الحيوان الذي كان إنسانًا
مات من كثرة الشراب والطعام، مات بعد خمسين سنة من العمر لم ينتج فيها سلعة ولم يؤدِّ خدمة.
كنت أتحدث إلى صديقي، وكان وجوديًّا، يقول بأن الإنسان مسئول وحده عن مصيره، وأنه هو الذي يصنع نفسه ويختار أخلاقه، وما يصيب من نجاح أو خيبة في الحياة إنما هو المرجع الأول والوحيد فيه، وهو إذا كان يعلل خيبته بعلل أخرى فإنما ذلك لأنه قد خاب، ولا يحب، أو لا يطيق أن يتحمل تبعة خيبته، فهو يحيلها على غيره جبنًا منه، وعجزًا عن مواجهة الواقع.
وكنت أخفف من حدته الفلسفية هذه وأقول إن المجتمع يصنعنا؛ فهو يورثنا عقائد دينية أو خرافية تلصق بنا طوال أعمارنا، وهو يعيِّن لنا أفكارنا وأخلاقنا بالكلمات التي نستعملها، وننسى أنها هي أيضًا تستعملنا، وهو أيضًا؛ أي المجتمع، يعطينا المعلمين الذين يوجِّهوننا، ثم نحن نجد من الأصدقاء والصحف والكتب ما يوجِّهنا ويعيِّن لنا أهدافنا على غير دراية منا.
نحن مسيرون ولسنا مخيرين.
ولكن صديقي الوجودي نهض من كرسيه واقفًا معترضًا، ثم قال: «اسمع، مات لي قريب في السنة الماضية، وكان من سني، وقد نشأنا في بيئة واحدة، وكان أبوانا على ثراء ومقام سواء، فلم يكن هناك اختلاف بين تربيتي وتربيته، وأنا أؤكد لك أننا؛ أنا وهو، كنا إلى سن العاشرة أو الثانية عشرة لا نختلف في درجة التعليم أو الأخلاق أو الذوق، وكان توافقنا لذلك تامًّا وصداقتنا متينة.
ولكن منذ هذه السن شرعنا نفترق ونختلف، وظلَّت اختلافاتنا تنمو وتتكاثر حتى فصلت بيننا، وقد بلغنا كلانا سن الخمسين في السنة الماضية، فمات هو بعد أن مرضت كبده، وقيل له إن علة المرض هي الأكل الكثير.
أفهمتَ هذا؟ الأكل الكثير، مات من الأكل الكثير، مات حيوانًا بعد أن كان إنسانًا، أو على الأقل كان إنسانًا طوال مدة طفولته وصباه، فلا تقل إن المجتمع قد وجَّهه أو كان هو المسئول عن الحيوانية التي تردَّى فيها؛ فإنه حين كان عجينة تُعجن وتُصاغ، كان حسنًا، إلى سن الثانية عشرة، ولكنه حين شرع يفكر ويستقل ويتبصَّر اتجه نحو الاستهتار والشر، بل الإجرام، واتجهتُ أنا وجهة أخرى، وهأنذا أمامك، عشت في وسط الطفولة الذي عاش فيه، ولكني نظمت برنامج حياتي نظامًا آخر، والنتيجة أنه هو الآن في القبر، وأنا حي في صحتي وآمالي وثقافتي ومقامي.
تركته في بداية الثالثة عشرة من عمرينا؛ لأني وجدت أنه قد عرف بعض الصبيان، وكان يخرج معهم في صبوات عجيبة استنكرتُها أنا وأقبل هو عليها؛ فكانوا يسرقون الشجر، ويؤلِّفون عصابات صغيرة لضرب خصومهم.
والعجب أن نجاحه في المدرسة كان أكبر من نجاحي؛ فإنه حصل على الشهادة الابتدائية في حين أني رسبت؛ ولذلك لا يمكن أن تقول إني أذكى منه، ولكن عقب ذلك ابتدأتْ حياتي تسير في مراحل من الرقي، وابتدأتْ حياته تسير القهقرى.
ولست أعني بذلك أني كنت خلوًا من الرذائل، أو أنه لم تكن لي صبوات، ولكن صدِّقني حين أقول لك إني كنت في العشرين أفكر كيف أكون في الخمسين؛ فكنت أدرس، وأتوقى الخمور، وأحاول أن أكون اجتماعيًّا، وأن أدخر من مالي للمستقبل.
كنت كذلك، أما هو فكان في العشرين يشرب الخمور ويرافق السكيرين واللصوص.
وكان دخل كل منا يساوي دخل الآخر؛ بالميراث وليس بالكسب، فكان يسافر إلى أوربا للاستهتار، فإذا عاد إلى مصر قضى أيامه فيما بين المدينة والعزبة، فإذا كان بالعزبة سرق الفلاحين أو سحقهم أو اشترى عفة نسائهم، كانوا مساكين مغلوبين معه؛ لأن لقمة عيشهم كانت في يده، فإذا قصد إلى المدينة أنفق ما جمعه من العزبة، فكانت لياليه حمراء مع اللصوص الذين كان يسلِّطهم على جيرانه أو خصومه كي يحرقوا غلَّاتهم أو يسرقوا مواشيهم.
أذكر أني لقيتُه ذات مساء قبل عشر سنوات، فدعاني إلى مرافقته، ومع اشمئزازي منه قبلت الدعوة؛ كي أدرسه وأعرف إلى أين انتهى، فقادني إلى حانة، وهناك اجتمع به «أصدقاؤه» وكانوا من الريفيين الموسَرين، وجعلت أنصت بعناية لحديثهم، وكان كله — تقريبًا — نوادر عن صبواتهم؛ فذكر أحدهم كيف اهتدى إلى شراء مقدار حسن من الحشيش، وذكر آخر شيئًا عن امرأة كانت له بها معرفة حميمة، وذكر ثالث تفاصيل نزهاته الليلية الأخيرة في الإسكندرية.
وكانوا طيلة حديثهم يشربون الخمر كما لو كانت ماءً، ويأكلون في نهم كأنهم خراف تلتهم العلف، وكنت أشرب معهم وأضحك وآكل ولكن مع التقصير؛ لأني لم أكن قادرًا على اللحاق بهم، وكان تقصيري هذا، مع عجزي عن الإدلاء بنكتة طريفة تساعدهم على الضحك، ومع صمتي من وقت لآخر بما لا يتلاءم مع هذا المجلس ومرطباته — مدعاة لرثائهم لي.
ونهضنا بعد منتصف الليل، وسلَّمت وودَّعت، وقصدت إلى الفندق وارتميت على سريري، وجعلت أفكر وأتأمل؛ قريبي هذا قد استكرش وأصبح بطنه كالقربة المنفوخة، وتمثَّلتُ صورته وهو يأكل، حين امتلأ شدقاه بالطعام وانتفخ وجهه، وكان يتجشَّأ ويتحرك على الكرسي كأنه جثة مائعة فقدت تقاسيمها، ولم أتمالك الاشمئزاز، وعدت إلى ذاكرتي حين كنا صبيين نلعب.
ولم يمضِ قليل حين عرفت أن جسمه عجز عن استهلاك الطعام الذي كان يأكله، فأضرب وصار يبول المواد النشوية التي كان يأكلها سكرًا خالصًا، ثم عجزتْ كبده عن العمل، فأضربت هي الأخرى، وقد نصح له الأطباء بالإقلال من الشراب والطعام، ولكنه لم يطق ذلك، ومات في العام الماضي.
مات من كثرة الشراب والطعام، مات بعد خمسين سنة من العمر لم ينتج فيها سلعة ولم يؤدِّ خدمة، مات هو، وأنا حي، لقد تساوينا في فرص الطفولة والصبا، وورثنا ميراثًا يكاد يكون متساويًا، ولكننا افترقنا؛ لأنه هو اختار طريق الرذيلة واخترت أنا طريق الفضيلة.
لهذا أنا وجودي، أنا مع «بول سارتر»؛ كل إنسان مسئول عن مصيره، كل إنسان يصنع نفسه ويصوغ شخصيته، هو حر، حر، حر».
وقلت، بعد أن تنهدت، لصديقي: لا يا صديقي، إنما هو المجتمع الذي يُسأل عن مصيره، أو عن جزء كبير منه، وهذه الحرية التي تعتقد بوجودها إنما هي وهم، وإني واثق بأني لو عرفت التفاصيل لاستطعت أن أبيِّن لك أن قريبك هذا كان ضحية المجتمع الذي عاش فيه.
وحَسْبُك أن تعرف أن هذا المجتمع قد أتاح له الخمر الكثيرة، والطعام الكثير، وفرص السرقة من الفلاحين، ولم يعلِّمه، ولم يجبره على أن يكسب عيشه بعرق جبينه. أجل، لم يعلمه الشرف!