولا يحس النار، ويجد المعنى ولا يجد الجسم، وينظر إلى اللؤلؤ في الأعماق البعيدة، ولكنه لا يمس الماء القريب منه! أجل، لقد كفر كلاهما بالحب وزيَّفاه بالفن، وتعوَّدا ذلك! لا، لم يعد نجيب يحب هناء، وإنما صار يحب الرسم الذي كان يرسمه لها فقط، وهذا كان شأنها أيضًا معه.
وقلت له: وماذا بقي من الحب؟
فقال: نحن صديقان.
فقلت: لقد قمتما بتجربة علمية، ولكن الثمن الذي أديتماه فاحش؛ فقدتما السعادة وكسبتما التجربة.