الفصل الأول
أمين الخولي ورسالة التطور في الفكر الديني
(١) توطئة
إذ شهد شهر مايو (١٩٩٥) مرور مائة عام على ميلاد أمين الخولي، يتبدَّى أمامنا قرن
من تاريخ الحضارة العربية، لنذكر كيف كان الربع الثاني منه — في أعقاب ثورة ١٩١٩
المصرية — مرحلة توهج للثقافة العربية، وتوثب طامح للعقل فيها.
الوطأة الوبيلة للاستعمار، التخلف الضارب في الأعماق، البون الشاسع بيننا وبين
العالم الصناعي المتقدم والمتسيِّد … كان هذا قوة دفع هائلة لمفكرينا ومثقفينا في
بحثهم الدءوب عن الخروج من هذا الوضع المأزوم واللحاق بركاب العصر، إثبات الذات فيه
ونشدان الهوية، والمساهمة بنصيب في آفاق التقدم المتسارع.
انطلقت جهودهم في جملتها من الثبات البنيوي في حضارتنا — النص الديني والتراث — نحو
استشراف روح العصر وقيم الحداثة التي تبلورت في تجربة الحضارة الأوروبية. كانت
انطلاقة ساهمت في ترسيمها خطوط متفاوتة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من أعمق
جذور الأصالة إلى أبعد آفاق المعاصرة، خطوط سلفية وإصلاحية وتحديثية وعلمية
وعلمانية توفيقية وليبرالية واشتراكية، تحاورت جميعها في أجواء متفتحة مواتية،
نجدها الآن! أكثر مواءمة لقيم العقلانية النقدية، وأشد نزوعًا لغاية «التجديد»
التي يُناط بها تحديث وجودنا الحضاري بتميزه، ومن ثم التنهيض المرجو
والتنمية.
(٢) شيخ التجديد
في هذا المناخ الموار كان الدور الريادي الذي لعبه الشيخ أمين الخولي، بتمكنه
الأستاذي من التراث ونصوصه — من أصوليات حضارتنا — لينذر جهوده لقضايا التجديد.
فكان بحق شيخ الأصوليين في التجديد، وشيخ المجددين في الأصولية؛
١ إيمانًا منه بالماضي كركيزة، والحاضر كحياة متوثبة، وبالحوار الدائم
بينهما ليتفاعلا ويتلاقحا فيثمرا المستقبل المأمول.
رفع شعاره الشهير والسديد: أول التجديد قتل القديم فهمًا وبحثًا ودراسة، «أما إذا
مضى المجدد برغبة في التجديد مبهمة، وتقدم بجهالة للماضي وغفلة عنه، يهدم ويحطم
ويشمئز ويتهكم، فذلكم — وقيتم شره — تبديد لا تجديد.»
٢ هكذا كان الخولي يبث «أصول» التجديد في كل المجالات المتصلة بإسهامه:
التجديد في اللغة ونحوها، في البلاغة وجمالياتها، في الأدب ونقده، في تفسير القرآن،
وفي الفكر الديني … وحتى حين تعرَّض لترجمة إمام من عصر التدوين، لن يحمل خطوطًا
تجديدية بل فقط أصول السلفية، هو الإمام مالك بن أنس (٩٠–١٧٩ﻫ / ٧٠٨–٧٩٥م)، حتى في
هذا أعطى الخولي درسًا تجديديًّا في أصول تحرير التراجم
٣ و«ثارت بينه وبين العقاد معركة أدبية شهيرة حول كتابة التراجم.»
٤ لذلك قيل عن الخولي — بحق — أنه في كل إسهاماته قد «حرر عقله من سلطان
التقليد الذي يبطل الإرادة الحرة، ويميت روح الإبداع، ويشل حركة العقل، فبعدت مطارح
أفكاره، وسما في نظر طلابه، ودأب على سموه في كل يوم في النفوس والعقول معًا.»
٥
لقد تأتت إسهامات الخولي — جهوده الأصولية التجديدية في مجالات تجعلها بنية
حضارتنا في موقع ثقافي محوري، فضلًا عن ارتكازها على الثابت البنيوي فيها — النص
الديني/القرآن الكريم، فلم يكن للتجديد في هذه المجالات — عند الخولي — إلا طريق
واحد هو النظر العلمي الذي لا يستقيم بغير الفهم العميق للقرآن الكريم، بل وجاهر
الخولي بأن هذا الفهم ليس سهلًا لمن لا يتذوقون العربية،
٦ ومهما فعل المستشرقون، ومهما بذلوا من جهود رصينة، لن يستطيعوا النفاذ
إلى جوهر القرآن، بعبارة أخرى هذا التجديد مهمة منوطة بنا وحدنا، واجب علينا وحق
لنا.
وفي خضم الخطوط التجديدية العديدة، المتوازية والمتحاورة، التي خطَّها الخولي سوف
نتوقف في بحثنا هذا عند الخط الذي يتماس مع أخطر ما في حضارتنا، والأعمق في عقولنا
ونفوسنا وضمائرنا، ألا وهو خط وخطة الخولي في تجديد الفكر الديني، لنخلص إلى أنه
ليس حقًّا وواجبًا فحسب، بل هو الآن طوق النجاة لنا من الضياع الحضاري والانسحاق
الثقافي وتشويه الهوية.
(٣) الأستاذ الإمام يشق الطريق
إذن يستوقفنا من ميراث أمين الخولي مقولة تجديد الفكر الديني في تفاعلها مع
مقتضيات الواقع العربي الحديث.
لا بد إذن من العود بها إلى أصولها، فلم يكن الخولي بتجديده للفكر الديني إلا
سائرًا في طريق سبق أن ترسمت معالمه وتشكلت تضاريسه في خريطة الفكر العربي الحديث،
وبفعل جهود دءوبة لرواد أسبق، يتقدمهم بجدارة الشيخ محمد عبده (١٨٤٩–١٩٠٥) الأستاذ
الإمام، إمام المجددين، وقائد جيش الهجوم على التقليد، والذي هوى بمعوله على معاقل
المرض الخبيث «مرض الجمود على الموجود»،
٧ وكان سلاحه الماضي في كفاحه التجديدي هو «تآخي الدين والعقل في الإسلام.»
٨ فالإسلام دين العقل يعمل دائمًا على استثارته ويدعو إلى استعماله. يقول
الأستاذ الإمام: «لو أردت سرد جميع الآيات التي تدعو إلى النظر في آيات الكون،
لأتيت بأكثر من ثلث القرآن، بل من نصفه.»
٩ والقرآن في هذا «يقصد تحريكًا» للعبرة، وتذكيرًا بالنعمة وحفزًا
للفكرة، لا تقريرًا لقواعد الطبيعة، ولا إلزامًا باعتقاد خاص في الخليفة، وهو في
الاستدلال على التوحيد لم يفارق هذا السبيل.»
١٠ من هنا كان الأصل الأول من أصول الإسلام عند محمد عبده هو النظر العقلي
لتحصيل الإيمان، والأصل الثاني هو تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض بينهما،
وكان محمد عبده بهذا يعلن حقوق الفكر الحر، مؤكدًا أنه واجب على الموجود
العاقل.
والنتيجة الطبيعية المنطقية لهذا أن ينتقل محمد عبده إلى تأكيد ضرورة التجديد،
ورفض الجمود والتقليد. فالدين عنده شعور فطري، لكن فطرية الشعور الديني لا تمنع
الدين من أن يتطور بترقي الإنسانية، حتى بلغ كماله في الدين الإسلامي. وها هنا تظل
الضرورة الحيوية هي «ضرورة تجديد بناء عقائدنا تجديدًا موصولًا كي تلائم تغيرات الموجودات»،
١١ وهذا التجديد يجعل الدين مسايرًا لحركة العلم المطردة التغير والتقدم،
ويجعل العلاقة بين الدين وبين الحياة سائرة قدمًا، وتبرأ من اهتراء أصابها ردحًا من
الزمن.
كان محمد عبده يقول إن الناس تحدث لهم باختلاف الزمان أمور ووقائع لم يرد لها ذكر
في كتب الفقه القديمة، فهل نوقف سير العالم لأجل كتبهم؟ إن هذا لا يستطاع، إنه جمود
وموات يجعل العوام ينصرفون عن دينهم الذي لا يجاري وقائع حياتهم.
١٢ أجل! يجب أن نسير في وجودنا الحاضر مهتدين بتجارب السلف، لكن ليس من
واجبنا أن نقبل جميع ما يؤثر عنهم من تقاليد دون فحص أو تمحيص، بل ينبغي أن نستعمل
فيه تفكيرنا، فإذا وجدناها صحيحة — ومعنى هذا أنها موافقة للعقل — قبلناها، وإلا
رفضناها «هذا البحث الحر، وهذه الحاسة الناقدة فيما يرى محمد عبده، هي ما يميز
الحيوان الناطق عن سائر الحيوان»
١٣ الذي لا يعرف تغيرًا ولا تقدمًا.
وهذا الموقف من تراث السلف هو ما تبلور عند أمين الخولي في قولته الشهيرة: هم
رجال ونحن رجال، لهم عصرهم ولنا عصرنا، نتعلم منهم ولا نحذو حذوهم النعل
بالنعل.
وإذا كان أمين الخولي يؤثم المقلد الرافض للتجديد، فإن الأمر قد سبق أن بلغ بمحمد
عبده حد اعتبار المقلِّد كافرًا؛ لأنه مردد وليس مستيقنًا من الأصول، وأسهب عبده في
التعبير عن ضيقه من التقليد والجمود على القديم، وراح في تعداد مفاسد هذا الجمود
ونتائجه — أو بتعبيره — جناياته على اللغة والنظام والاجتماع والشريعة وأهلها، وعلى
العقيدة، وفي نظم التعليم. وبعد أن هوى بمعوله على معاقل الجمود جميعها في هذه
المواقع وسواها، راح يستدل ويؤكد أنه علة تزول لأنه مما لا يصح أن ينسب إلى الإسلام،
١٤ فالإسلام كما يقول الأستاذ الإمام: «أنحى على التقليد وحمل عليه حملته،
لم يردها عنه القدر، فبددت فيالقه المتغلبة على النفوس، واقتلعت أصوله الراسخة في
المدارك، ونسفت ما كان له من دعائم وأركان في عقائد الأمم، وصاح بالعقل صيحة أزعجته
من سباته وهبت به من نومة طال عليه الغيب فيها.»
١٥ لقد أكد الإسلام أن الإنسان لم يُخلق ليُقاد، بل ليهتدي، وصرف القلوب
عن التعلق بما كان عليه الآباء، ونبَّه على أن السبق في الزمان ليس آية من آيات العرفان.
١٦
هكذا، على أساس من إيقاظ الإسلام للعقل وإبطاله التقليد، انطلقت دعوة التجديد
الديني من رحاب الأستاذ الإمام محمد عبده، وتحولت إلى قوة تثويرية نابضة بفعل صحبته
الحميمة للمناضل الرائد السيد جمال الدين الأفغاني (١٨٣٨–١٨٩٧).
إنها قوة شقت طريق التيار الإصلاحي، المنطلق من المقدمة التي رأيناها مع عبده،
ومفادها أن الجمود على القديم هو العلة المباشرة لتخلفنا وخروجنا من مسار التاريخ،
فضلًا عن دورة التقدم. وكان هذا هو الطريق الذي سار فيه أمين الخولي إلى غايته، حتى
إن التجديد عنده ليس إلا حماية المجتمع من العوامل المفسدة لأمره — عوامل الجمود
والتخلف.
(٤) على خريطة الفكر العربي الحديث
وكما لاحظنا تجديد الفكر الديني يستدعي بالضرورة قضية الموقف من التراث، والتي هي
في تقاطعها مع قضية الموقف من الغرب، هيكل الشغل الشاغل للفكر العربي الحديث، حتى
يمكن القول إنها هي التي ترسم حدود خريطته. إنها مشكلة الأصالة والمعاصرة الشهيرة،
أو بتعبير آخر هي مشكلة التراث والتجديد.
والتيار الإصلاحي الذي شقه محمد عبده — كما رأينا — قد تمثل هذه القضية — الموقف
من التراث — تمامًا. أما أمين الخولي فإن تجديده الأصولي ذروة من ذرى هذا التمثيل،
ونحن نتمسك بأن الموضع السليم لأمين الخولي في منظومة الفكر العربي، أو على خريطته،
إنما هو في امتداد هذا التيار الإصلاحي.
والآن أصبح الفكر العربي الحديث حقلًا خصيبًا للدراسة، وميدانًا فسيحًا للبحث
والتنظير. خرجت تنظيرات عديدة لموقع أمين الخولي فيه
١٧ ولعل أدعاها للنقاش رؤية د. طيب تيزيني؛ لأنه مفكر بارع وتنظيراته
للفكر العربي الحديث ذات شأن، ليندهش المرء من إصراره على وضع أمين الخولي في إطار
ما أسماه: النزعة التحييدية للتراث في فرعها الوثائقي، التي بزعم الدفاع عن حرمة
العلم ترى الحقيقة التاريخية الكاملة مجسدة في الوثيقة بعيدًا عن ممارسة التفسير
والتقويم التاريخي والتراثي لها،
١٨ مما يعني نفي النظرة التاريخية والأيديولوجية للتراث؛ أي نفي النظر
إليه في إطار عصره ومقتضيات واقعه الحضاري، ومن خلال المشكلات والآفاق المعاصرة
للتقدم والتخلف، وبالتالي من خلال ضبط طرحنا للتراث بضوابط اللحظة المعاصرة في
واقعنا، بكل ما تنطوي عليه من مضامين اجتماعية واقتصادية وقومية وأخلاقية
١٩ — أينفي الخولي كل هذا؟! رغم اعتراف تيزيني بأن الخولي يشير إلى أفكار
مُسيَّسة للتراث، أصر على أن أمين الخولي يرى من الخير تأجيل الانتفاع بالتراث إلى
ما بعد اقتفاء أصوله جميعًا. والخولي لهذا تحييدي وثائقي!
لقد اعتمد تيزيني على ندوة ببيروت تحت عنوان «التراث: كيف نعمل على إحيائه»،
٢٠ اشترك فيها الخولي. يقول تيزيني: «تهيمن على المنتدبين فكرة توثيق
التراث بشكل يدعو إلى الاعتقاد بأن هؤلاء يرون مهمة الباحث في التراث العربي تكمن
في إحيائه عن طريق جمعه وتحقيقه وإخراجه للناس. وإذا كانت هناك إشارات متعلقة
بالأبعاد القومية فهي سريعة وضحلة وتنظر إلى التراث باعتباره تركة، والسؤال: كيف
نتملكها جيدًا؟»
٢١
وعلى أساس هذه الندوة كان حكمه بأن الخولي يندرج في إطار النزعة التحييدية للتراث
— الوثائقية. وهنا نجد خطأ تيزيني في أخذ الجزء على أنه الكل، والمرحلة على أنها
الغاية. لا شك أن الخولي — كأستاذ وكأصولي — يهتم كثيرًا بتوثيق وتحقيق التراث
وإخراجه، ولكن ليس كموقف نهائي وإطار منظومي له، بل فقط كخطوة ضرورية من أجل
التجديد والتثوير وسد مقتضيات العصر، وما لا يبعد كثيرًا عن هدف تيزيني
نفسه.
فكيف يزعم أن الخولي — وهو المجدد الأعظم — ينفي النظرة التاريخية للتراث (وينفي
معها الفصل الثالث من هذا الكتاب)، ومجرد مصطلح الجدة
لا يتأتى إلا في سياقها. فالجدة تعني التمايز عن القديم واختلاف الحاضر عن الماضي.
وماذا تكون النظرة التاريخية سوى الإدراك الواعي لهذا التمايز والاختلاف، كشرط
ضروري للتجديد.
كلا، ليس التوثيق الأكاديمي للتراث هو البطاقة النهائية للخولي — كما رأى طيب
تيزيني — فهذا التوثيق في إطار قتل القديم بحثًا وفهمًا ودراسة، فقط كمعبر إلى
التجديد الأصولي والتنهيض على الإجمال من أجل الخدمة المخلصة الجادة والعميقة لذلك
التيار الإصلاحي الذي عَبَّده عبدُهُ، والذي في سويدائه موقع أمين الخولي على خريطة
الفكر العربي المعاصر.
(٥) مزيد من التواصل
خطوط التواصل بين محمد عبده وأمين الخولي أكثر مما يمكن نفيه، أو حتى اللجاج فيه،
وإن كانت جميعها تصب في التيار الإصلاحي ومنحاه التجديدي.
أولًا، كلاهما انشغل بقضية إصلاح الأزهر ورسالته في القرن العشرين. ومن الأعمال
المتميزة لأمين الخولي بحثه «رسالة الأزهر في القرن العشرين»، إذ كانت وزارة علي
ماهر قد أعلنت عام ١٩٣٦ عن مسابقة في عدة مواضيع، منها هذا الموضوع. وكان أمين
الخولي قد انتهى من بحثه هذا قبل الإعلان عن المسابقة، ولأنه اختير عضوًا في لجنة
التحكيم فلم يتقدم ببحثه، وأهداه إلى الأزهر بعد صدور الحكم.
نشر الأزهر طبعة أولى لهذا البحث، ونفذت فورًا، وتوالت طبعاته فيما بعد، والجدير
بالذكر أن الخولي بدأه بالدهشة والتهكم من أن تشغلنا رسالة الأزهر في القرن العشرين
الميلادي وليس في القرن الرابع عشر الهجري.
المهم أن نلاحظ كيف أن كلًّا من الأستاذ الإمام محمد عبده، والشيخ المجدد أمين
الخولي قد انشغل بقضية إصلاح الأزهر الشريف ورسالته في القرن العشرين، كلاهما أبلى
فيها، وأيضًا كلاهما دخل في صدام عاتٍ مع شيوخه المتعنتين الذين دأبوا فيما مضى على
معارضة أي إصلاح؛ فرفضوا دعوى الخولي الحارة في الربط بين الدين والحياة. وفي
النهاية أخفق كلاهما ولم يحقق أهدافه، فعلق آماله في إصلاح التعليم على الجامعة
المصرية.
ولكن محمد عبده كانت الجامعة بالنسبة له أملًا وحلمًا — حلمًا انهار — فقد استطاع
إقناع صديقه المنشاوي باشا «فأبدى استعداده لإقامة الجامعة على نفقته بأراضيه بقرية
بسوس قرب القناطر الخيرية، لكن وفاة المنشاوي باشا عصفت بالفكرة، ثم لحق به محمد عبده»
٢٢ ولم يريا ميلاد الجامعة عام ١٩٠٨. أما بالنسبة للخولي، كانت الجامعة
واقعًا ماثلًا، بل هي واقعه الأول، حلبة كفاحه وساحة نضاله الذي أتى بكثير من
الثمار المرجوة. وكان يؤكد دائمًا أن تدريسه في كلية الآداب بالجامعة المصرية —
جامعة القاهرة الآن — هو مهمته الكبرى، وأن صناعته لعقول الطلاب إنجازه الأعظم،
وانتشر تلاميذ له في مواقع شتى من حياتنا الأكاديمية والثقافية، فزادوها ثراءً بما
تعلموه واكتسبوه من روح الأستاذ المعلم أمين الخولي «شيخ الأمناء»، الجماعة التي
ضمت هؤلاء التلاميذ بريادته.
لم يدرس الخولي في الأزهر — بل في مدرسة القضاء الشرعي — لكن درَّس فيه. نذكر من
هذا أول ما يُدرَّس من الفلسفة رسميًّا في العهد الجديد للأزهر، إنه محاضراته غير
المنشورة «كُناش في الفلسفة وتاريخها» سنة ١٩٣٤، فأهداها «إلى روح الأستاذ الإمام».
٢٣
للخولي ثلاث مجموعات من المحاضرات في الفلسفة غير منشورة، فثمة «كُناش» و«كتاب
الخير» و«تاريخ الملل والنحل» تبدو لنا ذات أهمية ريادية لعهدها المبكر. ولا نعلم
لماذا لم ينشرها؟ بصفة عامة لم يكن نشر الكتب يغري الخولي كثيرًا. همه الأكبر — كما
ذكرنا — في صناعة التلاميذ، وكان يسميهم «أبناءه من العقل» في مقابل «أبنائه من
الصلب» وهم بنوه الطبيعيون.
من ناحية أخرى، نلاحظ — مثلًا — أن محمد عبده قد أشار إلى «اقتباس الإصلاح الديني
في أوروبة من الإسلام»
٢٤ فتطورت هذه الفكرة عند الخولي إلى بحثه «صلة الإسلام بإصلاح المسيحية»
والذي ألقاه في مؤتمر تاريخ الأديان الدولي السادس، المنعقد بمدينة بروكسل من
١٦–٢٠ سبتمبر ١٩٣٥.
٢٥ كما رفض محمد عبده البلاغة التي أفسدتها الفلسفة، ورام إصلاحًا فيها
يسير بها نحو النمط الذي يربي الذوق ويرقي الوجدان.
٢٦ ويمكن القول إن هذا هو الأساس الأولي الذي تنامى وتصاعد باسقًا في شكل
دروس الخولي في البلاغة، أو فن القول بتعبيره، ويراها اللغويون أثمن ما خلفه
الخولي.
ونعود إلى موضوعنا الأساسي: تجديد الفكر الديني؛ لنجد مدرسة الأفغاني/عبده في
ريادتها للتيار الإصلاحي، قد شقت تيارًا عميقًا وممتدًا في الفكر العربي الحديث
والمعاصر، يرتاد الخطوط الباحثة عن عقلنة الإسلام وتحديثه. ولكن — كما أشار
المنظِّر البارع للفكر العربي حسين مروة: «على الرغم من أهمية مدرسة الأفغاني/عبده
في تصديح جدار التصديق المطلق للتراث، فإنها لم تضع منهجًا يغير من المناهج
التقليدية الشائعة تغييرًا عميقًا. وذلك لارتباطها بالأسس الأيدلوجية نفسها التي
قامت عليها تلك المناهج التقليدية. ثم نضجت هذه المدرسة بفعل التحولات المتصاعدة
لحركة التحرر الوطني وتطور مستوى المعارف والمناهج لدى الباحثين العرب.»
٢٧
ولا شك أن أمين الخولي من الذين قاموا بدور كبير في ذلك التطوير للمناهج ومستوى
المعارف، والذي نجم عنه صور ذات ثراء وفعالية لم تطُف بخلد المؤسسين الأفغاني
وعبده، وتعمر الآن ميدان الفكر العربي المعاصر.
(٦) التجديد حياة وتطورًا وارتقاءً
وكانت جهود الخولي في منهجية التجديد عميقة الأصول ومترامية الحدود، وغزيرة
المضمون، ومتعددة العناصر. لكننا نلتقط منها خيطًا بدَا لنا مفتاحًا يفض مغاليق،
مما يلقي ضوءًا كثيفًا على أهمية ميراث الخولي.
ذلك أن هاجس الحياة والارتباط بالواقع الحضاري الحي كان مهيمنًا على فكر الخولي،
حتى قيل إن الحياة والحيوية أكثر الكلمات شيوعًا في كتاباته وأحاديثه؛
٢٨ لذلك كان من السهل أن يبلغ التجديد الديني معه مقولة «التطور» ذاتها؛
ليكون طبيعيًّا متأصلًا سائرًا نحو الأصلح والأكمل والأكثر بقاءً.
والواقع أن بحثنا هذا في تجديد الفكر الديني عند الخولي، قد انطلق أصلًا من تلكم
النقطة شديدة الأهمية والتميز في ميراثه، ألا وهي تشغيله الحذر البارع لمقولة
التطور والانتخاب الطبيعي … النشوء والارتقاء والبقاء للأصلح.
نظرية التطور — كما هو معروف — مجرد نظرية بيولوجية؛ أي محاولة لوصف وتفسير نشوء
ظاهرة الحياة على سطح، وارتقائها عن طريق الانتخاب الطبيعي — حتى بلوغها الشكل
الراهن. وعلى الرغم من أنها من الوجهة العلمية البيولوجية تحوي ثغرات ومواطن قصور جمة،
٢٩ كما أوضح كثيرون، من أكفئهم فيلسوف العلم البارز كارل بوبر
K. Popper (١٩٠٢–١٩٩٤)، فإنها — بتعبير بوبر
نفسه — برنامج بحث ميتافيزيقي ممتاز،
٣٠ وحتى هذه اللحظة لا يوجد بديل لها، وأبدت خصوبة وفعالية فرضتا التسليم
بها كنظرية عامة لسائر علوم الحياة، فضلًا عن خصوبتها في مجالات أخرى عديدة، تتجاوز
كثيرًا ظاهرة الحياة، كما سنرى مع أمين الخولي لا سواه.
بادئ ذي بدء نرى أمين الخولي في صدر شبابه يُوفَد إمامًا للمفوضية المصرية في
روما ثم في برلين. وفور عودته من ألمانيا عام ١٩٢٧ انتُدب للتدريس في الأزهر، فيلقي
على طلاب كلية أصول الدين محاضرات في التاريخ العام لفلسفة الأخلاق، أو كما أسماها
الفلسفة الأدبية.
٣١
وما أن يأتي للعصر الحديث حتى يحلو له أن يقدم فلسفته الخلقية بأسرها من مدخل، أو
في إطار شامل هو نظرية التطور وفلسفة النشوء والارتقاء. وهل يمكن اختزال الفلسفة
الحديثة للأخلاق بسائر اتجاهاتها وفروعها فقط في التيار التطوري؟ ما لم ينطوِ هذا
على وجهة نظر حادة للمحاضر نحو تحبيذ وتأييد هذا التيار. وبلغ حيود الخولي في هذا
الاتجاه حدًّا غير مقبول، حين يحشر توماس هل
جرين
Th. H. Green (+ ١٨٨٢) في زمرة فلاسفة الأخلاق التطوريين! في حين أن جرين
من تيار مقابل تمامًا للتيار العلمي التطوري، ألا وهو «المثالية المحدثة»، ليمثل
جرين انتقاله من ألمانيا إلى العالم الأنجلو سكسوني في إنجلترا،
٣٢ ويبرر الخولي هذا بتأويل متعسف يصعب قبوله وهو أن فلاسفة التطور —
المتفق عليهم — يبحثون في نشوء المثل الخلقية وارتقائها — كما هو معروف — عبر
الماضي، أما «توماس هل جرين» فيبحث عن هذا من زاوية الغاية، أو المستقبل!
٣٣
على أية حال يقدم الخولي لطلابه عرضًا جيدًا لنظرية التطور مع إمامها تشارلز دارون Ch. Darwin (+ ١٨٢٢)، مع الإشارة إلى الرواد
الآخرين لامارك J. Lamarck (+ ١٨٢٩)، و ألفرد والاس A. Wallace (+ ١٩١٣). وببيانه المحكم البديع،
يوضح الخولي كيفية تفسيرها للحياة، فأنواع الأحياء — وعلى رأسها الإنسان — لم تظهر
هكذا منذ خُلقت، بل هي دائمة التغير من حال إلى حال، وبهذا تتطور من البساطة إلى
التركيب المتدرج بالتغير والتطور تنشأ بعض الأنواع عن بعض، وترتقي بعمل ناموس
الانتخاب الطبيعي — بقاء الأصلح للحياة وانقراض ما عداه. ويتهكم الخولي من رد
النظرية إلى القول الدارج: إن الإنسان أصله قرد! ولا يفوته تعداد مواطن القصور
المعروفة فيها.
ويبين الخولي أصول نظرية التطور في الفكر البشري، عند الإغريق ثم عند الإسلاميين،
خصوصًا مع جماعة «إخوان الصفاء وخلان الوفاء»،
٣٤ ومع ابن سينا (+ ٤٢٨ﻫ)، وابن طفيل (+ ٥١٨ﻫ)، والقزويني (+ ٦٨٢ﻫ)، وابن
خلدون (+ ٨١٨ﻫ).
وهنا يتوقف الخولي لتبيان أن نظرية التطور الحديثة في صلبها لا تتناقض مع العقيدة
الدينية ولا تتعارض مع الإسلام، والقرآن هدى للمتقين لا درسًا في الفيزياء
والكيمياء والأحياء، والإسلام في أصوله وفروعه يحث على عمل العقل، ويستحيل أن يصادر
على نظرية أو تفسير علمي ما. أما مقاومة نظرية التطور والنزاع الشهير بشأنها في
أوروبا وأمريكا، فهذا — كما يؤكد الخولي — لا يخصنا؛ لأنه تناقض بينها وبين نصوص في
التوراة.
يصر أمين الخولي إصرارًا على أن النزاع مع التطورية من فعل الإسرائيليات لا
سواها. وقبل أن نتوغل أكثر عبر أبعاد وآفاق التطور في التجديد عند أمين الخولي، لا
بد وأن نتوقف هنيهة بإزاء هذا النزاع الشهير بين نظرية التطور وبين فريق من رجال
الدين. والحق أنه ليس هينًا أن يدافع شيخ أصولي — كأمين الخولي — عن التطورية
الداروينية، بعد كل ما كان من تفاصيل هذا النزاع. وقد يرد إلى الأذهان هجوم
السلفيين المعهود فقط، أو أن هذا قصرًا على ثقافتنا، وليس هذا صحيحًا. فقد أشار
الخولي إلى أن التطور لا يزال يلقى مقاومة عنيفة من بعض التيارات في الولايات
المتحدة الأمريكية، حيث أقوى معاقل الروح العلمية، واستمرت بعد زمان الخولي.
وكاتبة هذه السطور حين دخلت متحف التاريخ الطبيعي في نيويورك عام ١٩٩٦ تلمست
بوضوح الجهد المنهجي المبسط الجميل في إقناع جمهرة الزائرين بنظرية التطور عن طريق
كل الوسائل العينية والبطاقات التفسيرية. أما في متحف التاريخ الطبيعي في شيكاغو،
فقد رأت قاعة مخصصة للنزاع الذي لا يزال دائرًا بين الكنيسة وبين نظرية التطور.
وثمة إقرار لأستاذ في جامعة نبراسكا بأنه في كل محاضرة ثمة طالب واحد على الأقل
يناقشه في أن نظرية التطور تعارض الدين، وهي لهذا مرفوضة. ولا يفوت معرض شيكاغو
إبراز أن العلاقة بين العلم والدين ليست موضوعًا لمواعظ يوم الأحد (راجع الفصل الرابع
من هذا الكتاب) ولا هي موضوع للمعالجات
الصحفية السريعة.
فهل هذا الذي لوحظ في شيكاغو يعني أن النزاع مع التطور ليس كما يؤكد الخولي من
فعل الإسرائيليات، استنادًا إلى آيات في التوراة، وأنه لا بد أن يمتد أيضًا إلى
العقيدة المسيحية من حيث هي كذلك؟ لا سيما وأن هذا هو ما يومئ به النزاع الضاري بين
دارون والتطورية وبين فريق من رجال الدين المسيحي.
إنها ملحمة مشهودة ومشهورة، ولن يجدي الخوض في تفاصيلها العقيمة. ومن أجل فصل
القول ربما كان مثمرًا أكثر أن نحتكم إلى شخصية لها ثقلها في الجانبين الديني
والعلمي، وقد يبدو العثور على مثل هذه الشخصية مستحيلًا أو عسيرًا؛ لكن يتقدم
جون بولكين هورن J. Polkinghorne (١٩٣٠) وهو
شخصية فريدة حقًّا. فقد تبوأ منزلة عالية كعالم في فيزياء الجسيمات الأولية. وكان
أستاذًا للفيزياء الرياضية في جامعة كمبردج العريقة فيما بين عامي ١٩٦٨ و١٩٧٩. وفي
عام ١٩٧٤ اختير عضوًا في الجمعية الملكية للعلوم التي تضم جهابذة علماء الفيزياء،
لكنه ترسم عام ١٩٨٢ قسيسًا في الكنيسة الإنجيلية «البروتستانتية»، فأصبحت أعماله
تدور حول استكشاف المقولات الكبرى في هذين القطبين — ويكاد يجري العرف على أنهما
متنافران أو على الأقل متباينان — أي العلم الفيزيائي أولًا، ثم الرؤى الدينية
المستنيرة ثانيًا. وأهم أعماله «لعبة الجسيم الذري ١٩٧٩» و«عالم الكوانتم ١٩٨٤»
و«العلم والعقيدة المسيحية ١٩٩٤».
ويبدو كتابه «ما وراء العلم: السياق الإنساني الأرحب ١٩٩٦» أروع أعماله، ومن أجمل
إصدارات العقد الأخير من القرن العشرين في هذا المجال. في كتابه «ما وراء العلم»
يوضح بولكين هورن — العالم القس — كيف أن العاصفة القوية التي هبت من كتاب «أصل
الأنواع» لتشارلز دارون، جاءت من فكرة التطور القائلة إن التغيرات الصغيرة البطيئة
المتراكمة خلال عملية الانتخاب الطبيعي طويلة المدى هي السبيل الذي يصل به الكائن
الحي إلى الشكل الضروري للبقاء في بيئته، بغير حاجة إلى القوة الربانية العليا، إلى
حكمة الله وقدرته؛ لكي تفسر ما أحرزته الكائنات الحية من استعدادات وقدرات،
فالمسألة كلها تجري على ظهر الأرض في إطار المحاولة والخطأ والتغير
والانتخاب.
بالقطع — كما يؤكد بولكين هورن — لم يعد ممكنًا التفكير في التنوع الرائع للحياة
بوصفه خلقًا فجائيًّا، أو تنفيذًا نهائيًّا لتصميم إلهي مسبق، ومع هذا لا توجد
إطلاقًا حجة تنكر أي غرض أو قصد إلهي من هذا التطور الحيوي الذي تتوالى مراحله عبر
مسار التاريخ، هذا على الرغم من أن كثيرين من علماء الحياة يميلون إلى هذا الإنكار،
ويؤكدون بلا أسانيد كافية أن العملية التي اكتشفها دارون عمياء تتم بلا وعي أو قصد
أو رؤية للمستقبل، قائلين إنه إذا كان ثمة صانع للساعة الحيوية، فهو صانع أعمى بلا
هدف.
بيد أن المسألة أعمق من هذا وذاك، كما يوضح بولكين هورن. فأولًا بعض من رجال
الدين رحبوا بالنظرية التطورية، ورأوها متفقة مع الفهم الصحيح للدين، وأكثر من
نظرية الخلق المكتمل المناقضة لها. وفي واقعة أغفلها التاريخ بشأن تقويم كشف دارون،
وردود أفعال رجال الدين إزاءها، نجد رجل دين إنجيليًّا بروتستانتيًّا هو
تشارلز كنجزلي
Ch. Kingsley يرحب بأفكار التطور
تأييدًا وتحبيذًا للبروتستانتية ذاتها بوصفها تقدمية، في مقابل الإظلامية التي
مارستها الكنيسة الكاثوليكية خصوصًا في العصور الوسطى. وكما يقول كنجزلي، تصور
العلماء أن التطور الحيوي يعني التخلص نهائيًّا من الألوهية ومن تدخلها في الطبيعة،
وأن المسألة أصبحت اختيارًا حاسمًا بين بديلين، الأول هو مجال مطلق للمصادفة
والأحداث العمياء، والثاني هو الرب الحي القدير الذي يمارس عمله المحايث في الكون.
بيد أن الله — كما يؤكد كنجزلي ومعه جمهرة من رجال الدين المستنيرين — الله لم يخلق
عالمًا جاهزًا مكتملًا، لقد خلق شيئًا أكثر حذقًا وبراعة، وأكثر إثباتًا لذاته
تعالى، عالمًا خاضعًا دائمًا للتطور. وعلى نفس هذا المنوال سار رجل دين آخر معاصر
لتشارلز كنجزلي هو أبري مور
A. Moore الذي أوضح أن
الخلق الفجائي قد حل محله مفهوم الخلق المستمر. ولا تزال هذه الفكرة تلعب دورًا
هامًّا في التأملات الدينية حول الكون التطوري، وتجد تعبيرات شتى خصوصًا في كتابات
تيار دو شاردان
P. Teilhard de Charidan
(١٨٨١–١٩٥٥) وأيضًا آرثر بيكوك
A. Peacocke في
كتابه «الخلق وعالم العلم ١٩٧٩».
٣٥ وفي طريق مشابه إلى حد كبير يسير أمين الخولي، كما سوف نرى في الصفحات
المقبلة.
هكذا نجد رجال الدين المستنيرين وجدوا في التطور خلقًا مستمرًا أكثر إثباتًا
للذات الإلهية. وفكرة الخلق المستمر ترددت بين جمع من كبار فلاسفة الإسلام في العصر
الذهبي للحضارة الإسلامية، خصوصًا ابن رشد. لكن الذي يهمنا رجال الدين المستنيرين
في الغرب المسيحي الذي دخل في صراع مع دارون، بل وفي إنجلترا ذاتها التي كانت حلبة
ذلك الصراع من حيث كانت موطن دارون. رجال الدين المستنيرون في إنجلترا رحبوا
بالتطورية، وعملوا على تشغيلها في صلب رؤاهم الدينية. إذن لم يأتِ أمين الخولي
فعلًا إذن حين رحب بالتطورية وحاول أن يجعلها بُعدًا، بل محورًا من محاور دعواه
التجديدية.
وبالعود إلى محاضرات أمين الخولي، نجده بعد أن عرض الأصول التاريخية لنظرية
التطور وفحواها مع دارون — مدافعًا عن هذا وذاك — ينتقل الخولي إلى فلسفة النشوء
والتطور العامة، وهي تطبيق هذا الناموس الحيوي على المظاهر الأخرى للوجود الإنساني،
فحتى المعنويات العقلية كلها تتطور من أصل بسيط وتتنافس والبقاء للأصلح. هكذا تكون
التطورية في الفلسفة الخلقية، فيقدم الخولي عرضًا بارعًا لمذاهبها، أولًا بتوسع مع
الرائد هربرت سبنسر H. Spencer (+ ١٩٠٣). وثمة
مراسلات بينه وبين محمد عبده، ثم مع ليسلي
ستيفن L. Stephen (+ ١٩٠٤)، وصمويل
ألكسندر S. Alexander (+ ١٩٣٨) حتى يصل إلى حيوده غير المقبول مع توماس هل
جرين.
وكان كل هذا في محاضرات الخولي موضوعًا للعرض والنقد والتقويم، حتى احتل التطور
ما يقرب من نصف محاضراته في تاريخ الأخلاق.
وفي هذا السياق عَني الخولي بتأكيد أن ناموس التطور الحيوي لا يقل ثبوتًا في
المعنويات لذلك عم تطبيقه وسيطر على نظام البحث في سائر المجالات. و«صار كل باحث
يتصدى لدرس شيء من ذلك إنما يتقدم إليه مسلمًا بعمل ناموس النشوء فيه، فيما مضى
وفيما هو آت، ولم يعد الباحثون يقبلون القول بظهور كائن كامل الوجود دفعة واحدة،
فكرة كان أو لغة أو فنًّا أو حضارة.»
٣٦
إذن يعمل هذا الناموس في عالم الأفكار ذاتها، يقول الخولي: «إن ظهور الفكرة
الجيدة يشبه في تطور الحي ظهور صفات جديدة في نوع من الأحياء تخالف الصفات القديمة،
وقوة يقين أصحاب الفكرة الجديدة بصحتها وصلاحيتها تقابل درجة قوة الصفات الجديدة في
الحي على البقاء، وأن صلاح البيئة الاجتماعية لحياة الفكرة الجديدة ومعاكستها لحياة
الفكرة القديمة، تقابل حال البيئة الطبيعية بالنسبة لصفات الكائن الحي الجديدة، وأن
قوة اقتناع أصحاب الفكرة الجديدة بها وترسيخهم لها في أذهان الناس تشبه قوة الحي
على إفناء منافسه وإبادته، واقتناع الناس رويدًا بالفكرة الجديدة وانسلاخهم من
الفكرة القديمة يشبه موت الأفراد الضعاف في التناحر المادي، وأن تأصل الفكرة
وثباتها في نفوس مقتنعيها يشبه تأصل صفات الحي الجديدة في نسله ورسوخها في البيئة.»
٣٧ ويضرب الخولي مثلًا لهذا بفكرة تحرم تدريس العلوم الرياضية والطبيعية
الحديثة في الأزهر تبناها كبار الشيوخ من ذوي السلطان، وفكرة تدعو إلى تدريسها
تبنتها قلة نابهة غير ذات سلطان يتقدمهم الأستاذ الإمام. بدا أن الكفة الأولى هي
الراجحة، لكن ناموس البقاء للأصلح حكم في النهاية لصالح الكفة الثانية، بكل هذا
التشابه للانتخاب الطبيعي في الأحياء، وفي المعنويات نجد «حياة الأديان والإصلاح
كلها، وكفاح الرسل عليهم الصلاة والسلام والقادة المصلحين على سنن طبيعية ثابتة
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ
لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ
مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ٣٨ (سورة الإسراء، آية: ٧٦-٧٧).»
هكذا كان مدخل الخولي إلى تجديد الفكر الديني على أسس حيوية نازعة إلى التطور
والارتقاء مؤكدًا أن «في الدين فكرة صريحة عن التجديد تبين ناموسًا كونيًّا، وتنسبه
إلى سنن اجتماعية مطردة لا تتبدل»
٣٩ هي سنة التطور.
(٧) طريق التجديد التطوري
في مرحلة لاحقة على هذه المحاضرات يعترف الخولي بأن النفس منه قد ملكها شعور
الحياة بالحاجة الماسة الملحة إلى «تجديد تطوري» يفهم به الإسلام الذي يقرر لنفسه
الخلود والبقاء، فهمًا حيًّا يتخلص من كل ما يُعَرِّض هذا البقاء للخطر ويعوق
الخلود.
لذلك أهدى الخولي كتابه الرائد «المجددون في الإسلام» الذي يحمل رسالة التطور
والتجديد في الفكر الديني إلى: الذين يدينون بعالمية الإسلام وخلوده، فالكتاب — كما
ينص الإهداء — بحث في وسائل هذه العالمية وذلك الخلود. وبناء على ما سبق نتفهم
بسهولة أن هذه الوسائل ترابض في فكرة «التطور» التي يقول عنها الخولي في هذا
السياق: «تلك الفكرة بمجملها وعامة معناها لا تلزم العقيدة الإسلامية بشيء خاص، ولا
تكلفها قليلًا أو كثيرًا من شطط، إذ لا تمس فيها كليات ولا جزئيات، تزيد عليها أو
تنقص منها، في الوقت الذي يكون فيه تقرير فكرة التجديد المُدانية لمعنى التطور إنما
هو قبول لأصل حيوي، لا يهون إنكاره، ولا من الخير المماراة فيه، إذ إنه واقع لا
يجمد ومشاهد لا يطمس، ذلك هو مبدأ التطور في الحياة»،
٤٠ والذي هو — كما لا بد وأن تعرفوا — الأصل التجريبي لفهم سَيْر الحياة
على اختلافها.
٤١
هكذا انطلق أمين الخولي مؤكدًا أن التجديد تطور، والتطور الديني هو نهاية التجديد
الحق. والتجديد بهذا انطلاق مع الحياة ووفاء بجديد حاجتها، وما كان أصل الاجتهاد في
الدين إلا تقديرًا للحاجة الماسة والضرورة القاضية بحدوث تغيير يوجبه التطور. وكشف
عن حاجة النصوص إلى توسيع يمدها بحيوية، تجعلها أصلح للبقاء الذي نودي به لها، بهذا
نجد التجديد لا يكون مع منطق الحياة والواقع إلا تطورًا.
٤٢ الدين في حاجة دائمة للتجديد والتطور بفعل المتغيرات العاتية والأمواج
العالية، والعوامل القومية التي تصطخب حوله؛ لهذا كان الاجتهاد والتجديد أصلًا
ثابتًا في العقيدة.
(٨) براعة النزال في ساحة التطور
ها هنا يتبدى بجلاء تفتح واستنارة الشيخ الخولي، وقدرته على سحب البساط من تحت
أقدام الخصوم. فقد كان التطور مقولة رفعت لواءها المدرسة العلمية العلمانية
المناوئة لكل الخطوط السلفية والأصولية والدينية؛ إن لم نقل ولعناصر الأصالة
ذاتها، مدرسة سلامة موسى (١٨٨٧–١٩٥٨) وشبلي شميل وإسماعيل مظهر. وبينما تكرس سلفيون
لشن حرب شعواء على «نظرية التطور»، بل ويقف في مقدمة المهاجمين جمال الدين الأفغاني
نفسه، ها هو ذا أمين الخولي يستفيد منها ويسخِّرها لخدمة الفكر الديني وضرورة
التجديد فيه.
هذا بغير أن يتوانى عن واجبه في كبح جماح أولئك العلمانيين التطوريين وكف غلوائهم
حين يجورون على الحق والحقيقة.
فقد أخرج إسماعيل مظهر عام ١٩٢٤ كتابه «ملقي السبيل» حيث حاول أن يؤلف بين الدين
ونظرية التطور، وينفي عنها مفهوم الدهرية
٤٣ أو الإلحاد. لكن الخولي يتصدى بضراوة للرد على مظهر حين صب وابل اتهامه
على الشخصية المصرية وتحقيره للعقلية العربية وتسفيه ميراثها العلمي في مقال نشره
مظهر في عدد فبراير ١٩٢٦ من مجلة المقتطف — كان الخولي آنذاك في برلين إمامًا
للبعثة الدبلوماسية المصرية في ألمانيا، كما ذكرنا — مع هذا أرسل على الفور إلى
«المقتطف» مقالًا يرد فيه سهام مظهر إلى صدره، ويدحض اتهاماته للعقلية العربية
بأسانيد تاريخية وبراهين معرفية، خاتمًا مقاله بقوله: «آمل أن يتقبل الكاتب الفاضل
ما قدمت بروح الحب للحقيقة وطلبها حيث كانت.»
٤٤
في هذا الإطار وبذلك التشغيل الحذر الفعال لمقولة التطور، كان الخولي يسير على
الحبل المشدود، ويقدم واحدة من أخصب مواطن العطاء في إسهاماته، وأكثرها تميزًا حتى
يمكن اعتبارها علامة فارقة له عن موقف جمهرة الشيوخ.
فقد كاد التطور أن يكون لافتة مميزة، قصرًا على تلك المدرسة العلمية العلمانية
التي أرادت أن تحتكر لها كل الخطوط، حتى إن أقطابها يلقبون القرن التاسع عشر — على
كثرة إنجازاته — «بعصر ظهور نظرية التطور، التي أخذت منذ منتصفه تملك على العقول
مسالك التفكير، وتصبغ النظريات والأحلام والترسيمات العمرانية بصبغتها.»
٤٥ والحق أن هذه النظرية حين تطبيقها عمرانيًّا أو اجتماعيًّا نجدها تملك
قوة جذب وقوة دفع في خدمة كل تواق للتقدم، راغب حقًّا في الإصلاح، لكنهما قوتان
تتبوءران في قول الخولي: «ناموس التناحر على البقاء يعني الجهاد والنضال في سبيل
الحياة، والفوز للفرد الممتاز على غيره.»
٤٦
قوة الجذب في أنها تجعل طريقه مُفعمًا بالأمل الحي الماثل في أن ينصلح حال
الإنسان، بحيث يرتقي إلى منزلة أعلى ومباينة جدًّا، أسماها نيتشه منزلة السوبرمان،
أو الإنسان الفائق، تمامًا مثلما ارتقى في الماضي عن حيوانات أدنى، أو أشكال بدائية
للحياة. أما قوة الدفع، ففيما تحمله هذه النظرية من حثٍّ للإنسان على النضال
والكفاح من أجل الترقي والصعود، بل ومن أجل مجرد البقاء. خصوصًا إذا أخذنا في
الاعتبار أن نظرية دارون في تفسيرها لحدوث التغيرات العضوية وظهور وانقراض أنواع من
الحياة، لا تجعل دور الكائن الحي سلبيًّا كمجرد متلق لمؤثرات البيئة مثلما تذهب
نظرية لامارك في التطور، بل تؤكد الداروينية على سلسلة لا تنتهي من حلقات الكفاح من
أجل الحياة والبقاء، تتنافس جميع الكائنات الحية في الحصول على الغذاء والماء
والمأوى، الأقوى والأسرع والأصلب هو الذي يظفر، أما الضعيف فيهلك. الأنواع القوية
القادرة على الفتك بمنافسيها، القادرة على التكيف مع البيئة تبقى وتحكم بالفناء على
الأنواع الضعيفة، الأقل تكيفًا مع البيئة.
٤٧ على هذا النحو يتم الانتخاب الطبيعي بحيث يكون للكائن الحي ولإمكانياته
الدور الأعظم في قصة التطور، والبقاء دائمًا للأصلح. إن التطور والارتقاء والتقدم
واقع متحقق وإمكانية مفتوحة دومًا لمن يملك العزم على خوض غمار الحياة.
هكذا تمثل نظرية التطور استقطابًا لتينك القوتين: الجذب والدفع، لتخاطب بسهولة
تشوفات الراغبين في الإصلاح، وتمثل في هذا الصدد أداة فعالة — أو كما أشار بوبر
برنامج بحث ميتافيزيقي ممتاز — فتستطيع المدرسة العلمية العلمانية أن تفرض ذاتها
على الواقع الثقافي وهي حاملة لواءها.
ولعل الخط الفاصل الذي جعل الشيوخ — بل وجمهرة المعنيين بالسلف — ترفضها بشدة
وتحاربها بشراسة يائسة، تتمثل في أن النظرية قد تستغني عن فعل الخلق المستقل وتنقض
الأيام الستة التي تم فيها. فقصة الحياة تشكلت عبر ملايين من السنوات، وليس يصعب
استئصال تلك الزوائد الضارة، فعن أي يوم يتحدثون؟! يوم مقداره ألف عام مما تعدون.
أم أكثر أم أقل؟ فضلًا عن أن «أسلوب عمل الانتخاب الطبيعي يمكن من حيث المبدأ أن
يظهر بمظهر أفعال الخالق وأغراضه.»
٤٨
وكما أشار الخولي؛ قرر لامارك أن الله هو الذي خلق الأصل وجعل فيه هذه القابلية
للتطور. وقال دارون إن وجودها يستبعد المصادفة العمياء ويستلزم قوة عجيبة مدبرة،
وأكد توماس هكسلي
T. Huxley (+ ١٨٩٥) استحالة نقض
الألوهية بمقتضى هذا المذهب.
٤٩ بصفة عامة، لم يألُ الخولي جهدًا في استئصال تلك الزوائد
الضارة.
ثم يقول: «القرآن يقرر في إجمال تام خلق الناس من تراب، أو طين، وخلقهم أطوارًا
دون أن يذكر في ذلك تفصيلًا، فإن كنا ولا بد ملتمسين التفصيل فخير لنا وأعقل أن
نلتمسه من سنن علمية تثبت إطرادها وسريانها فيما مضى وفيما هو أتٍ، فتفصيلها لإجمال
القرآن أكرم وأهدى من التصور السطحي الساذج الذي يجعل الخلق جبلًا للتراب بالماء
وتسوية جسم كعرائس الأطفال، تدخله الروح من رجليه، وما إلى ذلك من تفاهة تضيع ما في
هذا الكون من روعة وعظمة.»
٥٠ أما عن الخلق المستقل لكل نوع من الأحياء في ستة أيام وراحة الخالق في
اليوم السابع، فتفاصيل مذكورة فقط في سفر التكوين من التوراة، ولم يرد لها ذكر في
القرآن. لذا يخلص الخولي إلى أن النزاع المفتعل بين الإسلام ونظرية التطور لا يأتي
إلا من دجل الإسرائيليات المدخولة.
هكذا ينصرف الخولي عن الخوض في مسائل خلافية لا تجدي فتيلًا، ليستقطر — ببراعة —
إمكانيات نظرية التطور التي تجعل من غير الممكن ولا المجدي إغفالها في أية ثقافة
معاصرة، فضلًا عن أن تكون تحديثية تجديدية.
(٩) التطور في اللغة أيضًا … وقبلًا
وما دام التطور متجذرًا في فكر الخولي وتجديده، كان من الطبيعي أن يتوغل في
تناوله التجديدي لقضايا اللغة العربية ونحوها وبلاغتها،
٥١ والتي لا تنفصل طبعًا عن تجديد الفكر الإسلامي. وهما دائمًا قطبان
متعامدان، اللغة وسيلة إثبات وجودنا، والدين وسيلة تقويم هذا الوجود واتخاذ هدف له.
كما أن تجديد الفقه مقدمة لتجديد النحو؛ لأن أصول النحو قائمة على الفقه عند القدماء.
٥٢ أما البلاغة فهي فن القول وجماله، وعلم التفريق بين الجيد والرديء منه،
ودراسة البلاغة لإعجاز القرآن دراسة للون خاص معياري من القول الجيد.
على أية حال، كان الدرس اللغوي هَمَّ الخولي الأساسي، والحلبة الأولى لنضاله من
أجل الاجتهاد والتجديد وتأثيم التقليد، مستندًا على أصل عريق هو إجماع النحاة
القدامى على ذم التقليد. وحتى في عصور الانحطاط أغلق الفقهاء باب الاجتهاد، ولم
يفعل النحاة مثلهم
٥٣ ورأوا الاجتهاد قائمًا في كل آن ومكان، وإلا عجزنا عن ضبط وتفهم ما
نقوله.
وفي هذا نجد سنة النشوء والارتقاء قائمة في اللغات أيضًا، والتفسير التطوري للغة
مفتاح من مفاتيحها، فالبيئة الطبيعية المادية التي تعيش فيها اللغة، والظروف
النفسية والعقلية لمتكلميها، وأنماط الحياة التي يحيونها وتوارثها بين الأجيال … كل
هذا وغيره من عوامل يصعب حصرها، يؤثر في تطور اللغة، بل ويمكن القول إن ثمة صراعًا
بين اللغات نفسها، كما بين الأفراد والجماعات.
٥٤ لكن هل البقاء هنا أيضًا للأصلح؟ لم يبين الخولي، فقد عني فقط بإبراز
أهمية فكرة التطور في اللغة من حيث هي لغة، حتى جاهر بأمله في أن ينتفع من درسه هذا
المعنيون بالدراسات اللغوية غير العربية.
لا بد من التسليم بأن التطور سنة طبيعية خضعت لها العربية في كل شيء، أصواتها
وحروفها وكلمها وجملها وأسلوبها وبيانها … فلم تظهر العربية — كما يقول الخولي —
خلقًا سويًّا مستقلًّا، بل تغيرت وتحولت، إن لم نقل — عن رأيهم — تطورت — بمعنى
التطور عندنا اليوم. ولم يكن هذا التغير في زمن قصير، بل في زمن هو تاريخ ترقي
البشرية وتكملها إلى أن تهيأت للرسالة الختامية الموحدة للإنسانية؛ أي من آدم إلى
بعث محمد عليه السلام، وهذا التغيير غير طليق ولا متحرر، بل مقيد في كل حال.
٥٥
الخولي في هذا ينفي سائر التفسيرات الغيبية اللاهوتية اللاعقلانية، التي تزعم أن
العربية — دونًا عن سائر لغات العالمين — هبطت فجأة من السماء بالغة الكمال، لتظل
هكذا إلى قيام الساعة، وأيضًا إلى ما بعدها. فأكد الخولي أن اللغة العربية خضعت
لسائر ما خضعت له اللغات البشرية، نافيًا أي أصل إلهي لها. وفي هذا يستند إلى الآية
الكريمة:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ
قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (سورة إبراهيم آية ٤). فليست العربية فقط،
بل ثمة لغات أخرى نزل بها كلام الله ووحيه. وجَدَّ الخولي في رفض ودحض كل الدعاوى
الانفعالية العاطفية التي تزعم «فضل العربية … وكمال العربية … وانتهاء العربية إلى
ما لا شيء بعده!»
٥٦
أمثال هذه الدعاوى الهوجاء هي التي تقذف بنا خارج دورة الزمان وصيرورة التقدم، من
حيث تبتر أصول التطور والارتقاء.
(١٠) أسانيد تأصيلية
ونعود إلى الفكر الديني وتجديده على أسس تطورية، لنجد الخولي قد وصل في هذا إلى
حد تعداد الأسانيد التي تدعمه، أو بتعبيره تحديد «أسس التطور في الإسلام».
٥٧
هذه الأسس تجعل الإسلام مسايرًا لنظرية التطور، وللتطور ذاته في الحياة وفي
العلوم، فلا مناوأة لقانون الوجود. يقول الخولي: «إذا ما شعر الإسلام أنه يستطيع أن
يمضي مع أصحاب التاريخ دون تأزم، كما مضى مع أصحاب طبقات الأرض دون أزمة، وكما مضى
مع أصحاب العلم الطبيعي دون ارتباك، فإنه ليستطيع أن يتقدم على تطور الحياة منطلقًا مطمئنًّا.»
٥٨ ولا يبقى إلا أن يكون في المجتمع من يضمن مسايرة الفكرة للحياة
ووقايتها من عوادي الجمود. وبهذا يظل الإسلام دائمًا كما كان في عهده الذهبي: قوة
دافعة للتقدم، ورسالة الحياة والعالمية والخلود.
وأردف الخولي هذا بوقفة مع مجددي القرون الهجرية الأربعة الأوائل — فكرًا وعملًا
— وهم: عمر بن عبد العزيز، والإمام الشافعي، وابن سريج، وأبو سهل الصعلوكي، وأبو
الحسن الأشعري، والباقلاني، لإبراز مواطن تجديدهم وأهميتها وفاعليتها، هادفًا إلى
«استخلاص ما في أقوال أولئك الأخيار وأفعالهم، مما تفيد منه الحياة فتتجدد وتتطور
وتبرأ من آفات آراء وأضرار أفعال.»
على أن الخولي — وهو الشيخ الأصولي — لم يكتفِ بهذا التنظير في تأصيل التطور،
وأردفه بالاستناد إلى الحديث الشريف: عن سعيد بن أبي أيوب، عن شراحيل بن يزيد
المعافري، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله يبعث
لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها» اتفق الحفاظ على أنه حديث
صحيح.
يمضي الخولي في هذا التأصيل دفعًا لمظنة المحافظين، فيستهل كتابه «المجددون في
الإسلام» بأنه على أساس تحقيق مخطوطتين في دار الكتب المصرية، هما كتابا «التنبئة
بمن يبعثه الله على رأس كل مائة» للإمام جلال الدين السيوطي (متوفًى ٩١١ﻫ)، و«بغية
المقتدين ومنحة المجددين» للمراغي الجرجاوي في القرن الثالث عشر الهجري، وهما ليسا
من عهود الثوثب والإشراق، بل من أجواء مُسرفة في الانغلاق، ومع هذا ظلت فكرة
التجديد قوية الحضور؛ لأنها أصل من أصول الدين، حتى إنه لا يجوز في عرف السيوطي خلو
العصر من مجتهد، واستعاذ بالله من صيرورة الأمر إلى هذا الحد.
للسيوطي كتاب مفقود هو «الفوائد الجمة في من يجدد الدين لهذه الأمة» فضلًا عن أنه
نظم شعرًا أسماه «تحفة المهتدين في بيان أسماء المجددين»، ويلاحظ الخولي أن الكثرة
المطلقة منهم «رجال أنجبتهم وآوتهم وعلمتهم مصر، ذات الفضل العتيد على المدنية منذ
عرفها بنو آدم.»
٥٩
وقد بلغ الأمر بالسلف حد اعتبار المجددين بمثابة الأنبياء في عصرهم. وإذا كان
الأقدمون تحدثوا مثل هذا الحديث عن التجديد، كيف إذن يُعد بدعة، حين يضيء طريق
المستقبل واتجاه التطور فيه؟
ونلامس في أحاديث الأقدمين وأفعالهم أن التجديد تغير وانتقال من حال إلى حال،
تأثرًا بعوامل مادية ومعنوية تتعرض لها الأحياء، ونتفق جميعًا على هذا. ولكن حين
يكون التجديد متلاقحًا ومعضدًا بمثل تشغيل الخولي الحذر البارع لمقولة التطور، فإن
التجديد في هذه الحالة — التجديد التطوري ينفصل تمامًا عن تصور قديم له يحصره في
مجرد إحياء ما اندثر، أو إعادة قديم كان، فالتجديد — كما يقول الخولي هو: «اهتداء
إلى جديد كان بعد أن لم يكن، سواء أكان الاهتداء إلى هذا الجديد بطريق الأخذ من
قديم كان موجودًا، أم بطريق الاجتهاد في استخراج هذا الجديد بعد أن لم يكن.»
٦٠
(١١) مثالية شاملة، لا مذهبية
وإذا سخرت نظرية التطور إلى كل هذا الحد في صلب الديمومة الزمانية للإسلام، فلن
يعني هذا البتة أن أمين الخولي مُنادٍ بمذهب جديد هو — مثلًا — التطورية الإسلامية،
أو أن هذا امتداد ما للدعاوى الزائفة بأسلمة النظريات العلمية والمذاهب الغربية
الكبرى. كلا، فالأمر — كما ذكرت — مجرد تشغيل حذر بارع لمقولة مجدية من العبث
تجاهلها أو إنكارها.
في كل حال يظل ديدن الإسلام — بتعبير الخولي — هو «مثالية لا مذهبية»، مثالية
تتقبل كل إصلاح اجتماعي دون ضغط، فليس الإسلام هو الذي يزيد المذاهب مذهبًا والآراء
رأيًا، بل الإسلام مثالية تقابل الواقعية. بهذه المثالية «يُفتح باب الخلود والبقاء
الأبدي للدعوة الإسلامية، إذ تستطيع مع هذه المثالية أن تساير التطور وتُجاري
التقدم، وتتلقى كل جديد صحيح مدروس، لا تبرم به، ولا تعارضه بفهم سابق، يمثل مرحلة
من مراحل الماضي التي غادرتها الدنيا، وتقدمت عنها الحياة، وتلك هي المثالية
المقابلة للواقعية.»
٦١
لقد أكد الخولي على أنه لا مذهبية في القرآن أبدًا. وكرس لهذه القضية كتابه «في
أموالهم» ليدحض القول برأسمالية الإسلام وباشتراكيته على السواء، فهذا «محاولات
تلفيقية يجل عنها الإسلام، وتكلفات مغتصبة يأبى أن يُشد إليها الإسلام، على حين هو
يقدم من الشعور الإنساني والأصل الاجتماعي ما يدع للإنسانية حرية الفكر وحرية
الممارسة وحرية التجربة.»
٦٢
التطور أفق مثالي للإسلام، وليس مذهبًا جديدًا يوضع بجوار مذهب هربرت سبنسر
مثلًا. ومن منطلق المثالية بآفاقها الرحيبة مقابل المذهبية بحدودها التعصبية التي
ينبغي طرحها عن رحاب الإسلام، يتبدى أمامنا التطور كمجرد أفق شامل للتجديد الديني،
فيصادر الخولي على أن كل شيء يتغير مع الزمن في صورته ومفهومه العقلي ووقعه على
النفس، وفي التعبير عنه والتمثل له. والقرآن يقرر أنه بالتغير يعامل المتغير، فيجب
على المفكر الديني أن يقدر كل هذا، فيغير عرضه وتعبيراته واستدلالاته.
ويعترض الخولي على قول لشيخ الأزهر — منشور بجريدة الأهرام في ٢٧ رمضان ١٣٨٤ —
يقصر فيه التطور على أحكام العبادات، وينأى به عن الأصول والعقائد. فيؤكد الخولي أن
التغير والتطور سنة شاملة في الأصول: العقائد والعبادات والمعاملات، وفي هاتين
الأخيرتين شريعة الإسلام هي انتخاب ما نراه أيسر عملًا وأصلح للبقاء.
لقد كان التغير أمرًا واقعًا في الحياة الاعتقادية لعصر الإسلام الذهبي إبان
القرون الهجرية الأربعة الأوائل، حيث تتكشف اختلافات، بل صراعات جمة حول العقيدة.
ومن العقائد ما بلغ الاختلاف حولها حد سفك الدماء، كالذات والصفات وخلق القرآن.
بالطبع ليس مثل هذا التغيير ولا موضوعاته هو المنشود أو حتى المطروح، لكنه بيان
لإمكانية الاختلاف، وبالتالي قابلية التطوير والتجديد، فينتهي الخولي إلى أن «تطور
العقائد ممكن، وهو اليوم واجب لحاجة الحياة إليه، وحاجة الدين إلى تقريره.»
٦٣
هكذا كان التجديد الديني مع الخولي جذريًّا حقًّا، حتى بلغ أصول العقائد ذاتها،
وهذا ما يسمى في المصطلح الفلسفي التجديد في علم الكلام، أو علم التوحيد في التسمية
التي يفضلها محمد عبده. وقد كان علم الكلام دائمًا هو الفلسفة الإسلامية الحقة
والتعبير العقلي الأصيل عن الروح الإسلامية، وفيه لا سواه نجد ما يمكن أن نسميه
الأيديولوجيا الإسلامية.
٦٤
فلئن كان أشهر ما اشتهر به الخولي هو ما سنتوقف عنده في الفصل التالي؛ أي تجديده
في تفسير القرآن بمدرسته في التفسير الأدبي موضوعًا موضوعًا، لا سورة سورة، أو آية
آية، وعلى أساس من وثيق اتصال القرآن بالحياة الإنسانية؛
٦٥ فالمرجو أن يكون قد اتضح الآن لماذا بدا لنا أن أخطر ما في تراث
الخولي، وما يستحق أن نتوقف عنده فعلًا، هو هذا التجديد في الفكر الديني، والذي
جعله التطور الشامل جذريًّا إلى أقصى الحدود، إلى أصول العقائد، إلى علم
الكلام.
وذلك هو ما يلح علينا الواقع الراهن لكي نستنه في خطوطه التأصيلية التي تحققت مع
الخولي.
(١٢) التجديد: أن نكون أو لا نكون
فلم يكن ما سلف عرضًا تاريخيًّا مصمتًا لجهود الخولي التجديدية، فقط كما تحققت في
إطار عصرها، بل من أجل الانتهاء إلى المتغيرات الأخيرة على مشارف القرن الحادي
والعشرين، إذ تجعلنا أشد احتياجًا لاستلهام روح التجديد التطوري في الفكر الديني،
والتي ناضل من أجلها الشيخ الخولي.
ذلك أن أصالتنا — أو بمصطلح أفضل خصوصيتنا الحضارية — إنما يتمركز في سويدائها
الدين، وكثيرًا ما أشار الخولي إلى قوة البعد الديني في الشخصية المصرية، ولا
يستبعد وحيًا إلهيًّا هبط على قدماء المصريين.
٦٦
وعلى مدار القرون الماضية احتل الإسلام المخزون النفسي للجماهير والنسيج الشعوري
والإطار القيمي، بعد أن شكل دائرة خفاقة استوعبت الدوائر الحضارية الأسبق. على
الإجمال الخطوط الإسلامية هي صلب شخصيتنا الحضارية وقسماتها.
لذا فإن البحث في تجديد الفكر الديني بمثابة البحث عن طوق النجاة من الانسحاق
الحضاري والضياع الثقافي في خضم ما نعانيه الآن من طوفان الانفلاقات الذي لا
يتنازعنا فحسب، بل ويتنازع دعائم وجودنا على خريطة العالم. وبعد أن ماهت الفوارق
بين التبعية والاستقلال الحضاري، وترسم بديلًا موقف هامشي هو موقف التنازلات تلو
التنازلات، التي أصبحت تلامس ثوابت الهوية، ووضع القومية موضع الاستفهام، والعروبة
موضع التشكيك، والإسلام كرديف للرجعية.
ولا غرو أن يعقب هذا انتهاب الأرض وعلو الصهيونية، واهتزاز قيم الحرية والعدل،
وانحسار العقلانية وهبوط الوعي، وتراجع المشروع القومي، وشيوع التعصب وذيوع التطرف.
وفتية تنتابهم هيستريا الفرار المخبول للماضي، أو نوبات علاقة إجرامية بالحاضر
مضمخة بالإرهاب والدماء.
ثم العجز عن الخروج من التبعية للغرب، وهو لا يكتفي بميراثه الإمبريالي والصهيوني
الطويل الوبيل مع حضارتنا، بل يعقب هذا — أخيرًا — بما سُمي «الحرب الثقافية». وقد
ظهر هذا المفهوم في أعقاب حرب الخليج، وكان اعتماده صراحةً في مقال و.س. لنيد
«الدفاع عن الحضارة الغربية» بمجلة السياسة الخارجية الأمريكية، ثم في مقال صمويل
هنتنجتون — الأستاذ بجامعة هارفارد — «الصدام بين الحضارات» بمجلة «الشئون
الخارجية» الواسعة الانتشار. وخلاصة مقال هنتنجتون — الذي حاز شهرة واسعة — أنه بعد
انتهاء الحرب الباردة بين الشيوعية والرأسمالية، ستكون الخطوط الفاصلة بين الحضارات
هي خطوط القتال في المستقبل، بين الغرب وبين الحضارات غير الغربية الست، وأولها
الحضارة الإسلامية. ويخلص هنتنجتون إلى دعوة الغرب كي يتصدى لهذا الخطر الزاحف من
الشرق الإسلامي إلى الغرب والشمال.
٦٧
إنها مواجهة ثقافية صريحة، تستنفرنا لبعث الحياة والنماء والتطور … التجديد في
عصب ثقافتنا ومعامل خصوصيتنا الحضارية: الفكر الديني، لا سيما بعد أن نخلص من كل
هذا إلى ما نشهده الآن من ضياع القدس نهائيًّا من بين أيدينا.
ويصعب اعتبار هذه الأوضاع المتأزمة — أو المحنة الراهنة — أمرًا عارضًا، حين نجد
كتاب السيوطي المذكور «التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مائة» يقوم على أن المحن
تحدث على رءوس القرون، فتقتضي التجديد جبرًا لما حصل من الوهن بالمحن، ويعدون هذه
المحن على رءوس المائين، فيذكرون الحجاج ومحنة خلق القرآن وخروج القرامطة وأفاعيل
الحاكم بأمر الله، واستيلاء الفرنج على بلدان شامية من بينها بيت المقدس.
وحين تكون المحنة دهماء من قبيل استيلاء الفرنج على بيت المقدس، فإن أمين الخولي
يفضل مجددًا في أصول العقائد — وهو متكلم على مجدد في الفروع والعبادات — هو فقيه.
إن التجديد قد يكون دوريًّا مع التغيرات الدورية، وقد يكون جذريًّا مع المحن التي
تحدث عند رءوس المائين، وقد رام الخولي هذا التجديد الجذري المستجيب لاحتياجات
الواقع، فيقول: «إن ذلك التجديد الجذري في رءوس القرون هو العمل الثوري الكبير الذي
تحتاجه الأمة، كأنما هو ثورة اجتماعية دورية.»
٦٨
وتحتاجه الأمة الآن على ضوء التداعيات الراهنة أكثر من احتياجها إياه في أية
مرحلة أخرى، أو على رأس أية مائة سابقة — هجرية أو ميلادية. إن الحاجة تلح الآن إلى
إعادة قراءة أصولنا الدينية قراءة تاريخانية علمية تجديدية تطويرية، لا أن ننفصل
عنها وننكر لها إمعانًا في التبعية والاستسلام.
لقد بات من الضروري السير في الطريق الذي عَبَّده الرائد الشيخ أمين الخولي
للتجديد والتطور في الفكر الديني، استنقاذًا للوعي القومي وللشخصية الحضارية، بل
ولوجودنا الحضاري ذاته لا سيما بعد أن تصاعد مد العولمة مهددًا باكتساح كل
الخصوصيات الحضارية والتنوع الثقافي فلا يبقى إلا النمط الأمريكي.