العمارة ليست ملكه
عمارة لم تكن لتزيده أمانًا في الدنيا، أو صحة في الجسم، أو حكمة في العقل، أو رفاهية في العيش.
كنت قاعدًا على قهوة جميلة في الجيزة، وكان الحر لا يطاق، وراقني منظر الكوب الممتلئ بالماء المثلج والذي تكاثفت رطوبة الجو على سطحه الخارجي بما يشبه الضباب، وأحسست ارتياحًا إلى هذا المنظر، فجعلت أتمزَّز الماء من غير عطش، وأنا ألتذ برودته، وأحس كأن حر الجو قد خف.
وشربت القهوة في أناة وتبلد واسترخاء، وجعلت أتأمل نضرة الأعشاب وجمال الصبيان الذين يلعبون حول الموائد، وبينا أنا كذلك إذا بثلاثة قد دخلوا وقعدوا إلى مائدة جواري، وكان أحدهم شيخًا سمينًا معممًا يكاد الدم يثب من وجهه، وكان معه اثنان من الأفندية، وقد اتضح لي من حديثهم أنه مقاول ثري يملك عدة عمارات في القاهرة، وأن هذين الاثنين من مستخدميه، وكان صوته يعلو في غضب، ويده تدق المائدة وهو يجادل هذين العاملين اللذين يبدو أنهما قد أهملا بعض شئونه بحيث قد أدى هذا الإهمال إلى احتمال ضياع إحدى العمارات، وقال:
– لو أنكم كنتم قد احترستم في كتابة العقد بيني وبين الشيخ مصطفى لما كنا وقعنا في هذه القضية التي ربما نخسرها اليوم، أعوذ بالله يا ربي! خسارة ١٥ ألف جنيه، من يطيق هذا؟ وأنتم السبب؛ لو كنتم احترستم في كتابة العقد.
وكان الأفنديان العاملان عنده يخففان عنه، وقال أحدهما وهو يتضاحك:
– والله يا شيخ محمد الدنيا بخير، إنت عندك خمس عمارات غيرها، إيراد كل واحدة منها فوق المئة من الجنيهات كل شهر، أكبر من مرتبات ثلاثة وزراء، افرح يا شيخ واتهنا.
ولكن الشيخ محمد بدلًا من أن يفرح حمي وغضب، ورأيت يده وهي ترتعش وتضرب المائدة من جديد بعنف، وهو يقول:
– أنا أئتمنه وهو يخونني؟! الشيخ مصطفى كان عاملًا عندي قبل عشرين سنة، وكان يشكر الله على أني كنت أعطيه ثلاثة جنيهات في الشهر، ثم جعلته شريكًا لي بقيمة العشر، ثم الخمس، ثم النصف في المكسب، حتى اغتنى وأصبح مقاولًا مثلي! أنا انتشلته من الفقر إلى الغنى، أنا جعلته من الأعيان، أنا يخونني ويكتب العقد كي يخطف العمارة مني؟ هل هذا شرف؟ هل هذا عدل؟!
وهنا قال له أحد الأفنديين:
– إنت عندك خمس عمارات، تبكي على السادسة ليه؟ حتى لو خسرتها اليوم إنت غني عنها!
وهنا زاد غضب الشيخ محمد، فرفس بقدميه، وضرب المائدة، وقال:
– أخسر القضية ليه، أخسرها ليه؟ أنا صاحبها، والله لو خسرتها هذا اليوم ليكون بيني وبين الشيخ مصطفى دم، دم، دم.
وعاد الأفندي الآخر يهدئ من روع الشيخ محمد ويخفف عنه، ولكن الشيخ محمد كان ينتفض على كرسيه، ويده ترتعش، وقدماه تحفران الأرض، ويكاد الدم المحتقن يمزِّق وجهه ويَطفِر منه.
وفهمتُ أن القضية معروضة هذا اليوم أمام المحكمة في القاهرة، وأنهم ينتظرون تليفونًا عن الحكم.
ولم يمضِ قليل حتى جاء الجرسون وهو يقول: الشيخ محمد بك، تليفون.
ونهض أحد الأفنديين، وغاب لحظة عاد بعدها وهو ساهم منكَّس الرأس، وهو يقول:
– خسرنا القضية، وحُكِم لمصلحة الشيخ مصطفى.
وهنا رأيت منظرًا ملأني كراهة ورحمة معًا؛ فإن وجه الشيخ محمد احتقن، وغشيته زرقة، وجعل ينتفخ، ثم رفس ووقع على الأرض كأنه حيوان مذبوح، وانتفضت أنا وأنا أصرخ: ماء بارد، ماء بارد!
وجعلنا نصب الماء على وجهه، وفككنا أزراره، وأغرقناه بالماء البارد، وتركنا أحد الأفنديين إلى المدينة يبحث عن طبيب، وصرنا نهز الشيخ محمد، ونقعده، ثم نلقيه على ظهره، ثم نفعل العكس، ولكن بلا أية فائدة، فإن المسكين كان قد مات بالنقطة أو بالسكتة، لا ندري.
وجاء الطبيب، فصدَّق على موته، وحُمِل المسكين جثة جامدة، وعدت أنا إلى مائدتي، وجعلت أنظر إلى المائدة التي كان عليها هؤلاء الثلاثة، وأتأمل هذا الشيخ محمد، السمين، الدموي، الذي يملك خمس عمارات، قد باع حياته كلها من أجل عمارة لم تكن لتزيده أمانًا في الدنيا، أو صحة في الجسم، أو حكمة في العقل، أو رفاهية في العيش.
وكان جسمي لا يزال ينتفض، وحاولت أن أشرب قليلًا من الماء، ولكن يدي ارتعشت، فتركت الكوب وأنا أقول:
– حرام عليك يا شيخ محمد، أيتمت أطفالك بطمعك وسوء عقلك، رحمة الله عليك! هذه الدنيا، هذه الدنيا!