افتحوا لها الباب
بنت فقيرة وجميلة، ومَن من فتيات القرية لا يتزوَّجنه وهو يملك فدانًا غير مرتب الخفر؟!
تعارفا في الحقل عند القناة الصغيرة، وكانت مع عائشة عجلتها التي ترعى الأعشاب على شطي القناة، أما محمود فكان يحمل فأسه التي يعزق بها القطن قريبًا من القناة بعيدًا عن القرية.
وكانا يتواعدان للِّقاء عند المصرف، وعند القناة، وهناك بين شجيرات النخل القليلة، وبين البرسيم الذي شرع يجف ويملأ الهواء بتباشير الدريس، كانا يقعدان ويتحدثان في حياء، وكانت عائشة تقص عليه حوادث البيت الصغيرة، وماذا قالت جدتها عن العجلة، وماذا يريد أبوها أن يفعل بالعنزة العجوزة التي لم تعد تلد.
وكان محمود يقعد إليها في صمت عصبي، لا يدري كيف يحتوي نفسه؛ فقد كان يستمع إليها ويده ترتعش، وقدمه تختلج، وتنهداته تتوالى، وهو يعتدل من وقتٍ لآخر كأنه لا يجد الراحة في مقامه أمامها.
وكانت الساعات تمضي كأنها لحظات، وذات يوم جاء طلب لمحمود من العمدة؛ وزارة الحربية تطلبه للتجنيد.
وأحس محمود أن أفكاره مبلبلةن لا يدري ما يفعل؛ هل يفر هو وعائشة؟ إلى أين؟
وذهب إلى العمدة وعرف المواعيد، متى يسافر للكشف؟
وقبل السفر بيوم قعد إلى عائشة عند القناة، وقبَّل يدها وذراعها، وعنقها، ووجهها، وتشمَّم رأسها، وبكى، وبكت هي أيضًا بعد أن قبَّلت يده، وتواعدا على الزواج عقب رجوعه من الخدمة العسكرية، ومع أن الحزن كان يغشي قلبها فإن أمل الزواج بعد سنة أو سنتين كان يملؤها بشجاعة وتفاؤل.
وسافر محمود إلى القاهرة، وبقيت عائشة وحدها في القرية، واستفاض الشباب في جسم عائشة؛ فبرز صدرها وتورَّدت وجنتاها وضحكت عيناها، وتحدثت نساء القرية عن جمالها.
وكان شيخ الخفراء في القرية رجلًا طيبًا يملك نحو فدان، وكان لذلك يعد من الأعيان الموسرين، وكان قد تجاوز الستين وماتت زوجته قبل ثلاث سنوات وخلَّفت له بنتين لم تتجاوز كبراهما العاشرة من العمر.
وكانت له أخت تحبُّه وتحضر كل يوم إلى منزله لخدمته وخدمة البنتين، وكانت تعرف عائشة وتتحدث عن جمالها وفتنتها.
وذات صباح، عندنا بكَّرت إلى بيت أخيها، وجدته قاعدًا إلى الموقد يهيِّئ القهوة، فقعدت إليه وشرعت تتحدث عن متاعبه وهو بلا زوجة وبلا ولد يرثه ويخلد اسمه، ولماذا لا يتزوج عائشة؟ بنت فقيرة وجميلة، ومَن من فتيات القرية لا يتزوَّجنه وهو يملك فدانًا غير مرتب الخفر؟!
ونفض الشيخ على هذا الاقتراح بيديه استنكارًا وهو يقول: أنا رجل مسن، ومريض، ليَّ إيه في الزواج؟
فقالت أخته: ولكنك تحتاج للزواج لهذا السبب نفسه، امرأة تعتني بك وتريحك.
وما زالت به تعاوده كل يوم بقصة الزواج من عائشة حتى قَبِل، وذهبت هي إلى والدَيْ عائشة، واقترحت عليهما هذا الاقتراح الذي تلقَّاه الأبوان بالاستنكار أولًا، ولكن بعد أيام، وبعد المحاورة بينهما وبين عائشة، التي أصرت على الرفض، قَبِلا، ولم يكونا يعرفان شيئًا عن حب عائشة لمحمود، وتواعدهما على الزواج بعد عودته من الجندية.
وأصرت وتمسكت عائشة بالرفض، وبكت وهددت بالفرار، ولكن أمها كانت تسوسها بخبرة الزوجة المجرِّبة، وقالت لها:
– الشيخ علي رجل عجوز، تتزوجينه وبعد سنة يموت، ويكون لك ميراثه، وبعد ذلك تتزوجين أحسن الشبان في القرية؛ لأن لك الجمال والمال.
وجمعت أمها النساء القريبات والصديقات، فألححن عليها حتى قبلت، وهي تؤمِّل التخلص بعد سنة أو سنتين؛ لأن الشيخ علي مريض ولن يعيش طويلًا.
وتم الزواج، وكانت هي في العشرين وهو فوق الستين، واكتشفت بعد الزواج أنه يحتاج كل يوم إلى لزقة توضع على ظهره قبل النوم، فكانت تدفِّئها على النار، ثم ينبطح الشيخ علي وتضع عائشة اللزقة على ظهره، ثم تربطها.
وقد أحست بعد أن صارت اللزقة واجبًا أن الشيخ علي ليس زوجًا، وإنما هو طفل يحتاج إلى العناية كل مساء، وأن إهمال اللزقة قد يكون سببًا لموته.
وزاد هذا الإحساس أنه كان طيبًا، يذهب إلى السوق الأسبوعية فيشتري لعائشة ولبنتيه الحلوى والأقمشة الزاهية، وكانت هاتان البنتان قد تعلَّقتا بعائشة كما لو كانت أختهما.
ومضى على الزواج أكثر من سنة وعائشة سعيدة بهذا الطفل الكبير الذي يحتاج إلى اللزقة كل ليلة، وبهاتين البنتين اللتين تعلقتا بها، وكادت أن تنسى محمود.
وذات يوم عمَّ القرية هرج؛ فإن محمود قد عاد بعد أن أمضى الخدمة العسكرية، وسمعت عائشة هذا الخبر، فاعتكفت في غرفتها المظلمة وهي تحس كأن زلزالًا يزعزع ثيابها ويبلبل أفكارها، وجعلت تستعيد ذكرياتها عند القناة، وتذكر وعدها لمحمود بأنها ستنتظره حتى يعود فيتزوجا.
وظنَّ الشيخ علي أنها مريضة، فأرسل إحدى بنتيه لأمها كي تحضر وتؤنسها، وجاءت أمها فباحت لها عائشة بكل شيء؛ بحبها لمحمود ورغبتها في الطلاق كي تتزوجه.
وارتاعت الأم من هذا الكلام، وأخبرتها بأن أهل القرية لو علموا به لكانت فضيحة لها ولوالديها، وتركتها، وحاولت أن تكتم السر على طريقة النساء، فباحت به فقط لصديقاتها، وباحت الصديقات لكل من كنَّ لا تعرفنه، وبلغ الخبر أخت الشيخ علي التي أسرعت إلى عائشة وجعلت تهدِّئ منها وترجوها البقاء مع أخيها.
وتسرَّب الخبر إلى الشيخ علي، ووقع عليه كالصاعقة، ولكن الرجل كان حكيمًا ورقيقًا معًا، وكان أيضًا يحب عائشة كما لو كانت بنته، فدعا أخته، وبعض الأقارب، ودعا المأذون، وأمام هؤلاء جميعًا أعلن الطلاق، وقال: افتحوا لها الباب، ربنا يعمل لها الخير، ربنا يبارك عليها.
وكانت عائشة تسمع هذه الكلمات التي دارت في رأسها كأنها كانت تكويها بالنار، فنهضت وقعدت، ثم تأملت هذا الرجل العجوز، الذي يحتاج إلى اللزقة كل ليلة، وربما يموت إذا فارقته، فخرجت إليه وهي تبكي وقد اغرورقت عيناها بالدموع وصاحت:
– هو أنا طلبت الطلاق؟ هو أنا قلت إني أخرج؟ أنا معك هنا لحد ما أموت أنا أو تموت أنت!
ورد الشيخ علي يمين الطلاق ودموعه تنهمر.