التفكير العلمي
مهما تمخضت مسالك العلماء في النهاية — أو في تطبيقاتها — عن إنجازات تلغي الزمان والمكان، كالسفر بسرعة الصوت والتواصل بسرعة الضوء، وغزو الفضاء والذرة وتحويل مجاري الأنهار، اخضرار الصحاري، ومقاومة الأمراض، ومداواة العاهات الجسدية والنفسية والاجتماعية، تتابع أجيال الحاسوب، ثورة الهندسة الوراثية واستنساخ الكائنات الحية، مهما تحققت إنجازات تتضاءل بجوارها معجزات الأساطير، فسيظل المغزى الأعظم لمسلك العلماء أنه بلورة مستصفاة وتجسيد متعين لتعقيل السير نحو الهدف، لطريقة التفكير المثمرة السديدة الملتزمة بالواقع والوقائع، والتي تُعرف باسم التفكير العلمي.
وكل لحظة تشهد بتصديق مستديم على أن التفكير العلمي هو أنجح وسيلة امتلكها الإنسان للسيطرة على واقعه. إنه السبيل إلى الظفر المبين في خضم عالم الواقع ومشكلاته.
لذلك نلاحظ أن التفكير الرياضي يُنعت أساسًا بأنه تفكير منطقي، أما التفكير العلمي بألف ولام التعريف، فهو أسلوب التفكير المتعين والمتجسد في العلوم التجريبية؛ أي العلوم الإخبارية التي هي منظومة متوالية من الأبحاث الممنهجة، تنتج وتعيد إنتاج وتصوب وتنقح وتدقق وتعمم … المعرفة التي تضطلع بالوصف والتفسير والتنبؤ ثم السيطرة على ظواهر العالم الواقعي المعاش والمشترك بين الذوات أجمعين. هذا العالم الواقعي المعاش هو المعامل الأولي للحضارة، ولمجرد حضور الإنسان في هذا الكون، لكن تتوالى في إثره سائر الأبعاد والخصوصيات والعموميات والآفاق الحضارية.
العلوم الإخبارية التي تضطلع بهذا العالم الأولي الفيزيقي عديدة، فيزيوكيماوية وحيوية وإنسانية، فروعها شتى ومناهجها أو أساليبها التجريبية التخصصية تعد بالعشرات، ثم يأتي التصور الفلسفي العام لصلب التفكير العلمي ليقف على المعالم المحورية والثوابت البنيوية في شتى متغيرات الممارسات العلمية، ليعطينا الأساس العام أو خلاصة التفكير العلمي وفحواه، فيما يُعرف بالعقلانية التجريبية.
•••
التفكير العلمي هو العقلانية التجريبية، هو — كما ذكرنا — تجسيد لطريقة التفكير المثمرة السديدة الملتزمة، للعقل حين يرسم سبلًا موجهة ناجحة، حين ينطلق بمجمل طاقاته وقدراته أقصى انطلاقة في محاولاته الجسورة لوضع الفروض العلمية، لكنها دونًا عن كل انطلاقات العقل ملتزمة بالواقع — بما تنبئ به التجربة — لتتعدل الفروض أو تُقبل أو تُلغى وفقًا له … أسلوب التفكير العلمي التجريبي ينصت لشهادة الحواس ومعطيات الوقائع، فتعين موضع الخطأ والكذب في الفرض حين يتعارض معها، يتم تصحيحه والبحث عن فرض جديد متلافٍ لذلك الخطأ، يُعرض بدوره على محكمة التجريب، ويتم تعديله بفرض جديد. وهكذا دواليك في متوالية لتقدمٍ لا يتوقف أبدًا، حتى ليكاد يكون البحث العلمي هو التمثيل العيني لمقولة التقدم.
كل إجابة يتوصل إليها العلم تطرح تساؤلات أبعد، فيؤدي كل تقدم إلى تقدم أعلى. ومهما علونا في مدارج التقدم لن تغلق المعامل أبوابها، ولن ينتهي البحث العلمي أبدًا، بل يزداد حمية ونشاطًا في سعيه الدءوب المتخطي دومًا لحاضره، مغيرًا إياه.
فليس العلم بناءً مشيدًا من حقائق قاطعة، بل هو نسق من فروض ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، أجدر وأقدر على الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة. كل يوم جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيلغيه أو على الأقل يستوعبه ويتجاوزه، ويقطع في طريق التقدم خطوة أبعد منه، في صيرورة تغير مستمر إلى الأقرب من الصدق، الأفضل والأقدر.
في خضم هذه الحركية التقدمية تقوم وقائع التجريب بدور ناقد قاس لا يعرف الرحمة حين تعيينه لمواضع الخطأ، دور الفيصل والفاروق بين الصدق والكذب، القاضي الحاتم ذي الحكم الموجب النفاذ. إنها مسئولية عسيرة أمام الواقع والوقائع، الاضطلاع بها هو أسلوب التفكير العلمي، فهو التآزر الجميل المثمر الخصيب بين العقل والتجريب، الفهم والحواس، اليد والدماغ، الفكر والواقع، إنه العقلانية التجريبية.
هكذا يستقي التفكير العلمي أرومته من قلب معامل العلماء ومعترك كفاحهم الضاري والنبيل، لكنه ينصب في قلب البناء الحضاري ليس البتة كتقنية خاصة بذوي الاحتراف، بل كبلورة للتفكير المثمر السديد الملتزم — كما ذكرنا — بالواقع والوقائع، لتعقيل السير نحو الهدف. فضلًا عن أن التفكير العلمي يعني الالتزام بقيم منشودة في التعامل مع الواقع المتعين، قيم من قبيل التخطيط والتفكير الممنهج والإبداع والتنافس لحل المشاكل في تعددية الرأي والرأي الآخر، ثم الالتجاء لمحك الواقع المشترك بين الذوات أجمعين للفصل بين المتنافسين. والأهم من هذا نجد البحث الدءوب عن الأخطاء والقصورات الكائنة في كل محاولة إنسانية، والمجال المفتوح دومًا للنظرية أو المحاولة الأقدر والأجدر والتقدم الأعلى والاقتراب المستمر مما هو أفضل. وهذا يعني الاحتمالية والنسباوية والراهنية المؤقتة لأية خطوة تتم أو إنجاز يحرز.
لكل هذا كان التفكير العلمي هو أنجح وسيلة امتلكها الإنسان في التعامل مع الواقع، على المستويين العلمي والعملي. لكن لنضع خطًّا بل خطوطًا تحت لفظة «الواقع».
فلئن امتلك أسلوب التفكير العلمي كل هذه الفعاليات، فلا ننسى أبدًا أنه في كل مستوياته — أي العلمية والعملية — ينصب على العالم الواقعي أو الكون الفيزيقاني. وإذا كنا قد اتفقنا على أن هذا العالم الواقعي أو هذا المستوى من الوجود هو الأولي المُعاش المشترك بين الذوات، فإنه بالتأكيد ليس المستوى الأوحد لوجود الإنسان، بل يتميز الإنسان عن أي موجود آخر بتعدد مستويات الوجود التي تتراوح بينها أبعاد تجربته الوجودية الفريدة الثرية. وبخلاف العالم الواقعي الفيزيقي ثمة العالم الممكن والمرجو، عالم ما ينبغي أن يكون، عالم العاطفة والوجدان، عالم القيم والمُثل، عالم الفن الاستطيقي، العالم الميتافيزيقي، العالم الأيديولوجي، وأخيرًا عالم الغيب.
إذن فليس في العالم الواقعي الفيزيقي وحده يحيا الإنسان، وبالتالي ليس بالعلم وحده يحيا الإنسان، بل بتآزر سائر أبعاد تجربته الحضارية العلم والدين والفلسفة والقيم والفن والأيديولوجيا … الحضارة الراشدة الناضجة تعني تفتح وتفاعل وتآزر سائر هذه الأبعاد، ما دامت جميعها تهدف إثراء الإنسان ووجودًا أكثر اكتمالًا وأكثر إشباعًا. ولا شك أن الصراع بين جانبين أو أكثر من جوانب الحضارة يعني قصورًا وأزمة يجب العمل على تجاوزها. بعبارة مباشرة، نتفق جميعًا على الاحتياج الحضاري للعلم والدين معًا، وليس مجديًا البتة التضحية بأيها على مذبح الآخر.
هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإنه مثلما تبدت لنا فعاليات التفكير العلمي، فقد تبدت أيضًا سماته التي تتبلور في الاختبارية والقابلية للتكذيب والنسباوية والاحتمالية. ومن الواضح أنها تتناقض تمامًا مع سمات التفكير الديني التي تتبلور في التسليم والتصديق والمطلقية واليقين.
إذن تنتهي الآن إلى اختلاف طبيعة التفكير العلمي عن طبيعة التفكير الديني، مع التسليم باحتياج الحضارة الإنسانية إلى كلا الأفقين: الدين والعلم.
على هذا الأساس نناقش قضية علاقة التفكير العلمي بالاستنارة الدينية. ولن نخوض الآن في محاولات لتعريف وتحديد مفهوم الاستنارة الدينية، وقد أعطانا أمين الخولي تمثيلًا عينيًّا لها، ونكتفي بالاتفاق على الأساس العام للاستنارة في كل صورها، الذي يعني النظر بعين الاعتبار للعقل الإنساني ولقدراته وإمكانياته المتوالية دومًا، وبالتالي الانفتاح على متغيرات الواقع، والقدرة على الاستماع للرأي الآخر. هذا في مقابل الدوجماطيقية — أي التطرف — التزام الطرف الأقصى الواحد والوحيد وإنكار كل ما عداه، والانغلاق على قطعيات متصلبة عمياء، أو على ظاهر النصوص الدينية.
إن الهيرومنيوطيقا التي نشأت أصلًا في أعطاف اللاهوت، وترعرعت في أفياء البروتستانتية تكاد تكون تمثيلًا منهجيًّا للاستنارة الدينية، ولقدرة الدين، الذي يرتكز دائمًا على النص، قدرته على الانبثاق مجددًا مع كل طلعة شمس، وقدرته على البقاء والاستمرار وأداء المهام الروحية المنوطة به، مهما تعمقت متغيرات حضارية أخرى، على رأسها العلم. مما يعضد موقف الاستنارة الدينية، ويطرحها كهدف متاح ذي طريق ممنهج أو مرسوم. وإذا نظرنا نظرة عميقة تعود إلى الأصول، وأخذنا في الاعتبار أن النص الديني في حضارتنا العربية يمثل الأساس المكين للمنطلقات القيمية والتوجهات الحضارية، أمكنا عن طريق القراءة المتجددة للنص أن نعمل على تجذير وتوطين ظاهرة العلم الحديث في أصوليات حضارتنا. وسنعالج هذه القضية فيما بعد، في الفصل الأخير.
•••
ونعود الآن إلى السؤال المُلح، فمع التسليم بالاختلاف بين التفكير العلمي والتفكير الديني، وبالاحتياج لكليهما، أولًا: ما هي علاقة الاستنارة الدينية بالتفكير العلمي؟ وثانيًا: كيف يمكنها الاستفادة من أبعاده؟
الإجابة على هذا في أن الموقف الديني المستنير موقف حضاري راشد، يدرك خاصية الاستقلال والتميز التي يتسم بها العلم والبحث العلمي والتفكير العلمي. فقد ترسمت شرائع العلم ونواميسه، وتعقدت آلياته وشق طريقه المظفر كفعالية إنسانية مستقلة، بمعنى أنها تحمل في صلب ذاتها حيثياتها وإمكانيات تناميها وفاعلية عوامل تقدمها المطرد، في طريقها ذي المعالم الواضحة.
موقف الاستنارة الدينية هو الذي يعترف بهذه الاستقلالية، ويدرك أنه لم يعد مجديًا ولا مقبولًا ولا حتى معقولًا أية ملاحقة للعلم أو مصادرة أو تهميش له، أو محاولة لفرض الوصاية عليه. فندع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، ما للعلم للعلم، وما للدين للدين. وينفسح المسرح الحضاري للعلم والدين معًا.
أما عن كيف تستفيد الاستنارة الدينية من أبعاد التفكير العلمي، فالاستفادة تكمن في تحقيق هذا الهدف؛ أي الاعتراف باستقلال العلم.
كلا الاتجاهين عقيم، الاتجاه المثمر هو المستنير الذي يدرك استقلالية العلم ويعترف بها، ويعرف أن طريق العلم يختلف عن طريق الدين، وكل الطرق في تشعبها وتوازيها وتكاملها، تؤدي إلى حضارة إنسانية ثرة.
•••
وأخيرًا لنا أن نطالب التفكير العلمي بمثل هذه الاستنارة، وأن يعترف هو الآخر باستقلالية وحرمة المجال الديني، ويدرك حدود وقصورات التفكير العلمي، ولا يتهور في نفي ما يتجاوزها.
ويحضرنا في هذا الصدد فيلسوف العلم المتمكن «بول فييرآبند» (١٩٢٤–١٩٩٤) الذي تساءل بدهشة: هل العلم الغربي المجيد مطية للعقم والخواء والإجداب ونفي ما عداه من جوانب حضارية أخرى؟ إن حرمنا الإنسان منها أصابه تصحر وجفاف لا يطاق.
لأن الإنسان في حاجة إلى العلم وإلى الدين، فهو في حاجة لاعتراف كليهما بالآخر، والاستقلالية والاحترام المتبادل بينهما، تلك هي الاستنارة الدينية والعلمية على السواء.
وقد صدرت له ترجمة عربية بعنوان: قصة العلم، ترجمة يمنى الخولي وبدوي عبد الفتاح، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ١٩٩٧.