العناية الإلهية
إن أقوال ابن سينا في العناية الإلهية جد متناقضة، فبينا نشعر بأنه يشرح هذه القضية شرحًا يلائم نظريته الصدورية، وينافي القرآن وسائر الكتب الدينية، نراه من جهةٍ أخرى يتملَّص من تبعة آرائه المضلِّلة مؤمنًا بأن الله تعالى يدبِّر كل شيء، ويعتني بكل شيء مما في السموات والأرض بعناية مطلقة.
١
إن كل مثقَّف يقرأ بإمعان مصنَّفات ابن سينا الفلسفية يتوضَّح له أن حكمته — أساسيًّا — هي مزيج من التعاليم الأفلاطونية والأرسطوية مع بعض زيادات وتعديلات تتفاوت قيمةً ووزنًا بتفاوت الموضوعات التي قرَّرها. ومن نظرياته التي تأثَّرت كثيرًا بالتعاليم الأفلاطونية نظريته في العناية الإلهية.
فينتج من ذلك: كما أن الله في نظر فيلسوفنا يعرف الجزئيات بالعلل الكلية، هكذا يعتني بالجزئيات ويدبِّرها بالعلل الكلية؛ إذ ليس شيء في شيء من الجزئيات إلا وهو صادر عن علَّة كلية، وبعبارةٍ أوضح: إن ابن سينا يعترف بأنه لا بدَّ في التدبير من اعتبار أمرين؛ مبدأ التدبير الذي هو العناية، وإنفاذه؛ فالله باعتبار كونه مبدأ التدبير يدبِّر جميع العلل العالية مباشرةً، وأما باعتبار إنفاذ التدبير فإنه ينفِّذ هذا التدبير في العلل العالية بنفسه مباشرةً، وفي المخلوقات السفلى بواسطة العليا.
وهذا الرأي المغلوط يتساوق — كما لا يخفى — مع نظرية ابن سينا في تكوين العالم، إلَّا أنه من جهةٍ أخرى يُناقض كتب الوحي التي تُصرِّح بأن عناية الله لا تنحصر في العلل العالية، ولا في السماء والأرض، ولا في الإنسان والملك؛ بل تتناول أحشاء أصغر الحيوانات وأخسها، وأدق ريش الطير وزهر العشب وورقة الشجرة، بحيث لا يغفل التوفيق بين أجزائها. وبوجيز العبارة: إن تدبير الله يَعُم جميع الأشياء كبيرة كانت أم صغيرة، حقيرة أم سامية.
٢
حقًّا إن هذا الكلام فيه من المغالطة ما ليس بقليل، هبْ أنَّ الأول يعلم من نفسه نظام الخير، وأنه هو نفسه علَّة هذا الخير والكمال «بحسب الإمكان»، فهل يكفي ذلك لتقدير العناية الإلهية التي تعتني بدقائق الجزئيات؟ هذا ما لا نظنه، وكما أن الطبيب الأفضل ليس من يلاحظ الكلِّيَّات فقط؛ بل من يقدر أن يلاحظ دقائق الجزئيات أيضًا، هكذا المعتني الأفضل ليس من يعرف نظام الموجودات وحده بل من يحيط علمًا بأصغر الموجودات وأدقها.
العناية هي إحاطة علم الأول بالكل، وبالواجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على أحسن نظام.
ومعناه أن العناية الإلهية تشمل جميع الموجودات في هذا الكون الفسيح الأرجاء؛ ليتم اتساق الوجود.
الخلاصة
خلاصة ما تقدَّم أن الشيخ الرئيس بعيد عن الحقيقة في القولين بُعدًا شاسعًا. أما في القول الأول فقد أوضحنا ذلك بإيجاز، وأما في القول الثاني فنبيِّنه هنا تعميمًا للفائدة:
كما كان كل فاعل يفعل لغاية معلومة كان عموم سوق المعلولات إلى غاية على قدر عموم عِلِّيَّة الفاعل الأول، وبما أن علية الله الذي هو الفاعل الأول تعم جميع الموجودات، ليس من حيث المبادئ النوعية فقط؛ بل من حيث المبادئ الشخصية أيضًا، لا في الأشياء غير الدائرة فقط؛ بل في الأشياء الدائرة أيضًا، كان لا بد أن تكون جميع الأشياء الموجودة بحال من الأحوال مسوقة من الله إلى غاية؛ فإذن لمَّا لم تكن عناية الله إلا سبب سوق الأشياء إلى غايتها، فلا بد أن تكون جميع الأشياء خاضعة لها من حيث هي مشتركة في الوجود، وبوجيز العبارة إذا كان الله هو علَّة جميع الأشياء المباشرة، وكان يعرف جميع الأشياء كليِّها وجزئيِّها مباشرة، كان عليه ولا ريب وهو الحكيم السامي أن يعتني بجميع الأشياء مباشرةً. وهذا واضح حتى إن ابن سينا نفسه قد أقرَّه في غير فلسفته، أو أنه أقرَّه في حكمته، ولكن بطرق مبهمة شأنه في سائر نظرياته.
من الناس من يقول: «إن الله معتنٍ بالأمور الكبيرة، ولكنه لا يلتفت إلى الصغيرة.» فلو صحَّ زعمهم وترك صغار الأشياء لترك الجراثيم نفسها؛ لأنَّها من أصغر ما يوجد، ولو تركها سنة واحدة لخرب نظام العالم، وصار الإنسان يزرع أرضه قمحًا؛ فتنبت له عقارب، وينصب كرمه عنبًا فيخرج له حيَّات، ويتزوَّج بامرأة فتلد له جنادب، ويركب على فرس؛ فيستحيل تحته ضفدعًا … لو بطلت العناية لحظة من الزمان تعذَّر علينا أن نعرف مصير هذه الجراثيم. فتأمَّل وتدبَّر.