غرفة الخادمة
ومع أن «أسماء» كان يخالجها اليأس، فإنها كانت لا تزال تستمسك وتأمل ضد الأمل.
تزوَّجتْه عن حب يزيد على ما كان يكنُّه هو لها منه؛ فقد كان محاميًا موهوبًا، نال شهادة الحقوق ولم يبلغ الثانية والعشرين، وكان وسيمًا في قوامه، كما كان أنيقًا في ذوقه؛ يتخذ الملابس التي تماثله، ويتحدث في ابتسام، ويسرع إلى تقديم المعونة التي تقتضيها الشهامة للآنسات.
عرَفتْه «أسماء» وهي طالبة معه أيضًا في كلية الحقوق، وجرفها الحب فلم تكن تطيق مفارقته؛ إذ كانت تذهب إلى منزله، أو يذهب هو إلى منزلها للمذاكرة، ومع أنه كان يسبقها في الدراسة بثلاث سنوات فإنهما كانا يتعلَّلان بأن هناك موضوعات دراسية لا يزالان يشتركان فيها.
ولما نال الأستاذ أنيس شهادته وترك الكلية، كفَّت أسماء عن الاستمرار في الدراسة، وتم زواجهما، وسافرا الإسكندرية حيث كان مكان العمل الحر؛ أي المحاماة، الذي اختاره الأستاذ أنيس مُؤثِرًا حريته على الوظائف الحكومية.
ولم تندم أسماء على تركها للدراسة؛ فإنها وجدت في أنيس كل ما تشتهيه الفتاة في الزواج من السعادة، ووجد زوجها الشهرة التي لم تتأخر كثيرًا؛ فإنه أمضى السنة الأولى فيما يشبه الركود والكساد، ولكن الرخاء كان في السنة التالية؛ فإن كثيرًا من الشركات عرفته وأقبلت عليه، وكان اختصاصه القضايا المدنية والتجارية.
ومضت سبع سنوات وهما يتقلبان في هناء الزوجية، وكان كسب الأستاذ أنيس وفيرًا، يتيح لهما التشتية في الأقصر، والاصطياف في لبنان، ولكن كان هناك مع ذلك ما ينغصهما، وهو أنهما حرما الأطفال، ومع كل ما بذلاه من مجهود بقيا طوال هذه السنوات دون أن تحمل أسماء.
ولكن الثراء، وما كان يتيح لهما من الاستمتاع، كان ينسيهما هذا الحرمان، وأنهما استقرا في النهاية على عادات اجتماعية تشغل وقتيهما بالزيارات والتنزهات وشراء الصفقات الكاسبة من عقارات مدنية أو ريفية.
ثم حدث وهما يسيران ذات يوم على الكورنيش أن لحظت أسماء في زوجها اضطرابًا في حديثه؛ فقد كان يثِب من موضوع إلى آخر في تفكُّك وبلا ارتباط، ولم تأبه كثيرًا؛ إذ هي علَّلته بأنه متعب من عمله في مكتبه.
ولكن هذا الاضطراب استمر في اليوم التالي، وزاد كثيرًا بعد أسبوع، حتى إنه؛ أي الأستاذ أنيس، كان وهو إلى المائدة ينسى أنه يأكل، ويسترسل في الحديث المتفكك عن السياسة، التي يثب منها إلى بعض القضايا التي يدرسها، ثم يثب من هذا إلى الاستحمام في البحر، ثم يذكر أحد الأصدقاء.
وذُهلت أسماء، واستدعت ثلاثة من أصدقاء زوجها، وجميعهم من الأطباء، وما هو أن حضروا إلى منزله، ورأوه على هذه الحال حتى تلاحظوا في صمت يدل وكأن كربًا عظيمًا قد حطَّ عليهم.
وهُرع أحدهم إلى الشارع، وسارع إلى سيارته، ومضى بها يعدو إلى إحدى الصيدليات؛ حيث اشترى عددًا كبيرًا من الأنابيب عاد بها، وشرع الجميع يعالجونه ويحقنونه.
وفهمت أسماء من نظراتهم أن هذا مرض خطير يخشونه، فطلبت منهم أن يصارحوها، ولم يتأخروا عن مصارحتها، وفهمت أسماء أن زوجها مريض بأحد الأمراض الوبيلة التي تنتهي بالشلل العام ثم الموت، إذا لم تُعالَج في شهورها، بل في أسابيعها الأولى، وأنه؛ أي زوجها، قد وصل إلى الدور الأخير من المرض، وأن الأمل في شفائه ضعيف ولكنهم لن ييأسوا …
وفهمت أسماء من الأحاديث الصريحة مع الأطباء أن العزوبة كثيرًا ما يحفل طريقها بالمزالق للشبان، وأن هناك مرضًا خطيرًا يبدأ بعلامات تافهة، ولكنه ينتهي إذا أُهمل بالدمار؛ لأنه يمزق الأعصاب ويبلي خلايا المخ، فيكون الجنون والشلل معًا.
وخرجوا بعد أن أرقدوا الأستاذ أنيس على سريره، ونصحوا لزوجته بما يجب أن تفعل.
ووجدت أسماء نفسها مع زوجها وحدهما، فأكبَّت عليه وهي تبكي وتقبِّله، وتخرج منها كلمة «يا حبيبي» مكررة في تنهدات تمزِّق قلبها.
وواظب الأطباء على معالجته نحو شهر، وكانت أسماء تُعنى به عناية الحب؛ فكانت ترقد إلى جانبه، وتحمل كل يوم طعامه إليه في السرير، وتمسحه بالكئول، وتغذِّيه بأطيب ما يحب من طعام، ولا ترضى للخادمة كي تغنيها عن بعض المتاعب في تنظيفه.
ولكن كل هذا ذهب بلا جدوى؛ فإن المرض سرى في خلاياه البعيدة، وذات يوم هبَّ من فراشه يحاول أن يمشي فوقع، وجاء أحد معالجيه فقال إنه الشلل العام للمجانين.
ولم يعد الأستاذ أنيس يعقل شيئًا؛ فإن عينيه كانتا تسددان إلى السقف، ثم تجري الكلمات على لسانه سائلة بلا ضابط.
ومع أن أسماء كان يخالجها اليأس، فإنها كانت لا تزال تستمسك وتأمل ضد الأمل.
وجاءت أمها ورأت المريض فتأسفت وبكت، وبقيت مع ابنتها.
ومضت شهور، وأصبح الأستاذ أنيس في غرفته كأنه بعض الأثاث؛ ينظِّف جسمه، ويرتب سريره كل يوم.
وكان الضيوف يأتون إلى البيت للمسامرة والمؤانسة، وكانوا جميعهم على وفاق في الصمت عن السؤال عن صحة الأستاذ أنيس.
وأصبح الدكتور أنيس شبحًا في البيت، تحتويه غرفته، كلهم يدري علَّته، ولكن كلهم أيضًا يصمت ولا يذكره بكلمة.
وكانت أسماء في الشهر الأول من علَّته لا تزال تحمل إليه طعامه، وتمسح عنقه، وتخلل شعره بأصابعها، وتتحدث إليه: «بكره تشفى، بكره تقوم، حبيبي …».
ولكنه كان ذاهلًا يتمتم بكلمات مغمغمة وعيناه إلى السقف.
وجاء الشهر الثاني، فكفَّت أسماء عن الدخول إلى غرفته، ووكلت العناية به إلى خادمتها، ولم تكن الخادمة، على طيبة قلبها، قادرة أن تتجلد لهذه الخدمة المضنية؛ لأن الأستاذ أنيس لم يعد قذرًا فقط، بل لقد أصبحت قذارته تشبه النجاسة.
ومضت سبعة شهور وهو على هذه الحال.
ووجدت أسماء نفسها ذات صباح، وهي تتأمل حالته، تقول في صوت مسموع: حيوان، وأحست كأنها تريد أن تبصق، وسمعت أمها وهي تقول: لو أنه يموت!
أجل، لقد فكرت أسماء كثيرًا، لو أنه يموت لأصبحت هي حرة تتزوج من تشاء؛ فإنها لا تزال دون الثلاثين، وقد زاد جمالها روعة وأنوثتها سحرًا.
ولم يعد هناك بصيص من أمل في شفائه.
وذات صباح نادت أسماء خادمتها وطلبت منها أن تنقل الأستاذ أنيس إلى غرفتها؛ غرفة الخادمة التي تجاور المطبخ؛ حتى لا تتعب كثيرًا في العناية به، وعلى كل حال يجب إخفاؤه بعيدًا عن عيون الزائرين.
وعادت الخادمة فحملته من السرير إلى حضيض الغرفة، فوقع كما لو كان كتلة من الطين، ثم نقلت السرير، ثم حملته كما لو كان غرارة تحوي سَقَط المتاع، فألقته على سريره في غرفتها.
ولم تعد أسماء ترى وجهه، وبقي نحو شهرين وهو لا يحس ولا يعقل، ثم مات الأستاذ أنيس ودفن في الخفاء، وتنهدت أسماء وأمها والخادمة في ارتياح، ودبَّت الحياة في البيت من جديد، وكثر الزائرون من عائلات الشبان المرشحين للزواج.