الفصل الثاني
في الآفاق الفلسفية للتفسير
أمين الخولي هيرُمنيوطيقيًّا
١
طبيعي أن يكون موضوعنا العمود الفقري لجهود أمين الخولي؛ أي الأصالة في تقاطعها مع
التجديد. والواقع أن هذا هو الهيكل والإطار لمجمل إشكاليات الفكر العربي الحديث، وشغله
الشاغل، كما هو معروف. فكان من الضروري أن يتمثل في عقلية لها ثقل ومضاء عقلية أمين
الخولي.
وسؤالنا الآن عن التفسير، هل يقبع في محور الأصالة الرأسي، أم في محور التجديد
الأفقي؟ والحق أنه يرابض في صلب التقاطع بينهما.
وما نريد الآن أن نلقي عليه الضوء هو أن نظرية أمين الخولي في التفسير، لا سيما من
حيث ارتباطها بأفق المفسر، إنما ترابض في صلب الهم الفلسفي المعاصر، شرقًا وغربًا. مما
يلقي ضوءًا كثيفًا على أهمية وثراء وخصوبة وحيوية، يتفجر بها فكر أمين الخولي وميراثه،
وأكثر من كل ما يمكن أن يتبدى للنظرة العابرة.
•••
لكن لا بد قبلًا من الاتفاق على أن التفسير — أي الجهد المتجدد دومًا لتفهم النص
القرآني — إنما هو منطلق أولي للجهود الفكرية التأصيلية التي تعمل من أجل تنهيض واقعنا
الحضاري في تعينه وفي خصوصيته؛ لأن القرآن الكريم هو نقطة الإحالة المرجعية الثابتة
التي تمثل مبتدأ حضارتنا ومرتكزها، ومنطلق وعينا بالهوية كأمة متميزة بأنها
إسلامية.
إن الوحي القرآني فعل توحيد فذ، مثل نقطة تحول متفردة، ولم يكن استمرارًا لأي مسار
كان قبله، نثريًّا أو شعريًّا، إنه كما قال طه حسين — الأستاذ العميد — ليس شعرًا ولا
نثرًا بل قرآنًا. ولعل ظهور القرآن في سيرورة الحضارة العربية «يماثل ظهور الفلسفة في
سيرورة الحضارة الغربية، منعطف جذري وتغيير حاسم من حيث الرؤية التي أتى بها والمنهاج
الذي استنه.»
٢
صحيح أن هذه المنطقة تتميز بسعة الموروث الثقافي قبل الوحي بزمان سحيق. وأمامنا في
مصر الحلقة الفرعونية والحلقة القبطية اللتان لا يمكن إغفالهما، إذ لا تزالا ماثلتين
في
شعور الجماهير، من الفرعونية: شم النسيم، السبوع، ذكرى الأربعين، الحانوتي أو الحنوطي
رغم اندثار التحنيط، الفول المدمس … إلخ. أما القبطية فيكفي أن الفلاح المصري حتى الآن
يعمل ويعيش في تقويمها، وينظم وقائع حياته وفقًا للشهور القبطية المطابقة لمناخ مصر
ولبيئتها الزراعية. وشبيه بوضع مصر أقطار إسلامية أخرى لها موروث حضاري ماثل قبل الوحي
القرآني. كل هذا صحيح، ولكن أو لم يمثل القرآن الكريم، أو الوحي الإسلامي بسرعة غير
مسبوقة دائرة حضارية استوعبت كل هذا لتمثل مرحلة جديدة، نقطة بدء جديدة، مُشكلة كل
المسار التاريخي اللاحق؟!
ثم كانت لغوية الحدث القرآني، وما أدراك ما لغوية الحدث القرآني؟ إنها هي — قبل كل
شيء — التي تجعل من مشكلة الخصوصية أو الأصالة واقعًا شاغلًا لنا دونًا عن أية أمة
أخرى؛ لأننا نحن الأمة الوحيدة التي لا تزال تتحدث بلغة تراثها القديم وكتابها المقدس،
وكما تثبت الفلسفة التحليلية المعاصرة، ليست اللغة قالبًا أو وعاءً يُملأ بالفكر مثلما
تُملأ السلة بالفاكهة، بل إن اللغة هي ذاتها نسيج التفكير وخامة من خامات الوعي.
وقد مارس جلال الحدث القرآني نوعًا غريبًا — لعله غير مسبوق — من فقدان الذاكرة
التاريخية، ترسخ بلغوية الحدث، وهجران البلدان المفتوحة للغاتها القومية التي هي إطار
تفاعلاتها السابقة الطويلة مع واقعها، والنسيج الذي تمثلت فيه قيمها ونواتج
حضارتها.
وقد كان الإسلام باستراتيجية حضارية وسياسية معجزة ورائعة، يُعد نفسه امتدادًا
وتطويرًا وتنقيحًا للديانات السماوية السابقة، وبالتحديد اليهودية والمسيحية؛ لذلك فإنه
بخلاف الديانات السماوية السابقة، نجد أن كل ما تبقى في الوعي الجمعي من حاصل تاريخ ما
قبل الوحي والنص القرآني؛ إما نماذج شاخصة للطاغوت والجاهلية والشرك وكل ما يتوجب نقضه
ونفيه، وإما خيالات باهتة وأمساخ شائهة لفرعون الجبار، وإرم ذات العماد، وثمود الذين
جابوا الصخر بالواد. ولما تنامت مؤخرًا البحوث التاريخية والأركيولوجية والأنثروبولجية
وتجلت ذخائر أصول القوميات، كان تيار الوعي سواء احتوى هذا أم لا، قد استقر تمامًا في
إطار النص القرآني. فكيف إذن لا نشير إليه قائلين: من هنا نبدأ؟
وقد كان النص القرآني بالتالي هو المركز الذي نشأت حوله دوائر علوم تراثنا؛ لذلك
كان
نصًّا أو وحيًا تحول إلى حضارة، وهذا أميز ما يميزنا كأمة، لقد خرج تراثنا من الكتاب
المبين/القرآن الكريم، كانت أولًا الانبثاقة الجبارة الفريدة لعلوم اللغة، التي أسفرت
عن جهاز اشتقاقي ونحوي وصرفي لا مثيل له في لغات العالمين؛ لأن القرآن نص، ظاهرة لغوية،
ثم البلاغة لتكشف عن إعجازه، يتبعهما الفقه ليستنبط الأحكام قياسًا عليه، وعلم الكلام
من أجل عقلنة القرآن ليتطور إلى الفلسفة، مما جعلنا حضارة تدور حول مركزها الثابت:
القرآن الكريم. وقد أشار المفكر الإسلامي المجدد حسن حنفي إلى أن هذا هو الفارق المحوري
والجدلي بين الحضارة العربية الإسلامية، والحضارة الغربية المسيحية التي أصبحت طردية
بلا مركز؛ لأن الكتاب فيها قد خرج من التراث ولم يخرج التراث من الكتاب.
٣ لم تكتب الأناجيل إلا بعد اكتمال الدعوة المسيحية، فكانت لاحقة على العقيدة
وتعبيرًا عنها، ليست سابقة عليها أو مصدرًا لها. ثم كان ظهور علم النقد التاريخي للكتب
المقدسة في القرن السابع عشر مع سبينوزا وريتشارد سيمون وجان أوستريك، ليتناول تحريفًا
وتبديلًا وتغييرًا وقع في الكتب المقدسة، على كل هذا يقول حسن حنفي:
أهم ما يميزنا كأمة، سواء إذا كنا مجتمعًا حاليًّا أو حضارة سابقة هو أننا قد
تلقينا «وحيًّا» يمتاز على الأقل بخصائص ثلاث، أولًا: أنه آخر مرحلة من تطور
الوحي في التاريخ ابتداء من آدم حتى محمد، وبذلك يكون لدينا الوحي مكتملًا في
صورته النهائية، يمكن أخذه كأصل للشرائع دون انتظار تغيير أو تبديل أو نسخ.
ثانيًا: أنه محفوظ كتابةً بين دفتي القرآن، وبذلك أمن خطورة التحريف التي
انتابت الكتب المقدسة الأخرى من إنجيل وتوراة عند بني إسرائيل. ثالثًا: أن
القرآن ككتاب مقدس لم ينزل دفعة واحدة، بل نزل منجمًا كما يقول علماء التنزيل؛
أي إنه ليس وحيًا معطى، ولكنه وحي منادى به اقتضته أحوال الناس واحتياجاتهم،
تأتي كل آية كحلٍّ لموقف، ثم تُجمع الآيات على مدى ثلاثة وعشرين عامًا وتصبح
القرآن. فأهم ما يميزنا عن الأمم والحضارات الأخرى هو هذا القرآن.
٤
ونلاحظ أن هذا الاقتباس يلفت أنظارنا إلى أن الوحي مُنادى به، لم ينزل دفعة واحدة،
بل
منجمًا، هو تواتر من حلول لمشكلات واجهت الفرد والجماعة، وذلك قريب مما أسماه شيخنا
أمين الخولي: «وثيق اتصال القرآن بالحياة الإنسانية»،
٥ وكان أساسًا قامت عليه مدرسته في التفسير الأدبي للقرآن، التي نطرق الآن
أبوابها، خصوصًا من حيث هي نقض للتفسير الحرفي الثبوتي الجامد، الذي لا يؤذن بتطوير أو
تجديد، ولن يومئ إلى تنهيض أو تنمية.
ننتهي من هذا إلى محورية قضية تفسير القرآن في أطروحاتنا الحضارية الهادفة إلى تأصيل
توجهات الحداثة، وتحديث معاملات الأصالة، أو باختصار الهادفة إلى التجديد، وأن اتجاه
أمين الخولي الرائد بمدرسته في التفسير من الخطوط المحورية في هذا المضمار.
•••
وإذا كان أمين الخولي ينعت اتجاهه بأنه تفسير «أدبي» للقرآن، فإن الخولي بدوره كان
في
طليعة روادنا الذين تعرضوا لصلة علم النفس بالبلاغة والأدب.
٦ وقد توقف عند الإعجاز النفسي لبلاغة القرآن الكريم، بمعنى أثره العظيم على
النفس الإنسانية ووقعه عليها وفعله فيها،
٧ بطلاوته وعذوبته في مبناه وفي معناه، وفي جرسه وإيقاعه. وعن طريق الاستعانة
بأمهات عيون التراث، يبين الخولي الأثر النفسي لأساليب القرآن الكريم البلاغية، خصوصًا
التكرار.
يرى الخولي الإعجاز النفسي للقرآن متروكًا للإحساس الفني والذوق الأدبي؛ لأنه — كما
انتهى السكاكي — يُدرك ولا يوصف أو يُعلل. والأمر كله رجوع إلى مصدر الحياة الفنية في
الإنسان باعتبارها من أرقى ملكاته.
٨ لكنه — أي الإعجاز النفسي للقرآن الكريم — يستتبع التفسير النفسي للقرآن،
والذي يمكن أن يساهم فيه علم النفس بما يملكه من فروض ونظريات. إن التفسير النفسي
للقرآن الكريم يقوم على أساس وطيد من صلة الفن القولي بالنفس الإنسانية.
والتفسير النفسي يعني أن القرآن الكريم فن أدبي معجز، من حيث هو هدى وبيان ديني، يقوم
على سياسة النفوس البشرية وترويض الوجدان. الفن هو نجوى الوجدان، والدين حديث الاعتقاد
وخطاب القلوب، وصلته بالنفس أوضح من أن تفسر.
هكذا عن طريق البعد النفسي يبلور الخولي نقطة التلاقي بين الدين وبين الأدب، ليخرج
بدعواه للتفسير الأدبي للقرآن الكريم، موضوعًا موضوعًا، لا سورة سورة، أو آية آية. وقد
أشرت في البحث السابق إلى أن هذا هو أشهر ما اشتهر به الخولي.
إن ترتيب القرآن في المصحف الشريف ترك وحدة الموضوع، ولم يلزمها مطلقًا. وترك أيضًا
الترتيب الزمني لظهور الآيات، فتتداخل الآيات المكية مع الآيات المدنية. وقد فرق الحديث
عن الشيء الواحد والموضوع الواحد في سياقات متعددة ومقامات مختلفة. لكل هذا يكون الطريق
إلى المعايشة الأعمق للقرآن ومضامينه هو تناوله موضوعًا موضوعًا.
على أن هذا التناول مصبوغ بصبغة العصر الذي يتم فيه.
إن النص القرآني — كما صدرنا الحديث — مركز حضارتنا وثقافتنا، ثابت بنيوي، لكن تبيان
أغراضه ومعانيه ومراميه يكون في ضوء التفسير. لقد أشار الخولي إلى العلاقة بين التفسير
والتأويل، على أساس أن الأول أعم من الثاني. وقد استعمل القرآن الكريم كلمة «التأويل»،
ثم ذهب الأصوليون إلى اصطلاح خاص لها، حتى شاع استعمالها مع المتكلمين، باعتبارها لونًا
خاصًّا من التفسير، والتفسير دائمًا له صور متعددة «وقد تنوعت ألوانه وتعددت بتعدد
ثقافات المتصدين له.»
٩
وهكذا إذا كانت ثقافتنا تتميز بتمركزها حول محور ثابت هو النص الديني، فإن التفسير
يحمل دماء الحياة والتجديد والتطور دائمًا مع كل عصر، سيما وأن التفسير علم — كما أشار
الأقدمون — ما نضج وما احترق، مقابل النحو وعلم أصول الدين الذي نضج واحترق، وعلم الفقه
والحديث الذي نضج وما احترق، أما التفسير فهو نهر دافق يتدفق بتدفق الحضارة والحياة
نفسها، والنهر لا يكون فجًّا أو ناضجًا، النهر لا يحترق أبدًا.
•••
بكل هذه الحيوية والتدفق والتجدد المستمر الذي اتسم به التفسير مع أمين الخولي، نتوقف
عند واحد من أهم تيارات الفكر الفلسفي المعاصر، وهو المعروف باسم الهيرومنيوطيقا. وهذا
المصطلح Hermeneutics له معنيان أو مدلولان، أحدهما
قديم متوارث، والآخر حديث معاصر. لئن كان كلاهما يتمثل في الخولي، فإن ما يهمنا هو تحقق
المدلول المعاصر في شخصيته التفسيرية، فضلًا عن مسيس احتياجنا الحضاري لذلك المدلول
المعاصر.
الهيرُمنيوطيقا في أصوله القديمة هو علم تأويل الكتب أو النصوص المقدسة. ومع تطوره
التاريخي اكتسب مرونة واتساعًا، حتى أصبح أخيرًا وبفضل الفلسفة الألمانية، واحدًا من
أهم تيارات الفلسفة في الربع الأخير من القرن العشرين.
الهيرُمنيوطيقا كتيار فلسفي معاصر ينطوي على موقفين متقابلين، أحدهما يتبع
فيلهلم دلتاي
W. Dilthey (١٨٣٣–١٩١١) ويرى التأويل
أو الفهم
Verstehen منهاجًا للعلوم الاجتماعية
والتاريخية. أما الموقف الثاني فيتبع مارتن
هيدجر
M. Heidegger (١٨٨٩–١٩٧٦) ويرى التأويل «حدثًا أنطولوجيًّا» أي حدثًا
وجوديًّا. التفاعل بين النص وبين المفسر/المئول إطار ضروري لتفهم الموضوع المطروح، إنه
جزء من تاريخ ذلك النص، كما أن طرح قواعد ومعايير لتفهم ما يقوله النص إنما هو موقف
تاريخي ووجودي للمئول/المفسر.
١٠
وسوف نسير الآن عبر الخط الهيدجري لنجد الهيرمنيوطيقا نظرية عن الخبرة الواقعية الحية
بالنص. إنه علم قراءة وفهم النصوص على إطلاقها، سواء دينية أو تراثية أو فلسفية أو
قانونية. ويكتسب أهمية خاصة في النصوص التراثية؛ لأن القراءة الهيرومنيوطيقية ينصهر
فيها النص والقارئ معًا، الماضي والحاضر في علاقة جديدة تبادلية وتكاملية، إنها حوار
مستمر مع النص يجعله مفتوحًا دائمًا لفهم جديد وتأويل جديد. هكذا تغدو النصوص معاصرة
دائمًا، معاصرة لكل من يقرؤها مجددًا.
«النص لا يقول الحقيقة، بل يفتح علاقة مع الحقيقة»،
١١ أو قل علاقات كل قارئ، كل عصر يدخل في العلاقة الموائمة لحيثياته. النص
مادة خام، قالب يتسع لمضامين عديدة، ويكتسب مضمونًا محددًا حين يتحدث المفسر القارئ
نيابة عنه، يتحدث بلغته، لغة الحاضر، ودون مشاركة الحاضر يتجمد النص وتتخلخل علاقته
بالواقع. إن التأويل والتفسير يملؤه بالمضمون طبقًا لما أسماه الفقهاء في تراثنا:
(المقاصد العامة).
هكذا يظل النص ظاهرة حية باستمرار. إن النص — أي نص — تنتهي مهمة تصنيفه، أو تنتهي
مهمة الكاتب بخروج النص. أما القراءة، التأويل والتفسير فمهمة مستمرة، إمكانية مفتوحة
دومًا لفهم جديد، لتفسير أو تأويل جديد.
هكذا تحولت ظاهريات النصوص إلى علم مستقل هو الهيرمنيوطيقا، يستفيد من علوم إنسانية
عديدة، وبنفس القدر يفيدها. وتصب فيه نظريات المعرفة والوجود والقيمة على السواء، وإن
كان أوثق اتصالًا بنظرية المعرفة. ولكن لعلنا لاحظنا أن أمين الخولي يركز أيضًا على
اتصال علم النفس بالذات بالتفسير وتأويل النصوص الأدبية، وعلى رأسها جميعًا القرآن
الكريم.
لقد أتى أقوى السائرين في الخط الهيدجري، وهو هانز
جيورج جادامر
H. G. Gadamer بكتابه الرائد «الحقيقة والمنهج»
Wahrheit Und Methode (١٩٦٠)، فتستوي الهيرُمنيوطيقا منهاجًا فعالًا،
قيل إنه يوازي في خطورته وأهميته المنهاج العلمي التجريبي. فهذا الأخير لتناول الواقع
الفيزيقي والحيوي، أما الهيرمنيوطيقا فمنهاج لتناول النصوص، وهي واقع إنساني لا يقل
عينية وتجسدًا وأهمية وصعوبة مراس، إن لم يزد.
١٢
وبفضل هذه الصبغة المنهجية الطاغية أصبحت الهيرمنيوطيقا علمًا له مدارسه، واتجاهًا
واسعًا مارس سيطرة كبيرة على الأجواء الثقافية ومدارس النقد الأدبي في العقدين
الأخيرين.
إنه علم يقوم على إلغاء التباعد بين القارئ والنص، أو ما يتمثل في فلسفة المناهج
المعاصرة من إلغاء للتباعد بين الذات والموضوع الذي وقعت في إساره الفلسفة الحديثة.
وبالتالي فهم النص ليس كموضوع مفارق، بل في سياق إنتاجه وفي أفق المتلقي له، فتتعدد
مدلولاته بتعدد آفاق المتلقين باختلاف الأزمنة والأمكنة. ويبقى النص معينًا لا ينضب
أبدًا وإمكانية متجددة دومًا.
هكذا تتجلى الهيرومنيوطيقا كمنهاج ذي قدرة متفردة على بث الحياة مجددًا ودائمًا في
النص، من حيث يلقي تلك التبعة والمسئولية على عملية القراءة والتأويل والتفسير، هو في
كلمة واحدة: انصهار النص والقارئ معًا. النص مادة خام، القارئ يشكلها ويعيد تشكيلها في
عصره تبعًا للأفق الثقافي المعطى.
القراءة والتفسير مهمة مستمرة، والتأويل إمكانية مفتوحة ومتجددة دائمًا.
•••
بهذا، وبعد أن رأينا الخطوط العامة للتفسير عند أمين الخولي ومدرسته الأدبية، يتضح
تمامًا كيف كان الخولي هيرمنيوطيقيًّا كبيرًا، ويكفي أن نستشهد بالفقرة التالية من
مناهج تجديده. يقول الخولي:
إن الشخص الذي يفسر نصًّا، يلون هذا النص — لا سيما النص الأدبي — بتفسيره له
وفهمه إياه، إذ إن المتفهم لعبارة هو الذي يحدد بشخصيته المستوى الفكري لها،
وهو الذي يعين الأفق العقلي، الذي يمتد إليه معناها ومرماها. يفعل ذلك كله وفق
مستواه الفكري وعلى سعة أفقه العقلي؛ لأنه لا يستطيع أن يعدو ذلك من شخصيته،
ولا تمكنه مجاوزته أبدًا، فلن يفهم من النص إلا ما يرقى إليه فكره ويمتد إليه
عقله. وبمقدار هذا يحتكم في النص ويحدد بيانه، ولا يستخرج منه إلا قدر طاقته
الفكرية واستطاعته العقلية. وما أكثر ما يكون ذلك واضحًا حين تسعف اللغة عليه،
وتتسع له ثرواتها، من التجوزات والتأولات، فتمتد هذه المحاولة المفسرة بما
لديها من ذلك، وإن المستطاع منه في اللغة العربية لكثير وكثير.
١٣
وأخيرًا نشير في الختام إلى أن أزمة الثقافة الإسلامية والحضارة العربية حدثت حين
عجزت عن التأويل، وتوقفت عن التفسير المتجدد، ودخلت في ليل الشروح والتعليقات والمتون
والهوامش والحواشي. فكان تجديد التفسير شرطًا لتجديد الفكر العربي الإسلامي وازدهاره،
وكما قيل بحق هذا هو الهدف الذي يسعى إليه المفكرون الإسلاميون منذ فجر النهضة حتى اليوم.
١٤
ونحسب أن أمين الخولي قد أصاب الكثير من سويداء هذا الهدف.