اختلفوا على الجهاز
… ووجدتهم جميعًا ساهمين صامتين، كأنهم في مأتم وليسوا في عرس، وعندما قلت السلام عليكم لم أسمع رد التحية إلا من ثلاثة أو أربعة!
كنت موظفًا في مركز بمديرية الغربية، وكنت على أحسن وأسعد ما أحب، ولكن المعاكسات الصغيرة التي يعتادها الموظفين جعلت مقامي في هذا المركز جهنم؛ فإن زميلًا لي كان قد جعل دأبه أن يناقرني مناقرة الضرتين، وكان يمشي بالنميمة بيني وبين زملائي من سائر الموظفين، وانتهيت إلى أنني يجب أن أسعى وأنتقل إلى مركز آخر، وكانت وظيفتي صغيرة، فلم يكن انتقالي صعبًا؛ لأن أمثالي يعدون بالمئات في المراكز، ويسهل الاتفاق مع أحد الموظفين على أن نتبادل مكانينا، ووجدت هذا البدل بسرعة موفقة، وكان المركز الذي نقلت إليه في مديرية البحيرة نائيًا نحو الصحراء الغربية.
ومع أني وجدت صعوبات غير قليلة في المسكن والمأكل، فإني وجدت بعد نحو شهر سيدة أرملة تؤجِّر الدور الثاني من منزلها بأجر صغير، وعاينت المكان، ودرست الوسط، ووجدت أنه يوافقني، ونقلت كل ما أملك من أمتعة إلى مسكني الجديد.
وكانت هذه السيدة الأرملة تشتري لي كل حاجاتي، وأحيانًا تطبخ لي ما تشتهيه نفسي، ووجدت في الموظفين الذين تعرفت بهم أنسة جديدة، تقارب الصداقة، لم أكن أعرف مثلها في مركزي السابق في مديرية الغربية.
وكان يزورنا من وقت لآخر في مكتبنا في المركز مزارع يملك نحو عشرة فدادين، وكان ينفق علينا بسخاء ويسهر معنا، وكان يشرب الخمر بلا حساب، وكان مجونه ومزاحه يغلبان على حديثه.
وذات يوم، وكان يوم الخميس، كنت قاعدًا في غرفتي أرتاح بعد الظهر، وإذا بالسيدة الأرملة التي أسكن في منزلها قد صعدت إلى غرفتي ودقَّت الباب، ونهضت وفتحت لها، فبادرتني بقولها: الشيخ حسين أبو محمود في انتظارك تحت. ونهضت، ولبست ملابسي بسرعة؛ لأن الشيخ حسين أبو محمود هذا هو المزارع الذي ينفق علينا بسخاء.
ونزلت أهرول وأنا أترقَّب مساء مليئًا بالأكل والشرب، وقابلني الشيخ حسين أبو محمود وصافحني في حفاوة مشرِّفة، وقال لي إني مدعو إلى منزل شقيقه هذا المساء بقريتهم؛ لأن بنته؛ أي بنت شقيقه هذا، ستتزوج هذا المساء، وأجبته بالإيجاب؛ إذ لم يكن من الذوق أن أرفض مثل هذه الدعوة، وسألته إذا كان قد دعا زملائي في المكتب، فقال: إنهم سبقونا إلى القرية، ولكنه جاء خصيصًا لي لأني لا أعرف الطريق.
وركبنا عربة يجرها حصان مفرد هزيل، جعل يجرنا في بطء حتى وصلنا إلى القرية نحو الساعة الثامنة من المساء، وكنا في الشتاء، وكان الظلام حالكًا والبرد قارسًا، ودخلنا البيت ولم يكن هناك من علامات العرس سوى مصباحين كبيرين على الباب، واجتزنا الدهاليز العديدة حتى وصلنا إلى غرفة كبيرة، ودخلنا كلانا فوجدنا نحو عشرين رجلًا من الفلاحين والعرب، ووجدتهم جميعًا ساهمين صامتين، كأنهم في مأتم وليسوا في عرس، وعندما قلت السلام عليكم لم أسمع رد التحية إلا من ثلاثة أو أربعة.
وقعدت على كرسي قريب من الباب، ثم رأيت الشيخ حسين أبو محمود يخرج ثم يعود، فينادي أحد القاعدين في صوت منخفض ويخرج، ثم يعود فينادي آخر، وأحسست بهرج لم أفهم معناه، وتطلعت أبحث عن أحد زملائي الذين قيل لي إنهم سبقونا فلم أجد أحدًا، وقدَّمني الشيخ حسين أبو محمود إلى شقيقه الذي سيُعقد زواج ابنته هذا المساء.
وحدث هرج ثم ساد صمت، ودخل أحد المدعوين وهو ينتفض من الغيظ وهو يقول: خبيث، سافل، لئيم، يستحق الضرب بالرصاص.
وخرج أحد القاعدين وقد أزبد فمه من الغيظ، وهو يصيح: ناس أولاد كلب، عدموا الشرف.
ولم أفهم شيئًا من كل هذا، ولكني أحسسن أن الجو لا ينبئ بالفرح والأكل والشرب كما كنت أنتظر، ودخل عليَّ الشيخ حسين أبو محمود، وأخذني من يدي، وخرج بي إلى قاعة بعيدة وقعد إلى جانبي وقال: اختلفوا على الجهاز.
فقلت: أي جهاز؟
فقال: العريس كان يطلب سريرين وسجادة عجمية، ولكن شقيقي أصر على سرير واحد وسجادة أفرنجية، وإلى الآن لم يحضر العريس، وقد بعثنا إليه فأقسم بأنه لن يحضر، وكلنا في خجل، وسيعرف أهل القرية كلهم في الصباح أن بنتنا تركها عريسها.
فقلت: هذه والله كارثة!
فقال الشيخ حسين: ليس الأمر كارثة، بل هو العار، نحن فلاحين، لكن فلاحين عرب، والعار سيبقى أبد الأبد لنا ولأولادنا.
فقلت: الأمر لله يا شيخ حسين.
فقال: ألا تصنع معروفًا، وتنقذ شرفنا وتتزوج هذه البنت هذه الساعة، ونحل هذه المشكلة بزواجك، ولو بضعة أيام؟
فكدت أضحك من هذا الاقتراح، ولكنه جعل يرجو ويتوسل ويقول إنه شرف العائلة.
وبينما نحن في ذلك وإذا بفتاة، أو سيدة سمينة مبتسمة، تبلغ الثلاثين، قد جاءت تحمل كوبًا من الشربات وتقدمه لي، وقال لها الشيخ حسين: قبِّلي يد سيدك يا بنت.
وقبَّلت يدي اغتصابًا بقوة وإجبار.
وسحبني الشيخ حسين، كأنه يسحب خروفًا، إلى قاعة المدعوين، وأجلسني على كرسي، وقبل أن آخذ نفسي رأيت الفتاة السمينة المبتسمة تقعد إلى جانبي، والعقد يتمَّم في سهولة ويسر، كأننا كنا على ميعاد.
وانبسط الحاضرون، وتكلموا، وأكلوا، وشربوا، وبت ليلتنا أنا والعروس معًا.
وفي الصباح ركبنا العربات إلى بيتي في البندر، وبعد أيام جعلت أبحث عن العريس السافل الذي ترك عروسه من أجل الجهاز، فلم أجد اسمًا ولا خبرًا.
وعرف زملائي ما حدث فجعلوا يضحكون ويسخرون مني، أما أنا فقررت بعد أن اتضح لي هذا النصب العلني أن أطلق زوجتي انتقامًا من الشيخ حسين وشقيقه.
ولكن هأنذا بعد سبع سنوات لم أطلقها؛ إذ هي أم أولادي الثلاثة، وكلانا يحب الآخر ويحترمه، ويجد فيه أقصى ما كان يهوى من سعادة الزواج.
ولكن شيئًا واحدًا فقط ينغص عليَّ، وهو أن الشيخ حسين عندما يشرب ويسكر يقص على مساهريه ومسامريه القصة على حقيقتها، ويفخر بأنه نصب عليَّ وزوَّجني بنت أخيه بخداعي بأني رجل شهم يجب أن أنقذ شرف العائلة، وأنه لم يكن هناك عريس، ولم يكن هناك خلاف على الجهاز.