دخول الشر للعالم١
لا بد للمتبصِّر من أن يُسلِّم بوجود الخير والشر في العالم، ألا نرى مثلًا أن الأمطار في شهر أيار هي حياة للمزروعات وخيرات للبشرية؟ ولكن إذا هطلت على سائح في صحراء مقفرة مجدبة فهل يعتبرها هذا الإنسان خيرًا سكبته عليه العناية الإلهية؟
هذا ما لا نظنه؛ لأنه إن لم يكن معتادًا شظف العيش وتقلُّبات الطقس يكابد آلامًا مبرحة، وربما لقي حتفه؛ إذن ما هو الخير، وما هو الشر في نظر ابن سينا؟
أما الخير النسبي والشر النسبي فيمكننا إيضاحهما بما يلي: يتفق في بعض الأحايين أن يكون ما هو شر لواحد خيرًا لآخر. إن النار إذا اعتبرناها مجرَّدة عن ظروف المكان والزمان هي قابلة أن تكون خيرًا وشرًّا، فإذا كانت — مثلًا — تحت طنجرة الفلَّاح تُنضج له طبخه فهي خير، ولكنَّها إذا أحرقت ثوب فقير يتسوَّل؛ فعندئذٍ تصير شرًّا. إن العمى في أعين جميع الحيوانات شرٌّ لأنه نقص، والنقص قريب من العدم، ولكنه للمبصر خيرٌ؛ لأننا لولا العمى لما كنا نستلذ البصر، وقد قيل: «والضد يُعرف فضله بالضدِّ.»
وكما أنه لا وجود للخير المطلق في هذا الكون؛ لأنه لا شيء فيه واجب الوجود، كذلك لا شر مطلق في نفس الكون؛ لأنه لا خير عن عدم مطلق، فليس هو بشيء حاصل، ولو كان له حصول لكان الشر عامًّا، بيد أن الشر إما يعرِض للمادَّة قبل إتمامها أو يطرأ عليها، فإذا عرض لمادةٍ ما في أول وجودها بعض أسباب الشر الخارجة فتمكَّن منها هيئة من الهيئات، فتلك الهيئة تمانع استعدادها الخاص للكمال الذي مُنيت بشرٍّ يوازيه؛ مثل المادة التي يتكوَّن منها إنسان أو فرس، إذا عرض لها من الأسباب الطارئة ما جعلها أردى مزاجًا وأعصى جوهرًا، فلم تقبل التخطيط والتشكيل والتقويم فتشوَّهت الخِلقة، وأما الأمر الطارئ من خارج فأحد شيئين؛ إما مانعٌ للكمال، وإما ماحقٌ للكمال، مثال الأول: وقوع سحب كثيرة وتراكمها، وإظلال جبال شاهقة تمنع تأثير الشمس في الثمار على الكمال.
ولكن ما هي حكمة الله من دخول الشر العالم؟ وكيف استطاع وهو الخير المحض أن يوجد الشرَّ؟
إنَّ الله لم يوجد الشر؛ لأن الشر لا يملك وجودًا بل نقصًا وعدمًا، والله لا يمكنه ولا بوجهٍ من الوجوه أن يخلق النقص والعدم؛ لأن لا وجود لهما، على أنه تعالى أوجد الخير وبالخير قام الشر بنوعه النسبي، وبعبارةٍ أصرح: إن الله أوجد مباشرةً العقل الأول وعن العقل الأول صدرت سائر العقول المفارقة بترتيبها المعروف، ثم العقل المفارق الأخير أصدر البسائط، وعنها انبثقت المركَّبات التي فيها وحدها، وهي «تحت فلك القمر»، ينحصر الشر، عدا أن هذا العالم الذي نحن فيه يقتضيه وجود الخير مع الشر؛ لأنه عالم الكون والفساد، لا بل عالم القوة والفعل، وحيث توجد القوة لا بد من وجود الشر، إلَّا أن هذا الشر أقل ذيوعًا من الخير؛ لأن الخير المطلق موجود وهو الله تعالى، والخير النسبي موجود وهو أكثر من الشر النسبي، إلا أن الشر المطلق لا يملك من الوجود شيئًا.
وهنا يتوارد على الخاطر سؤال: أمَا كان باستطاعة الباري أن يوجد الخير بمعزِلٍ عن الشرِّ؟
أجاب الشيخ الرئيس عن هذه المسألة بقوله: «إن الله سمح بوجود الشر؛ لأننا لولا الشر لما عرفنا الخير، كما أنَّنا لولا الظلمة لما كنا نعرف النور ونلتذُّ به، ولولا المرض لما كنا نغتبط بالصحة، وكأنَّ هذا الجواب لم ينفِ كل ريبٍ من رأس أمير فلاسفة المشرق فزاد أن البشر لا يمكنهم أن يدركوا حكمة الخالق في خلقه: «لو كان أمر الله تعالى كأمرك، وصوابه كصوابك وجميله كجميلك وقبيحه كقبيحك (كذا) لما خلق أبا الأشبال أعْصَل الأنياب، أحْجَن البرائن لا يغذوه العشب.» فالله إذن لا يُفتَّش في أحكامه عما نُفتِّش عنه نحن في أحكامنا الضعيفة وأحلامنا القاصرة؛ بل ينظر إلى الوجود نظرةً سامية لا نستطيع إلى إدراكها سبيلًا.»
لكن إذا كان البشر يعرفون الشرَّ فكيف يصنعونه؟ … ليس بين الناس من يقترف الشر بما أنه شر، ولكنه يقترف الشر ظنًّا منه أنه سينال خيرًا ولذَّةً وبهجةً وقت يُقدم على عمله، والله تعالى لا يعارض أحدًا عند ارتكابه الشر، جاء في الحديث: «خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي، وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي، وكلٌّ يُسِّر لما خُلق له.» ونظرية ابن سينا في الخير والشر مرتبطة تمام الارتباط بكلامه عن تكوين العالم والعناية الإلهية. وهذا التماسك لا يخفى على ذي بصيرة، وقلَّما نجد له مثيلًا بين فلاسفة العرب؛ لأنه في أغلب الأوقات لا ارتباط بين آرائهم الفلسفية، وما ذلك إلا لأن فلاسفة العرب كأدبائهم لم يبنوا، والعبقرية البنَّاءة عند الشعوب هي التي تولِّد النظريات الفلسفية المتشابكة الأضلاع المتناسبة التقاطيع.
لذا لا نغالي إذا قلنا إن نظرية ابن سينا في الخير والشر رغم ما يعتورها من الهنات، هي من أبدع نظرياته وأجملها وأشدها التصاقًا بالحقيقة بعد نظرية الإمكان والوجوب التي أخذها عن أستاذه الفارابي.
وتناول هذه النظرية القديس توما الأكويني وسائر الأئمة المدرسين عن الشيخ الرئيس وزادوها صقلًا ونحتًا، إلا أن الجوهر لا يزال واحدًا: «الخير مقتضًى بالذات، والشر مقتضًى بالعَرَض.»