بيئة ابن سينا
المكان الذي يولد فيه الإنسان وينشأ ويتربَّى، والحال التي يسير عليها وتطبع في نفسه ميزات خاصة من البيئة، ولقد أقرَّ علماءُ البيولوجية على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم أن للبيئة في حياة أبناء آدم أثرًا بالغًا لا توصف محاسنه إذا كان حسنًا، ولا تُحصى مساوئُهُ إذا كان سيئًا حتى قيل: «المرء ابن بيئته.» لذا نرى الدول الراقية قد سنَّت القوانين الصارمة للقضاء على البيئة الفاجرة الخاملة، وشيَّدت المدارس والمعاهد لمكافحة الجهل والغواية، فرفعت بذلك مستوى شبانها صحةً وعقلًا؛ لهذا إذا شئنا أن نفهم حياة الشيخ الرئيس العامة والخاصة، يلزمنا أن نقول كلمةً ولو وجيزة في بيئته مقسِّمينها قسمين: البيئة السياسية، والبيئة العقلية.
(١) البيئة السياسية
إن أردنا بإسهاب تصوير البيئة التي وُجد فيها أرسطو الإسلام؛ لاقتضى ذلك مجلَّدًا برأسه؛ لذلك نكتفي بما يدل على الجوهر، ويعطي الدارسَ فكرةً واضحة.
كانت العناصر الأجنبية قد عصفت بالدولة العبَّاسية يوم أطل ابن سينا في جو الوجود، وأهم هذه العناصر التي ضعضعت أركان الإمبراطورية العربية هي الفارسي والتركي.
إن تدخل العنصر الفارسي في الدولة العباسية يرجع إلى مقتل الأمين ١٩٨ﻫ وانتصار المأمون، وقد كان للفضل بن سهل اليد الطولى بذلك، وظل الفرس يستبدُّون بالدولة، وهم من وزرائها المشاهير حتى تلاشى أمر الشيعة من بغداد، ثم بخلافة المتوكل ينقضي العصر الفارسي الأول.
ما كاد يتقلَّص ظل هذا العصر الثقيل عن الدولة العربية حتى مُنيت بالعصر التركي الأول. ومظالم الأتراك في الدولة، واستبدادهم بشئون الخلفاء قد فاق الفرس بدرجات؛ مع أنه ليس بين هذين العصرين حد فاصل ينتهي إليه الواحد ويبتدئ منه الآخر؛ بل هما تعاصرا مدة كان الأول في أواخره، والآخر في أوائله.
إن أول من استخدم الأتراك في الجندية من الخلفاء كان المنصور العباسي، إلا أنهم في بادئ أمرهم كانوا ثلةً لا يُعبأ بها، وإنما كانت السيطرة آنذاك للفرس والعرب، ولمَّا اشتد التنافس بين العرب والفرس في أيام الرشيد، واتسعت شُقَّة الخلاف بينهما، وذهبت سطوة العرب بذهاب دولة الأمين، وتسلُّط الفرس أنصار المأمون وأخواله. ضعفت العصبية العربية بسبب توغُّل العرب في الحضارة والترف، ونأت عن عقليتهم محبة الجهاد والتغلب والفتح، ففكَّر المعتصم أخو المأمون في ذلك قبل أن تفضي الخلافة إليه، وكانت أمه تركية وفيه كثير من طبائع الأتراك، مع الميل إليهم لأنهم أخواله، كما كان يميل المأمون إلى الفرس. وشاهد المعتصم من جرأة الفرس وتطاولهم بعد قتل أخيه الأمين حتى أصبح يخافهم على نفسه، ولم يكن له ثقة بالعرب وقد ذهبت عصبيتهم، وأخلدوا إلى الحضارة والترفُّهِ، وانكسرت شوكتهم، فرأى أن يتقوَّى بالأتراك، وهم لا يزالون إلى ذلك العهد أهل بداوة وبطش، مع الجرأة على الحرب، والصبر على شظف العيش، فجعل يتخيَّر منهم الأشدَّاء يبتاعهم بالمال من مواليهم بالعراق، أو يبعث في طلبهم من تركستان وغيرها، فاجتمع لديه عدة آلاف وفيهم جمالٌ وصِحةٌ، فألبسهم أثواب الديباج والمناطق والحلي المذهبة، وميَّزهم بالزي عن سائر الجنود.
فلمَّا أفْضَت الخلافة إليه كان الأتراك عونًا له، وتكاثروا حتى ضاقت بغداد عنهم، وصاروا يؤذون العوام في الأسواق فينال الضعفاءَ والصبيانَ من ذلك أذًى كثير، وربما رأوا الواحد بعد الواحد قتيلًا على قارعة الطريق. وكان المعتصم ينظم المماليك فرقًا، عليهم القوَّاد منهم مثل نظام الجند في ذلك الزمان، ولم يكتفِ بجمع المماليك والأتراك بالشراء أو المهاداة، ولكنه رغَّب أمراء الأتراك وأولاد ملوكهم بالقدوم إليه والإقامة في ظله، وممن جاء منهم على هذه الصورة جف بن بلتكين من أولاد ملوك فرغانة، وكانوا قد وصفوه له بالشجاعة والتقدم في الحروب، وأحضر غيره من أبناء الأمراء، وبالغ في إكرامهم.
وكان المعتصم شديد الرغبة في استبقاء أتراكه على فطرتهم، ويخاف تحضُّرهم واختلاطهم بالأمم الأخرى؛ فتذهب عصبيتهم، وتضعف نجدتهم؛ فابتاع لهم الجواري التركيات فزوَّجهم منهن، ومنعهم أن يتزوَّجوا أو يصاهروا أحدًا من المولَّدين إلى أن ينشأ لهم الولد؛ فيتزوَّج بعضهم من بعض، وأجرى للجواري أرزاقًا قائمة، وأثبت أسماءهن في الدواوين، فلم يكن يقدر أحد منهم أن يُطلِّق امرأته أو يفارقها. فاشتد ساعد الأتراك بذلك، وقويت شوكتهم، وتغلَّبوا على أمور الدولة، وخصوصًا بعد أن أنقذوا المملكة من بابك الخرمي، وفتحوا عموريَّة ونصروا الإسلام، فتحوَّل النفوذ إليهم، وبعد أن كانت أمور الدولة في قبضة الوزراء الفرس أصبحت في أيدي القواد الأتراك، أو صار النفوذ فوضى بين الوزراء والقواد، وكان كل فريق يسابق الآخر في ابتزاز الأموال بالمصادرات ونحوها.
وكانت الدولة قد تجاوزت طور الشباب، وأخذت في التقهقر، وانغمس الخلفاء في الترف والقصف، وعجزوا عن القيام بشئون الحكومة، فأصبحوا لا يبلغون منصب الخلافة إلا بالجند الأتراك، وهؤلاء لا يعملون عملًا إلا بالمال، فمن استطاع استخدام الجند ملك، ولا عصبية هناك، ولا جنسية، ولا جامعة دينية، ولا رابطة وطنية، فأضحى الأتراك محور تلك الحركة، وهم أهل شجاعة وحرب كما تقدَّم، وأمسى البطش والفتك من أكبر عوامل السيادة.
وقد قام الأتراك في الدولة بأعمال كثيرة مذمومة، منها: أنهم قتلوا المعتز شرَّ قِتلة؛ إذ إنهم جرُّوه برجله إلى الباب، وضربوه بالدبابيس، وخرقوا قميصه، وأقاموه في الشمس بالدار، فكان يرفع رجلًا ويضع أخرى لشدة الحر، وبعضهم يلطمه بيده؛ والمستكفي سملوا عينيه، ثم حبسوه حتى مات في السجن …
وكان أهل البلاد يهابون الأتراك ويخافون بطشهم، فإذا جاءوا بلدًا خافهم أهله كثيرًا؛ إذ كانوا ينزلون في دُور الناس، ويتعرَّضون للحرم والغلمان، فشرعت العامة تكرههم شديدًا.
ولمَّا وصلت الدولة العباسية إلى ما تقدَّم من فساد الأمور والفوضى في سلطتها وأحكامها بين الفرس والأتراك، أو بين الوزراء والأجناد، أو بين الخدم والنساء، وذهبت هيبة الخلفاء بما أصابهم من التضييق والاحتقار، هان على عُمَّالهم في أطراف المملكة أن ينفصلوا عنهم بأحكامهم الإدارية والسياسية، وأن يستأثروا بجباية الأموال، وجميع أعمالهم وهو الاستقلال، وكان أسبقهم إليه أبعدهم عن مركز الخلافة، ومن جراء ذلك تشعَّبت المملكة العباسية، ونشأ في ظل العباسيين دويلات فارسية وأخرى تركية، إلا أن الإمارات الفارسية لم تمكث طويلًا حتى قامت دولة آل بويه، وهي أكبر دولة فارسية شيعية ظهرت في الشرق في عهد ذلك التمدن بظل الدولة العباسية، واستمر حكم آل بويه من سنة ٣٢٠–٤٤٧ﻫ؛ أي إن هذه الدولة قد انقرضت في أيام ابن سينا.
وعلى غرار الفرس طبع الأتراك؛ أي إنهم لمَّا قويت شوكتهم في الدولة وهابهم الخلفاء، طمع بعضهم في الولايات كما طمع الفرس، فاستقلُّوا بها فنبتت للدولة العباسية فروع تركية خارج بلاد فارس، كما نبتت الفروع الفارسية في بلاد فارس. والدولة التركية التي عمرت أكثر من غيرها هي الدولة الغزنوية التي كان مقرها أفغانستان والهند، وظلَّت من سنة ٣٥١–٥٨٢ﻫ.
على أن هذه الإمارات ابتدأت فروعًا للمملكة العباسية؛ أي كان أمراؤها وسلاطينها من عمال الدولة العباسية أو قوَّادها. وكانت السُّنَّة قد تقوَّت بظهور الإمارات التركية، فلمَّا قامت دولة آل بويه بالعراق وفارس، وعاصرتها الدولة الفاطمية بمصر عظم أمر الشيعة في العالم الإسلامي، وتضعضعت السُّنَّة فتشتَّت شأن المملكة العباسية. ثم ظهرت الدولة التركية الكبرى في أواسط القرن الخامس، وتُعرف بالدولة السلجوقية نسبةً إلى جدِّها سلجوق، فجاءت في حال الحاجة إليها؛ لأنَّها لمَّت شعث المملكة العباسية، ونصرت مذهبها (السُّنة) بعد أن كادت تضمحل بين الشيعة، إلا أن هذه الدولة قد تفرَّعت أيضًا إلى دول كثيرة، لكنها عُرِفت باسم واحد.
تجاه هذه المنازعات السياسية نرى العرب يلمُّون شعثهم، ويشيدون الإمارات العربية، ويشدُّون أزر العنصر العربي، وقد ساعدهم على ذلك ما قام من الفتن والحروب بين الخلفاء العباسيين ووزرائهم الفرس وأجنادهم الأتراك في القرن الرابع للهجرة، ورأوا الفرس والترك يستقلُّون بولاياتهم فقلَّدوهم، فاستقلَّ آل حمدان من بني تغلب بالموصل وحلب وغيرهما سنة ٣١٧–٣٩٤ﻫ، وكانت دولتهم عربية أحيوا بها معالم الآداب، ثم وُجدت غير هذه دويلات عربية أخرى نضرب عن ذكرها خوف التطويل.
وبسبب هذا التقهقر السياسي تقهقرت الأخلاق والآداب، ولعلَّ التقهقر الخلقي كان عِلَّة التقهقر السياسي، وعمَّت الفوضى، وكثر الفحش والتهتُّك حتى في دور الخلفاء، وتعرَّض الشعراء للنَّيل من عِرض الملوك. قال أحدهم في الأمين:
في هذه البيئة المضطربة، في هذه البيئة الخالعة نشأ الشيخ الرئيس؛ فأثَّر ذلك في أخلاقه وآدابه، حتى لقد اتَّفق جمهور المؤرخين على أنه كان مع وفرة عِلمه وتوقُّد ذهنه متهتِّكًا فسوقًا كعامَّة أهل عصره … وفضلًا عن ذلك فإن البعض يقولون بأن ابن سينا من أصل تركي؛ ولذلك احتفلت جامعة إستنبول في ٢١ حزيران ١٩٣٧م بمرور تسعمائة سنة على وفاته، أما كارا دي فو فقد صرَّح أنه من أصل فارسي مستندًا في ذلك إلى كلام الرئيس عن ذاته.
(٢) البيئة العقلية
هذه هي البيئةُ العقليةُ التي أحاقت بالشيخ الرئيس؛ انشغافٌ بالحكمة، محبةٌ للعلم، نضوجٌ في الفكر، تعدد المترجمين والشرَّاح، تشعُّب في الآراء والنظريات، امتزاج القديم بالجديد، طريق صعب للتفكير الحر الطليق. وبالجملة إن ابن سينا فتح عينيه على مملكة الفلسفة والعلم، فوجد موادَّ مبعثرة، فيها الغث والسمين، الجيد والرديء، فحاول تحليل عناصرها، وتمحيص دقائقها، واكتناه أسرارها، ومعارضتها بعضها ببعض، فنبذ منها ما وجب نبذه، وأبقى ما رآه صالحًا لبناء صرح فلسفته.
أجل إن ابن سينا قد اتبع الفارابي في أكثر آرائه — كما سترى في هذا الكتاب — ولكنه مع ذلك قد ضرب عرض الحائط بالقسم الكبير من تعاليم أستاذه كفلسفة الوفاق مثلًا، وعدم قيام المدينة الفاضلة؛ لأنه كان ناقدًا بصيرًا ومنطقيًّا قديرًا.