أول التجديد
من منظور فلسفة العلوم الطبيعيات في علم الكلام الجديد١
نتفق في لقائنا هذا على الهوية الإسلامية، والإطار الإسلامي كمنقذ لنا من الانسحاق الحضاري والضياع الثقافي في طوفان ما نعانيه من تخلف وعوز وتراجع وتمزق وتبعية، شريطة أن يكون إطارًا قادرًا على التلاؤم مع روح العصر المتأزم بإشكالياته الخاصة، والناهض في وجه تحدياته المستجدة. من هذه الفكرة المبدئية البسيطة ينطلق المشروع التركيبي الضخم لإقامة علم الكلام الجديد.
والأطروحة التي أتقدم بها الآن تهدف إلى انضباط وضع الطبيعيات في منظومة علم الكلام الجديد المعاصر لعصر أميز ما يميزه أنه جعل الطبيعة والسيطرة عليها واستغلالها وتسخيرها الحلبة الأولى لمعركة التفوق بين الحضارات. وكان من الضروري جعل فلسفة العلوم المدخل لهذا باعتبارها التمثيل العيني والرسمي، وأيضًا الوحيد للتفكير المعاصر في الطبيعة، إن رمنا قهرًا لتحدياتنا وتقدمًا نريد من علم الكلام الجديد أن يكون الإطار الأيديولوجي له.
ومجرد البحث في علم الكلام الجديد يعني ضمنًا استيعاب وتجاوز علم الكلام القديم، استيعابه لأنه التراث الذي يمثل المخزون النفسي والنسيج الشعوري والبناء القيمي، ثم نتجاوزه لأنه نتج عن ظروف تاريخية انتهت وتخلقت ظروف مباينة تمامًا. إن جدلية الاستيعاب/التجاوز هي القادرة على شق طريق علم الكلام الجديد.
إذن نخلص إلى وضعية لهذا العلم مسلحة بالقطيعة المعرفية. على أن القطيعة المعرفية الآتية عبر الطريق الجدلي من المفاهيم الأساسية في فلسفة العلوم المعاصرة. فهكذا ابتدعها «باشلار» ليبلور الوضع التقدمي بعد ثورة العلم العظمي في مطالع القرن العشرين، ثورة النسبية والكوانتم والفيزياء الذرية التي قوضت عالم نيوتن الميكانيكي، ومسلمات الفيزياء الكلاسيكية، وانطلقت بمفاهيم ومناهج مناقضة تمامًا لتتضاعف معدلات التقدم العلمي في متوالية. من هنا تمثل القطيعة المعرفية أداتنا للربط، بل والتفاعل بين طبيعيات علم الكلام وفلسفة العلوم.
وتجد القطيعة المعرفية لعلم الكلام الجديد بيانها وإعلانها في أن الهدف من العلم القديم، والغاية التي يجتهد كي يصلها هي إثبات العقيدة. وقد حُسمت هذه القضية، وانتهى زمان أو على الأقل خطر اللجاج فيها من قبل العقائد المخالفة، وأصبح الوضع معكوسًا في مرحلتنا الحضارية، فالعقيدة المثبتة هي نقطة البدء التي يسلم بها ويسير على أساسها علم الكلام الجديد. وبعد أن كان الإنسان والعالم المخلوق فيه مقدمة لإثبات وجود الله الواحد أصبح الله الأحد والعالم الخالق إياه مقدمة مثبتة نجاهد كي ننتهي منها إلى إثبات حضور الإنسان المسلم في تيار التاريخ. على هذا الأساس يتحدد موضوع الطبيعة في علم الكلام الجديد.
هكذا رسم المتجه الإلهي طريقًا سائرًا من المعرفة إلى الطبيعيات إلى الإلهيات، أو من الإبستمولوجيا إلى الأنطولوجيا إلى الثيولوجيا، فتقوقعت الطبيعيات في قلب الأنطولوجيا — نظرية الوجود — وانقطعت الصلة أو كادت بينها وبين الإبستمولوجيا — نظرية المعرفة — التي تكرست للاستدلال على العقائد وإثباتها.
وها هنا في أنطولوجية الطبيعيات الكلامية تكمن المهمة التي توجب القطيعة المعرفية، فثمة خطر يتمثل في أن الطبيعيات المعاصرة؛ أي النظريات الفيزيائية ذات دلالة أنطولوجية أي وجودية، أو منصبة على الوجود، فالتحقق الواقعي للفرض والإنصات لوقائع الوجود هو ما يميز العلم التجريبي الحديث. فهل سندخل في لجاج حول التقارب والتلاقي الأنطولوجي بين الجانبين. إن هذا يجعلنا ننشغل بالمحتوى المعرفي والمضمون الإخباري للنظريات، في حين أن المحتوى في نسق العلم يمثل المتغير الخاضع دومًا للاختبار والتكذيب والتصويب، ومن ثم التقدم العلمي المتتالي، مما يجعل العلم بناء صميمًا طبيعته الصيرورة والتغير، والبقاء فقط للمناهج القوية المثمرة الولود لكل ما يترى من تغير وتقدم. إن البقاء للجهاز الإبستمولوجي — أي المعرفي — الذي هو موضوع فلسفة العلوم.
ولكن نظرية علم الكلام الجديد أو جهازه الإبستمولوجي هو في جوهرة تخطيط أيديولوجي. فهل سننقل الطبيعة من الأنطولوجيا إلى الأيديولوجيا. إن التفكير العلمي الطبيعي له جهازه الإبستمولوجي الخاص به والمطروح في فلسفة العلوم؛ والمطلوب أن نبحث عن حلقة الوصل بينه وبين نظرية علم الكلام الجديد لينضبط وضع الطبيعيات في منظومته.
ويمكن أن نجد هذا في منطوق تعريف حسن حنفي للعلم تعريفًا فينومينولوجيًّا بوصفه دراسة بنائية فلسفية للإنسان من حيث هو إنسان، وتحليل أبعاده ووصف وجوده، فما يحدث في العالم الخارجي لا يمكن فهمه ومعرفته إلا من خلال الإنسان.
وهنا هنا نجد حلقة الوصل والمدخل المفضي إلى أحدث التطورات في فلسفة العلوم الطبيعية ومناهجها. فقد انهار المنهج الاستقرائي الذي يقوم على الملاحظة ثم تعميمها في فرض واختباره. ولا حاجة إلى الإنسان المبدع الخلاق، وأصبح المنهج المعاصر هو المنهج الفرضي الاستنباطي الذي يهبط من الفرض إلى وقائع التجريب، فلن يبدأ البحث العلمي إلا بفرض يبدعه العالم الموهوب، يتلوه فرض آخر أنجح وهكذا في متوالية التقدم. فليس العلم اكتشافًا لحقائق مطلقة، بل محض سلسلة من فروض ناجحة.
فهل يستطيع علم الكلام الجديد أن يفسح لنا الحلبة ويلقي في روعنا العزائم والجسارة لخوض أمثال هذه المغامرات؟