حوار مع الفكر المتطرف
يبدو أول وأهم تطبيق مباشر لمنهجيات أمين الخولي — كشيخ أصولي — هو وضعها في مواجهة مع الفكر الأصولي المتطرف، الثبوتي الجامد المتحجر. إنهم يتمسكون بحديث الفرقة الناجية من النار — الذي شكك في صحته، وفي جواز الاستدلال به ابن حزم الأندلسي وآخرون — تمسكوا به ليلزموا الطرف الأقصى الواحد والوحيد، رافضين كل المتغيرات في تدرجاتها إلى أطراف أخرى تشكل جميعها الواقع، ثم اتخذ هذا الرفض شكلًا تمخض عن ظاهرة الجماعات الإسلامية المتطرفة التي نتأت بارزة في السنوات الماضية لتضمخ واقعنا بالدماء والإرهاب وترويع الآمنين باسم الإسلام!
لقد أمكن تحجيمها إلى حد كبير في مصر، بفضل ما تملكه من قوى الاستنارة العقلية والقدرة على التلقي السديد لرسالة الدين، والدين فيما يقال اختراع مصري، نشأ أول مرة على ضفاف النيل، لكن الجماعات المتطرفة ما زالت تمارس فعلها في أنحاء شتى من العالم العربي، والعالم الإسلامي، فيتحول الدين على أيديهم إلى قوة معوقة للتقدم والتطور، مثلما كان قوة لسفك دماء الأهلين في أعماق مصر الغالية. ولله في خلقه شئون!
واللافت حقًّا أن مكمن الخلاف بينهم وبين أمين الخولي هو عينه العلة التي جعلت الدين يتشوه على أيديهم هكذا. فبينما كان البعد المحوري في منظومة الخولي العقلية هو قدرة الفكر الديني على التجدد والتطور، لينساب تيارًا دافقًا في مسار التاريخ، قادرًا على استيعاب ومواجهة متغيراته، نجد الفكر المتطرف يقف في مواجهة يائسة بائسة مع التاريخ والتاريخانية.
إن التاريخ هو حجر العثرة الذي يتصاعد منه مستصغر الشرر ليضرم مستعظم النيران. فإذا كان الله تعالى قد جعل الإنسان تاج الخليقة وبطل الرواية الكونية؛ فذلك لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يصنع تاريخًا. التاريخ هو ما يجعل عالم الإنسان مختلفًا عن عالم الحيوان والنبات والجماد، الذي لا يعرف صنع المتغيرات ولا تراكماتها. التاريخ هو فاعلية الإنسان هو صيرورة الحضارات وسيرورة الثقافات، هو التغير الذي جعل الإنسان الكائن الوحيد الذي يدرك معنى الزمان ويصنع له حسابًا، فكان الوحيد الذي يعرف معنى الصعود والتقدم واختلاف الأمس عن اليوم.
ومهما كانت نوايا الجماعات المتطرفة، ومهما كانت أهدافهم وأسانيدهم، فإن الخطأ المحوري في استدلالاتهم الذي يؤدي إلى هذا الاصطدام الدامي العقيم مع الواقع لهو في إنكار تلك التاريخانية.
بداية، إذا كان الواقع مأزوم، فكلنا يجب أن نعمل على تجاوز الأزمة، بآفاق فكر نهضوي — لا يمتنع أن يكون دينيًّا — وبمجالات عمل تنموي لا يقتصر على أن يكون اقتصاديًّا. التنهيض والتنمية هما الشكلان الإيجابيان لرفض أزمة الواقع، كلاهما يسير على معامل التغيرات في مسار التاريخ، بحثًا عن الأفضل والأجدى.
مشكلة الجماعات الإسلامية المتطرفة أنها لا ترفض الواقع المأزوم فحسب، بل تدفعها الثبوتية إلى رفض المتغيرات أيضًا وأصلًا، انطلاقًا من رفض التاريخانية، فيطابقون بين الدين وبين التراث، بين الثابت وبين المتحول، بالتحديد بين الإسلام وبين الفتاوى لابن تيمية، وتلخيصها في (الفريضة الغائبة)، نيل الأوطار وفتح القدير لتلميذه الشوكاني، وكتب ابن القيم الجوزية، وفتح الباري للعسقلاني، والمحلى لابن حزم، المغني لابن قدامة. حتى المصطلحات الأربعة: الحاكمية والألوهية الربانية والوحدانية للمودودي … وصولًا إلى «معالم على الطريق» لسيد قطب. معظمها أعمال قيِّمة، لكن تنبع قيمتها من قدرتها على تمثيل روح عصرها والاستجابة لمتطلباته وتحدياته التي تختلف عن متطلبات وتحديات عصرنا. كلها خارجة من الثابت في حضارتنا: الكتاب والسنة، لكنهم ليسوا أوصياء علينا، ونحن لسنا قاصرين عاجزين عن الإبداع والاجتهاد مثلهم، والخروج من هذا المعين الثابت بما يسد حاجات عصرنا. وكما قال إمامنا شيخ الأصوليين في التجديد وفي مراعاة تاريخية الوضع الإنساني، كما قال أمين الخولي: لهم عصرهم ولنا عصرنا، نتعلم منهم ولا نحذو حذوهم النعل بالنعل.
ينفعنا الآن أبو المنهج التجريبي فرنسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦) فقبل أن يعرض للمنهج يبدأ بالتحذير من أربعة أنواع من الأخطاء، أو الضلالات المتربصة بالعقل البشري لتحول بينه وبين سلامة الاستدلال المنهجي، أسماها بيكون «الأوثان الأربعة». النوع الرابع «أوثان المسرح» النابعة من الافتنان بممثلي أو أعلام الفكر السابقين، وكما ينبهر متفرج المسرح ببراعة الممثل في تجسيد الدور (أو براعة المفكر في تجسيد روح عصره ومتطلباته) ينسى المتفرج واقعه ومشكلاته، يتألم لمآسي الممثل ويفرح لظفره بالمحبوبة، حتى وإن كان بين المتفرج ومحبوبته فراسخ وأميال!
كذلك تعيش الجماعات المتطرفة في واقع تلك المصنفات التراثية، التي كانت نتاجًا أو استجابة لظروف حضارية انتهت منذ قرون عديدة، ملغين ظروفنا وواقعنا، ولا يلتفتون إلى أن فتاوى ابن تيمية لمواجهة المغول لا تصلح لمواجهة أمريكا ومجلس الأمن، وأن معالم سيد قطب كانت على طريق الاصطدام مع التجربة الناصرية الاشتراكية التي أضحت الآن أثرًا بعد عين.
من هنا يتصاعد الشرر، من المطابقة بين الدين والتراث، بين العقائد من ناحية ونواتج الجهد البشري في مرحلة تاريخية معينة، من ناحية أخرى فيريدون صياغة الحاضر على غرار الماضي، من حيث المحتوى المعرفي والمفاهيم، حتى تفصيليات الأنماط السلوكية. تنشغل إسرائيل بالأسلحة النووية والقنابل الذكية، وينشغلون هم بالشهب والحراب على من حرم النقاب، متصاغرين متخاذلين في التحدي الحقيقي أمام الآخر الغربي الذي نزع النقاب عن المادة ليكشف الذرة، ثم نزع النقاب عن الذرة ليكشف الجسيمات، ثم نزع النقاب عن الجسيمات الذرية ليكشف — أخيرًا — الكواركات، ولا يكتفي أبدًا. أي النقابين الانشغال به الآن عند الله وعند عباده خير وأبقى! فالمطابقة الخاطئة بين الإسلام وتراثه تضر الإسلام قبل سواه؛ لأنها تفرض فيه تحجرًا عند مرحلة تاريخية أسبق، تحجرًا زائفًا لا يوجد إلا في عقولهم. فالدين رسالة، مسئولية أبت أن تحملها السموات والأرض وحملها الإنسان، إنه إيجابية؛ أي عمران ونماء وتطور.
بهذا المفهوم المتحجر للدين يصرون على أن التراث حاضر اليوم وفاعل، استمرارًا للماضي في الحاضر، والزمان يسجل لحظات كمية لا كيفية فيها. هذه رومانتيكية صريحة (الرومانتيكية عادة تضرج في الدماء لأسباب مختلفة) رومانتيكية اللياذ بالعوالم الذاتية المنفصلة عن العالم الموضوعي المشترك، رومانتيكية العجز عن الفكر الخلاق والفعل الإيجابي، رومانتيكية التضاد مع العقلانية. من هنا كانت ضد التنوير، بل هي الإظلام بعينه؛ الإظلام هو تغييب الواقع. وبهذا يشحذون سلاح الخصم، فلن يعود الدين — كما يقول أعداؤه — أفيونًا للشعوب لأنه مخدر لها بأفكار أخروية فحسب، بل أيضًا لأنه اغتصاب للواقع وتغييب للآن، إلغاء للزمان ونفي فكرة التقدم، مخالفين صحيح السنة، حيث اعتبر الرسول عودة ساكن الحضر إلى البداوة والعيش مع الأعراب (ارتداد على العقبين) كبيرة من الكبائر صاحبها كالمرتد. كيف ولماذا ينفون التقدم الحضاري؟
بل إنهم يفعلون بالتقدم ما هو أكثر من النفي، إذ يعكسونه، يجعلونه قهقريًّا بالعود إلى الوراء، مستندين إلى فهم تعسفي أو تحجري للحديث الشريف: «خير القرون قرني …» ملغين مفهوم المثل الأعلى، ومنكرين أن الحضارة مسار تراكمي. إنهم يفضلون القرون الأربعة الأولى. وكلما سرنا قدمًا مع التاريخ سرنا مع انهيار تدريجي متوالٍ لتلك الذروة التقدمية، ليكون عصرنا أدنى درجات الانهيار، وكل عصر آتٍ درجة أدنى، ما لم يحدث التقدم القهقري بالرجوع إلى الوراء واللحاق المستحيل بعصر ولَّى وفات.
من هنا كانت «الماضوية» محورهم. إنهم يعتبرون اللحظة الماضية منطلق الحلول للحاضر والمستقبل، فيكون الماضي هو الفاعل الوحيد، المبتدأ والخبر. مرة أخرى يضرون الإسلام قبل سواه؛ لأن الماضوية التي ترفض الحاضر والمستقبل تقف في مربع واحد مع الأسطورية التي تعلو على التاريخ، ولا تعترف بالزمان أو بأبعاد المكان. أهذا ما ينشدون؟ ألهذا يغمضون العيون ويصمون الآذان عن كل متغيرات؟
في كل حال ينبثق فكر الجماعات المتطرفة عن كراهية الواقع، ونفور من الحاضر، وعجز عن التعامل معه، حتى شكلها الحنين الدافق والهيام الرومانتيكي المشبوب بالماضي، فتلوذ بعوالمه المنفصلة، متوهمةً إحياء الدين في الواقع وإحياء الواقع في الدين، وهي في حقيقة الأمر تدمر الطرفين معًا، تدمر الواقع حين تنفيه أو تتصور إمكانية نفيه بكل زخمه وإنجازاته وعثراته وتحدياته المستجدة، وتفر إلى واقع انتهى منذ قرون. وتدمر الدين حين تنفي عنه الحياة والقدرة على التواصل والاستمرارية، وأن يؤدي مهامه حين تختلف الأزمنة والأمكنة.
هكذا تنتهي منظومتهم إلى تدمير — أو على الأقل — استلاب الحياة والفاعلية من الدين والواقع على السواء، وهذه محصلة طبيعية، ما داموا ينطلقون من التسليم باغتراب الواقع عن الدين، واغتراب الدين عنه، كوضع منتهٍ، لا مخرج منه إلا بالنفي، نفي الواقع، بمعنى السلب أو اللا أو التكفير والهجرة، ونفي الدين إلى عوالم أخرى ماضوية، يتصورونها أكثر حضورًا من أي حاضر، ولله في خلقه شئون!
والآن، ما العمل؟ كيف نخرج من ذينك الطرفين الدين/التراث، والواقع/الأزمة، ليس بما يدمر أحدهما أو كليهما، بل بالمركب الحضاري المنشود القادر على الاستيعاب والتجاوز؟
ليست الإجابة في تجفيف الينابيع، كما يرى دعاة سوق شيمون بيريز الشرق أوسطية التي يزعمون أنها ستأتينا بالمن والسلوى. الينابيع غير قابلة للتجفيف ولا التهميش، فنحن الأمة الوحيدة في العالم التي تتحدث نفس لغة نصوصها السماوية والمقدسة، واللغة ليست وعاءً بل هي نسيج التفكير والوعي. الدين غريب ومغترب عن أوروبا، والحضارة الغربية أتاها من حضارة أخرى، من المشرق. الدين هو صلب خصوصيتنا وعماد هويتنا القومية ومكنون مخزوننا النفسي، بناؤنا القيمي، فحوى الأعراف … باختصار لب أيديولوجيتنا، ولا حل لمشاكلنا بدون تغذية منابع الفكر الديني بكل ما نملك من زاد، لتتدفق فيها كل ما في شراييننا من دماء الحياة والبحث والتفكير والإنجاز، لنكون أقدر من أسلافنا في التعامل مع الثوابت: الكتاب والسنة، تعاملًا اجتهاديًّا فتيًّا دافقًا متجددًا. بهذا فقط نملك واقعنا، ونعيش عصرنا بأن نجتهد ونبدع مثلهم وأكثر، لكي نسد حاجات عصرنا، مثلما سدوا هم حاجات عصرهم، فيكون التواصل الحقيقي معهم، واستمرارية تاريخنا صعوديًّا لا دائريًّا.