صوت الشيخ
كنت أقرأ آلام نفس مصرية، هي واحدة من شعب حاول أن يرتفع من العبودية إلى البشرية، ولكن المستبدين والمستعمرين أبوا عليه ذلك!
عندما رأيت صورته المعلقة إلى الحائط مَثُلت أمامي حياته الماضية، ولكني عندما تأملت وفاته وقفت مترددًا أيهما كان أجمل وأكثر عبرة: حياته أم مماته؟
فقد دعاني صديقي إلى زيارته في منزله القديم في عابدين، فلما دخلت المنظرة؛ أي غرفة الضيوف المجاورة للباب، وجدت هذه الصورة، وكانت لرجل في السبعين أو حوالي ذلك … ووقفت أتأمله طويلًا؛ فقد نقلت صورته وهي خالية من هذه اللمسات العصرية التي تحيل كلامنا أمام العدسة الفتوغرافية إلى بطل، فكان رأسه منحنيًا، والغضون تملأ وجهه، وفي عينيه همٌّ يرزح به وكأنه لا يطيقه، وسألت صديقي عنه، فقال: هو أبي، مات في ١٩٠٨، في السبعين أو الثانية والسبعين.
وزادني هذا الكلام إكبابًا على الصورة، وقلت في نفسي: مات في السبعين في ١٩٠٨؛ أي إنه ولد في ١٨٤٠ قبل نهاية ولاية إبراهيم ومحمد علي بثماني سنوات، رأى أول خط للسكك الحديدية، ورأى افتتاح قناة السويس، ورأى ثورة عرابي، ورأى فظيعة دنشواي، يا له من تاريخ! لو أن هذا الرجل كان قد كتب لنا تاريخ حياته، وذكر لنا ما انطبع في نفسه منها، لكانت لنا من هذه الحياة ذكريات ممتعة أليمة، كنا نعيش بها في السنين الماضية، ونقرأ بها تاريخ آبائنا وجدودنا.
وعدت أتأمل الصورة، وجاءت القهوة، ولكني بقيت مكاني أتأمل هذا التاريخ القديم، وأقرأ في العينين والفم والجبهة، وفي هذا الانحناء بالرأس الذي يشبه الاستكانة والتسليم — كنت أقرأ آلام نفس مصرية، هي واحدة من شعب حاول أن يرتفع من العبودية إلى البشرية، ولكن المستبدين والمستعمرين أبوا عليه ذلك!
وصارحت صديقي بإحساساتي، فقال: إذا كنت تتأمل صورته وتفكر في كل هذا الذي مر بحياته فاسمع إذن وتأمل في مماته.
قلت: مماته؟ وماذا يكون في الموت؟ لقد استلقى على سريره ثم فاضت، هذه مسألة ساعة أو يوم.
قال: لا، إنه كان يحب الشيخ سلامة حجازي.
قلت: وأنا أيضًا كنت أحبه.
قال صديقي: إن لموته قصة تحب أن تسمعها؛ ففي ذات يوم من ١٩٠٨، وكنت أنا في العاشرة من عمري، وكانت أمي لا تزال حية، استيقظ في الصباح وقال إنه رأى الشيخ سلامة حجازي في نومه، وإنه وبَّخه وعتب عليه أن يوافي الموت قبل أن يودعه، ثم بكى.
قلت: خرف الشيخوخة؛ المسنُّون يبكون بسهولة لأقل الأسباب.
فقال صديقي: أبي لم يخرف بتاتًا، بل مات وهو في كامل عقله وسلامة تفكيره؛ فإنه مسح دموعه وقال مثلما قلت أنت إن بكاءه خرف، ولكنه في صباح اليوم التالي استيقظ وهو يقول: لم أعد أطيق هذا، ولما سألناه عاد إلى البكاء وهو يقول: الشيخ سلامة حجازي جاءني مرة أخرى في الحلم وقال لي: كيف تموت قبل أن تراني؟ أهذا وفاء؟!
ومع أني، أنا وأمي، كنا قد تلقينا الحلم الأول بالإهمال والاستهتار فإن هذا الحلم الثاني قد أثار فينا الاضطراب، فقالت أمي لي: اسمع يا إسماعيل، هذا المساء تذهب مع أبيك لحضور الشيخ سلامة.
وفي المساء ذهبنا، ونحن لا نعرف أية «رواية» سنسمع، ودخلنا، وقعدنا في صف أمامي، وقعد أبي وكله آذان يستمع لأغاني الشيخ.
وانطلق الشيخ سلامة يغني وكأنه عصفور قد خرج وانطلق من القفص الذي كان محبوسًا فيه وصار يغرد، وصرت أحس كأن الجدران والسقف والأرض كلها تغني، وكانت قلوبنا تخفق ونحن في طرب يهزنا جميعًا، وقال لي أبي: في حلقي بكاء، ولكني لن أبكي. وتماسك أبي حتى خرجنا، وركبنا الحنطور وهو يقول: الحمد لله، الآن أموت مرتاحًا!
وانطلق الحنطور بنا إلى البيت، وكنا في منتصف الليل، والقاهرة هادئة نائمة مظلمة، والجو بارد طري، فانطلق أبي بالبكاء، وكانت دموعه غزيرة حتى لأحسست كأنه يريد أن يُخرج كل ما في نفسه من حزن ويسكبه على صدره.
فقلت له: أبي سنذهب غدًا ونرى رواية أخرى للشيخ سلامة.
ولكن أبي قال: لا، حسبي هذا، لقد شبعت، الله يطيل عمرك يا شيخ سلامة! وتنهد واستراح وكفَّ عن البكاء.
ودخلنا البيت، وتقبَّلت أمي أبي ضاحكة كما لو كانت تتقبَّل طفلًا قد عاد بعد أن اشترى لعبة، وضحك أبي ودخل ناشطًا إلى سريره ونام.
واستيقظتُ في الصباح فوجدتهما؛ أبي وأمي، يشربان القهوة، وأبي يقص عليها ما رأى وما سمع في المساء السابق، وكان في نشوة واضحة وفي طرب لا يكاد يطيقه.
ودخلت إلى غرفتي لألبس ملابسي استعدادًا للخروج، ولكني قبل أن أخرج قصدت إلى أبي حيث كنت قد تركته، ولكني وجدت أنه قد آوى إلى فراشه.
وقالت أمي إنه قال إنه يريد أن يرتاح.
وخرجت مطمئنًّا، ولكن لم أكد أسير خطوات حتى أحسست كأن سيفًا يقطع رأسي ويقول: أبوك.
ووقفت وأنا أرتعش، ثم هرولت عائدًا إلى البيت، وما إن دخلته حتى سمعت صراخ أمي: يا حبيبي.
ووقفت أمام جثمان أبي وأنا جامد أخرس، ثم نطقت، وقلت: الحمد لله! لقد سمع أمس صوت الشيخ سلامة.