والدي العزيز
وكان الدور الذي عزفتْه لنا من تأليف شوبان البولوني، ولم يدخل مخي، ولكن شادية قالت لي إني لم أتعوَّد الأدوار الأوربية، وعندما أتعوَّدها سأتذوقها.
الإسكندرية في أول نوفمبر
والدي العزيز
أرجو أن تكون ووالدتي العزيزة وإخوتي في خير وعافية.
لم أجد أية صعوبة في الالتحاق بكلية الطب، وقد تعرفت إلى بعض الطلبة والطالبات، وبعضهم يتكرم عليَّ ويرافقني آخر النهار، فنجوب الشوارع ونتمتع برؤية البحر.
وفي فرقتنا نحو خمسين طالبًا، منهم سبع من الطالبات، وجميعهن من الإسكندرية، وهنَّ يجدنَ المجاملة الرقيقة من الطلبة، وقد تعرفت إلى واحدة منهن تدعى شادية، وهي ليست جميلة ولكنها ظريفة؛ لأنها عندما تضحك تبرز لها سن تحاول أحيانًا أن تخفيها بيدها كأنها تخجل منها، مع أني أعتقد أن هذه السن هي التي تجعلها ظريفة خفيفة الروح.
أرجوك يا بابا أن ترسل إليَّ عشرة جنيهات زيادة على ما كنت طلبت لشراء الكتب والأدوات.
الإسكندرية في ٢٥ نوفمبر
والدي العزيز
أشكرك كثيرًا على إرسال المبلغ، وأرجو أن تكون ماما قد شُفيت من الرشح، وهي تصاب بالرشح في أول الشتاء من كل عام، تسليماتي الكثيرة إليها.
استغربت كثيرًا عندما قرأت خطابك ووجدتك تحذرني من الزواج، وزاد استغرابي أنك ظننت أني أحب شادية، مع أني قلت لك في خطابي السابق إنها ليست جميلة وإنما هي ظريفة فقط!
وأنا بالطبع لا أفكر في الزواج بتاتًا، وكيف أتزوج وأنا طالب؟ وحتى إذا رغبت في الزواج فإن هذا لن يكون إلا بعد موافقتك أنت وماما وبعد البحث عن مركز العائلة التي أتزوج منها.
أرجو أن تطمئن من هذه الناحية.
الإسكندرية في ٢٢ ديسمبر
والدي العزيز
اتفقنا؛ خمسة من الطلبة وثلاث من الطالبات، وخرجنا أمس في نزهة إلى المكس، وهناك قضينا أربع ساعات ونحن نلعب ونتنزه، وكان الطلبة في غاية الخشونة مع الطالبات، وكانت شادية معنا، وعندما رأت أن المزاح يخرج عن حدِّه تجنَّبت الطلبة وأبدت امتعاضها، والحق أن هذه الفتاة تمتاز بحياء لم أعرفه في جميع مَن عرفت من الطالبات هنا.
وعندما عدنا إلى الإسكندرية كانت الساعة الثامنة مساءً، وكنا في أشد الجوع، وتناولنا أنا وهي بعض السندويتش في محطة الرمل.
وبينما أنا أودِّعها إذا بوالدها يقابلنا، وقد قدمتني إليه شادية؛ وهو رجل مسن يقارب السبعين، وقد رأيت أن فمه يحوي السن البارزة التي تمتاز بها ابنته، ولم أتمالك أن ضحكت عندما رأيت سنه تبرز وهو يضحك كما تفعل ابنته بالضبط.
وقد دعاني للزيارة، ولكني اعتذرت.
سلامي إلى والدتي وإخوتي
الإسكندرية في ٥ يناير
والدي العزيز
قرأت خطابك، وثق أني مجتهد، وأن دروسي ليست صعبة، وأنا كنت أحيانًا أذاكر مع بعض الطلبة، ولكنهم كانوا يهرِّجون كثيرًا؛ ولذلك آثرت المذاكرة وحدي.
ويوم الأحد الماضي دعتني شادية إلى أن أذاكر معها؛ لأنها لم تفهم شيئًا في كتاب الكيمياء، وقد ذهبت إلى بيتها وتغديت معها، وكان معنا والدها.
ووالدتها تصغر زوجها بنحو عشرين سنة، وهي سيدة رشيقة متمدنة، والحق أن البيت كله متمدن، وجميع أثاثه أوربي الزي، وكان الغداء خفيفًا.
وبعد الغداء عزفت شادية على البيان، ولم أكن أعرف أنها تعزف، وكان الدور الذي عزفته لنا من تأليف شوبان البولوني، ولم يدخل مخي، ولكن شادية قالت لي إني لم أتعود الأدوار الأوربية، وعندما أتعودها سأتذوقها.
وبعد الغداء خرجت أنا وهي وسرنا معًا على الكورنيش، وكان حديثنا عن المحاضرات والسياسة.
وعدنا إلى بيتها وذاكرنا المحاضرات معًا، وشرحت لها الصعوبة التي كانت تشكو منها في الكيمياء.
سلامي إليكم جميعًا.
الإسكندرية في ٢٥ فبراير
والدي العزيز
استغربت عودتك إلى تحذيري من الزواج، مع أني قلت إني لا أفكر في هذا الموضوع بتاتًا، وعلاقتي بشادية هي علاقة الزمالة فقط.
كانت الإسكندرية هذه الثلاثين أو الأربعين يومًا الماضية فريسة للبرد والمطر والعواصف، وقد أنفقت كل ما كان لدي من النقود في شراء بعض الملابس؛ حذاءين وجوارب وكرافتات ومناديل؛ لأني رأيت أن أُعنى بهندامي، فأرجوك أن تسعفني بعشرة جنيهات، وأتعهد بأني لن أطلب زيادة في الشهر القادم.
الإسكندرية في ١٧ مارس
والدي العزيز
أنا أنتظر مجيئك للإسكندرية بنافذ الصبر؛ وذلك كي تزور عائلة شادية؛ فإني أحب أن يكون بيتنا متمدنًا مثل بيتها، مفروشًا بالأثاث العصري. ووالله يا أبي، إني لم أعرف امرأة في مثل الأدب الذي تتسم به والدة شادية، وهي تعاملني كما لو كنت ابنها، وتقول لي: إنت أخو شادية.
وقد علمتني شادية العزف على البيان، ومع أني لا أقرأ النوتة كما تقرؤها هي فإني حفظت دور شوبان عن ظهر قلب وأتقنته، حتى إن شادية نفسها تقول إني أعزف هذا الدور بأحسن مما تعزفه هي.
ونحن نجدُّ في المذاكرة هذه الأيام، ونبقى إلى منتصف الليل ونحن نذاكر بينما تكون أمها ووالدها قد ناما.
وقد قالت لي شادية إنها حين تتخرَّج ستفتح عيادة حرة في الإسكندرية، وإنها لن تتوظف.
والغريب في شادية أنها ساذجة لا تتخذ من الملابس سوى البسيط الذي لا يلفت النظر، حتى الحذاء لا يرتفع على كعب عال، وهي تقص شعرها ولا تضع شيئًا من المواد المجمِّلة على وجهها، وشعرها يشبه شعر أمي كثيرًا، وأعني أنه ليس ناعمًا كل النعومة، وقد اعترفت هي بأن شعري أنعم من شعرها.
سلامي إليكم جميعًا.
الإسكندرية في ٣١ مارس
والدي العزيز
قرأت خطابك، وقرأت تحذيرك لي للمرة المئة بألا أتزوج إلا بعد أن أتخرج.
وأنا أعاني أوجاعًا وآلامًا هذه الأيام لا أكاد أطيقها؛ فإن الأرق يستولي عليَّ، وأحيانًا أبكي بلا سبب، وقد ساءت معدتي، وأحيانًا أنسى أن أتغدى، وبدلًا من المذاكرة، أو بعد المذاكرة، أخرج إلى الكورنيش وأسير عليه ساعات وأنا لا أدري ما أفعل، وقد قصدت إلى أحد الأطباء فقال لي إن في معدتي حموضة، وكتب لي عن الدواء، وأنا أرجو أن أشفى قريبًا.
الإسكندرية في ١٢ أبريل
والدي العزيز
أرجو أن تسامحني، لم أطق الصبر.
تزوجت شادية، وأنا أقيم في بيت والديها، ونذهب كل يوم معًا إلى الكلية، وستحتاط هي حتى لا تحمل، وسنبقى بلا أولاد إلى أن نتخرج.
أبي، سامحني، سامحني، سامحني.