السعادة والشقاوة
إن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنه لا يحسن معيشته لو انفرد وحده شخصًا واحدًا يتولَّى تدبير أمره من غير شريك يعاونه على ضرورات حاجاته، وأنه لا بد أن يكون الإنسان مكفيًّا بآخر من نوعه يكون ذلك الآخر أيضًا مكفيًّا به وبنظيره، فيكون مثلًا هذا ينقل إلى ذاك، وذاك يخبز لهذا، وهذا يخيط للآخر، والآخر يتخذ الإبرة لهذا حتى إذا اجتمعوا كان أمرهم مكفيًّا؛ ولهذا اضطروا إلى عقد المدن والاجتماعات. (نجاة، ص٤٩٨)
وهذا القول مأخوذ عن الفارابي يُذكِّرنا بكلام ابن خلدون في ضرورة الاجتماع الإنساني.
والإنسان بعد أن يؤمِّن ضروريات حياته يصبو إلى السعادة القائمة في اللذة، إلا أن البشر يتفاضلون في الاستمتاع بلذائذ الحياة كما يتفاوتون بعقولهم ورتبهم ومنازلهم.
أما اللذة الخسيسة فهي أفعال البدن الواطئة السافلة ودومًا يحن إلى ممارستها، واللذة السامية هي التي تلائم النفس وتسوق إلى إدراك الكمال؛ لأن كل من يحصل على كمالٍ ما يجد في الحصول عليه لذَّة، إلا أنَّ الكمال يختلف باختلاف مراتب القوى النفسانية؛ فالكمال الأتم والأفضل والأكثر والأدوم يُنشئ في النفس لذَّة أبلغ وأوفى وهو الأصل.
قد يكون الكمال في الخروج من القوة إلى الفعل، ولكن إذا لم يشعر الفاعل باللذاذة، ولم يتصوَّر كيفيتها، ولم يشتق إليها، بطل الفعل واضمحلَّت اللذة، فتكون اللذة إذن قائمة في الشعور بالكمال. إنَّ الأكمهَ يعرف أن تأمُّل الصور الجميلة لذيذ، والأصم يعلم أن تغريد الأطيار والألحان المنتظمة لذيذة، والجاهل يفقه أن العلم يولِّد لذة في نفس العالم، إلا أن هؤلاء أجمعين هم بعيدون عن هذه اللذة؛ لأنهم لا يقدرون أن يستشعروا بكمالها.
وكما أنه يوجد لذَّتان: عقلية وحسية، هكذا يوجد سعادتان: وقتية ودائمة؛ فالسعادة الوقتية تقوم في اللذة الخسيسة، والسعادة الدائمة تقوم في اللذة السامية.
في السعادة الخسيسة يشارك الإنسان الحمير والبهائم؛ لأن لهؤلاء أيضًا «حالة طيبة ولذيذة»، وفي السعادة السامية يشارك الجواهر المفارقة، ويرتفع فوق وجوده.
أجل إن الجسد يعيقنا عن بلوغ الكمال، والمادة تضع في وجهنا العراقيل؛ لئلا ننتهي إلى السعادة الدائمة، ولكنَّا إذا خلعنا ربقة الشهوة والغضب وأخواتها من أعناقنا وطالعنا شيئًا من تلك اللذة السامية؛ فحينئذٍ ربَّما تخيَّلنا منها خيالًا طفيفًا خفيفًا (نجاة، ٤٨٢). فتكون اللذات الروحية في رأي الشيخ الرئيس أفضل من اللذات الجسدية؛ ولهذا قال: «أنت تعلم أنك إذا تأمَّلت عويصًا يهمك، وعُرضَت عليك شهوة، وخُيِّرت بين الطرفين استخففت بالشهوة إن كنت كريم النفس، والأنفس العامية أيضًا كذا؛ فإنها تترك الشهوات المعترضة، وتؤثِر الغرامات والآلام الفادحة بسبب افتضاح أو خجل أو تعيير أو شوق لغلبة، وهذه كلها أحوال عقلية، فبعضها يؤثِّر في المؤثِّرات الطبيعية، ويصبر لها على المكروهات الطبيعية، فيعلم من ذلك أن الغايات العقلية أكرم على الأنفس من محقرات الأشياء، فكيف في الأمور النبيهة العالية؟ إلا أنَّ الأنفس الخسيسة تحس بما يلحق المحقرات من الخير والشر، ولا تحس بما يلحق الأمور النبيهة» (نفس المصدر والصفحة).
فيظهر من ذلك أن ابن سينا يقرُّ بأن النفس البشرية يمكنها أن تحصل على السعادة السامية في هذه الحياة الدنيا، وذلك بالتحلِّي بالفضائل، والسعي وراء الكمالات، والانشغاف بالحسن المطلق والخير المطلق والجمال الحقيقي.
إن السعيد الذي لا يفتقر في سعادته إلى أحد هو واجب الوجود، والذي يتلوه في رابعات السعادة العقول المفارقة، التي كلَّما اقتربت منه تعالى، وبالغت في تأمله ازدادت لذَّةً وكمالًا؛ كالأجسام الطبيعية التي كلَّما دنت من النار تزداد حرارة.
العارف هشٌّ بشٌّ بسَّام يبجِّل الصغير من تواضعه كما يبجِّل الكبير، وينبسط من الخامل كما ينبسط من النبيه، وكيف لا يهشُّ وهو فرحان بالحق وبكل شيءٍ يرى فيه الحق، ولا فرق عنده بين الكبير والصغير، ولا يعرف الطمع سبيلًا إلى قلبه. وهذا الخلق هو خلق الرضا والقناعة فلا يخاف العارف من هجوم شيء، ولا يحزن على فوات شيء؛ بل يفرح ويبتهج بما أدركه كما يبتهج العاشق بالوصول إلى حبيبه.
العارف لا يعنيه التجسُّس والتحسس، ولا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر كما تعتريه الرحمة، وإذا أمر بالمعروف أمر برفق ناصح، لا بعنف معيِّر؛ وذلك لشفقته وحبِّه.
العارف شجاع وكيف لا وهو بمعزِل عن خوف الموت، وجوَّاد وكيف لا وهو بمعزِل عن محبة الباطل، وصفَّاح للذنوب وكيف لا ونفسه أكبر من أن تجرحها ذلة بشر، ونسَّاء للأحقاد وكيف لا وذكره مشغول بالحق.
ثم يعقِّب العارفين أصحاب النفوس المترددة، وهؤلاء ليسوا في قمة الكمال؛ لأنهم لم يتجردُّوا من ذواتهم بعد، وليسوا على الحضيض؛ لأنهم يملكون قسطًا من الكمال.
أخيرًا يتلو هذه المرتبة مرتبة النفوس الخسيسة، وقد لقَّبها الرئيس «بمرتبة النفوس المغموسة في عالم الطبيعة المخسوسة التي لا مناص لرقابها المنكوسة، وهؤلاء هم بدون ما ريب في عمق أعماق الشقاء.»
بعد ذلك يضع ابن سينا وصفًا دقيقًا يميِّز به بين الزاهد والعابد والعارف كُنا نود أن نأتي على ذكره لولا خوف التطويل، من هذا العرض الوجيز نعلم، أن النفس في نظر ابن سينا يمكنها أن تتمتَّع في السعادة السامية وهي مكبَّلة بأغلال البدن، وذلك متى تم لها اقتباس سائر العلوم النظرية والعملية والاتشاح بثوب العفَّة والشجاعة، والابتعاد عن جميع شهوات الجسد الدنيئة؛ لأن هاته الرغبات لا تولِّد في النفس اللذَّة الوقتية حتى تروقها بمرائر وأوجاع تفوقها شدَّة وفداحة؛ فتكون إذن شقاوة هذه الحياة قائمة في عدم المقدرة على التلذُّذ.
أما في الحياة الباقية فإن للنفس ثلاث حالات: سعادة أبدية، شقاوة مؤقَّتة، وشقاوة أبدية، فعلى السعادة الأبدية في جنة الخلد لا ينص ابن سينا إلا بالتقريب، ويظن أنها تقوم بأن يتصوَّر الإنسان المبادئ المفارقة تصورًا حقيقيًّا، ويصدِّق بها تصديقًا يقينيًّا لوجودها عنده بالبرهان، ويعرف العلل النائية للأمور الواقعة في الحركات الكلية دون الجزئية التي لا تتناهى، ويقرِّر عنده النظام الأخذ من المبدأ الأول إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه، وكأنه ليس يتبرَّأ الإنسان عن هذا العالم وعلائقه، إلا أن يكون أكَّد العلاقة مع ذلك العالم، فصار له شوق وعشق إلى ما هناك يصده عن الالتفات إلى ما خلفه من الأمور الدنيوية.
ولكن من هو الذي يحصل على هاته السعادة؟
إنَّ أول مَن ينال هذه السعادة هم الذين صار فيهم الكمال مَلَكَة لا يرون عنها محيدًا، أما نفوس الجهَّال التي لم تكتسب الشوق إلى العالم الثاني فإنها إذا فارقت البدن، وكانت غير مقيَّدة بالعادات البدنية الرديَّة صارت إلى سعة من رحمة الله، ونالت السعادة الأبدية.
أجل إن سعادة العالم لهي أسمى من سعادة الجاهل، ولكنَّ الجاهل الصالح خيرٌ من العالم الشرير، وبعبارةٍ وجيزة: إن كل من يثابر على اقتباس الخلال الحميدة، ويبتعد عن الشر يحرز السعادة الخالدة.
أما أهل الشقاوة المؤقَّتة فهم أولئك الذين سقطوا في هذه الحياة مرَّات عديدة، إلا أن ذلك لم يمنعهم كليًّا عن تأمل الخير المطلق، فهؤلاء متى فارقت نفوسهم أبدانهم أحسُّوا بمضادة عظيمة، وتأذُّوا بسبب تراكم أعمالهم الدنيوية، لكن هذا الأذى وهذا الألم ليس لأمر لازم؛ بل لأمر عارضٍ غريب، والعارض الغريب لا يدوم؛ بل يزول مع ترك الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة بتكرارها، فيلزم إذن أن تكون العقوبة التي بحسب ذلك غير خالدة؛ بل تُمحى قليلًا قليلًا حتى تزكو النفس وتبلغ السعادة التي تخصُّها (نجاة، ٤٨٨). وهذا القول يقرب مما يؤمن به النصارى من أنَّ المؤمنين الذين يموتون وهم في حال الخطيئة العرضية، أو عليهم بعض قصاصات زمنية لا يدخلون الملكوت السماوي؛ بل يذهبون إلى مكانٍ آخر يتطهَّرون به من أدرانهم بواسطة عذابات زمنية، ثم يعودون إلى سعادتهم.
أما أبناء الشقاوة الأبدية فهم فَعَلة الإثم؛ أي الذين كثر شرُّهم وعَظُمَ أذاهم في الدنيا والآخرة، ويشارك هؤلاء في الشقاوة الأبدية العلماء الذين يعرفون الكمال ويحنُّون إليه دون أن يتصفوا به.
وصفوة القول: إن النفوس الشقية يقوم شقاؤها بالالتفات إلى أحوال الدنيا، وتذكُّر مقتضيات البدن؛ لأنَّها تقاسي من جراء ذلك عذابات فادحة. أما الأنفس المقدَّمة فإنها تبتعد عن أعمال الجسد وتتصل بكمالها بالذات، وتنغمس في اللذة الحقيقية، وتتبرَّأ عن النظر إلى ما خلفها وإلى المملكة التي كانت لها كل التبرِّي.
فيتضح مما تقدَّم أن السعادة الحقيقية في مذهب الشيخ الرئيس، سواء كانت في هذه الدنيا أو في الآخرة، هي قائمةٌ بشيء نفساني لذيذ، وكذا الشقاوة فهي أيضًا عذاب روحاني.
نحن لا ننكر أن الشيخ قد أخذ الشيء الكثير في نظريته هذه عن أفلاطون وأرسطو وأفلوطين وأستاذه الفارابي، ولكن قد أضاف إلى ذلك تعديلات قيِّمة منها: أن الفارابي كان يعتقد في مدينته الفاضلة أن أرواح أهل المدن الجاهلة التي انغمست في الشهوات والمادة تصير بعد انحلال الجسم إلى العدم كأنفس الحيوانات العجماء. أما ابن سينا فلم يقل بذلك؛ لأنه وجده يناقض المنطق؛ بل اكتفى بأن يحشر تلك النفوس في الشقاوة الأبدية.
إن الفارابي لم يتكلَّم عن سعادة وشقاوة الأنفس التي ليست ببارَّة وليست بشقية. أما الشيخ فقد وضعها في مكان تتطهَّر فيه قبل دخولها الجنة التي لا تعرف الدَّنَس.
من هذا نعرف مقدرة المعلم الثالث على مزج النظريات العديدة وتعديلها حسب القواعد المنطقية التي يقرُّها العقل.
•••
مقدمة
هل لأحدٍ من إخواني في أن يَهِبَ لي مِن سمعه قدر ما أُلقي عليه طرفًا من أشجاني عساه أن يتحمَّل عني بالشركة بعض أعبائها؛ فإن الصديق لن يهذِّب عن الشوب أخاه ما لم يصن في ضرائك عن الكدر صفاءه، وإني لك بالصديق المماحض، وقد جعلت الخُلَّة تجارة يُفزَع إليها إذا استدعت القلوب إلى الخليل داعية وطر، وترفض مراعاتها إذا حدث الاستغناء، فلن يُزار رفيق إلَّا إذا زارت عارضة، ولن يُذكر خليل إلا إذا ذكرت مأربة، اللهم إلَّا إخوان جمعتهم القرابة الإلهية، وألَّفت بينهم المجاورة العلوية فلاحظوا الحقائق بعين البصيرة، وجلوا درن الشك عن السريرة فلن يجمعهم إلا منادي الله.
ويلكم إخوان الحقيقة، باثُّوا وتضامُّوا، وليكشفنَّ كل واحد منكم لأخيه الحُجُب عن خالصة لُبِّه؛ ليطالع بعضكم بعضًا، ويستكمل بعضكم ببعض، ويلكم إخوان الحقيقة، تقبَّعوا كما يتقبَّع القنافذ، فأعلنوا بواطنكم وأبطنوا ظواهركم، فبالله إن الجلي لَباطنكم، وإن الخفيَّ لَظاهركم.
ويلكم إخوان الحقيقة، انسلخوا عن جلودكم كما انسلاخ الحية ودبُّوا دبيب الديدان، وكونوا عقارب أسلحتها في أذنابها؛ فإن الشيطان لن يراوغ الإنسان إلا من ورائه، وتجرَّعوا الزعاف تعيشوا، واستحبُّوا الممات تحيطوا، وطيروا ولا تتخذوا وكرًا تنقلبون إليه؛ فإن مصيدة الطيور أوكارها، وإن صدكم عوز الجناح فتلصَّصوا تظفروا، فخير الطلائع ما قوي على الطيران، كونوا نعامًا تبتلع الجنادل المحماة، وأفاعي تسترط العظام الصلبة، وسمادل تغشى الضرام على ثقة، وخفافيش لا تبرز نهارًا فخير الطيور خفافيشها.
ويلكم إخوان الحقيقة، أغبى الناس من يجترئ على غده، وأفشلهم من قصَّر عن أمدِه، ويلكم إخوان الحقيقة، لا غرو إن اجتنب ملاكٌ سُوءًا أو ارتكبت بهيمة قبيحًا؛ بل العجب من البشر إذا استعصى على الشهوات، وقد صيغ على استئثارها صورته، أو بذل لها الطاعة وقد نُوِّر بالعقل جبلَّته، ولعمر الله بذ الملاكَ بشرٌ عند زيال الشهوة فلم تزلَّ قدمه عن موطئه فيه، وقصر عن البهيمة إنسي لم تفِ قواه بدرء شهوة تستدعيه، وأرجع إلى رأس الحديث فأقول:
قصة الطير
برزت طائفة تقتنص؛ فنصبوا الحبائل ورتَّبوا الشَّرَك وهيئوا الطُّعْم وتواروا في الحشيش، وأنا في سربة طير إذ لحظونا؛ فصفَّروا مستعدين لنا، فأحسسنا بخصب وأصحاب، ما تخالج في صدورنا ريبة، ولا زعزعتنا عن قصدنا تهمة، فابتدرنا إليهم مقبلين، وسقطنا في خلال الحبائل أجمعين، فإذا الحلَق تنضم على أعناقنا، والشرَك تتشبَّث بأجنحتنا، والحبائل تتعلَّق بأرجلنا؛ ففزعنا إلى الحركة فما زادتنا إلا تعسيرًا؛ فاستسلمنا للهلاك وشغَل كل واحد منا ما خصَّه من الكرب عن الاهتمام لأخيه، وأقبلنا نتبيَّن الحيل في سبيل التخلص زمانًا حتى أُنسينا صورة أمرنا، واستأنسنا بالشَّرَك واطمأننا إلى الأقفاص.
فاطلعت ذات يوم من خلال الشَّرَك؛ فلحظت رفقة من الطير أخرجت رءوسها وأجنحتها عن الشَّرَك، وبرزت عن أقفاصها تطير وفي أرجلها بقايا الحبائل لا هي تئُودها فتعصيها النجاة، ولا تبينها فتصفو لها الحياة، فذكرتني ما كنت أُنسيته ونغَّصت عليَّ ما ألِفته فكدت أنحل تأسُّفًا أو ينسلُّ روحي تلهُّفًا؛ فناديتهم من وراء القفص أن ادنوا مني توقفوني على حيلة الراحة؛ فقد أعيتني أموري العويصة، فتذاكروا خدع المقتنصين، فما زادوا إلا نفارًا؛ فناشدتهم بالخُلَّة القديمة والصحبة المصونة والعهد المحفوظ ما حلَّ بقلوبهم الثقة، ونفى عن صدورهم الريبة؛ فوافوني حاضرين فسألتهم عن حالهم فذكروا أنهم ابتُلوا بما ابتليت به؛ فاستيأسوا واستأنسوا بالبلوى، ثم عالجوني فنحَّيت الحبال عن رقبتي، والشرَك عن أجنحتي، وفُتح باب القفص وقيل لي: استغنم النجاة، فطالبتهم بتخليص رجلي عن الحلقة؛ فقالوا: لو قدرنا عليه لابتدرنا أولًا وخلَّصنا أرجلنا، وأنَّى يشفيك العليل؟ فنهضت عن القفص أطير، فقيل لي: إن أمامك بقاعًا لم تأمن المحذور إلا أن تأتي عليها قطعًا، فاقتفِ آثارنا ننجو بك ونهدِك إلى سواء السبيل.
فساوى بنا الطيران بين صدفَي جبل الإله في وادٍ معشب خصيب؛ بل مجدب حريب حتى تخلَّف عنا جنابه وجُزنا جيرته ووافينا هامة الجبل، فإذا أمامنا ثماني شواهق تنبو عن قللها اللواحظ، وقال بعضنا لبعض: سارعوا فإنَّا لا نأمن إلا بعد أن نجوزها ناجين، فتعانقنا الشد حتى أتينا على ستٍّ من شوامخها وانتهينا إلى السابع، فلمَّا تغلغلنا تخومه قال بعضنا لبعض: هل لكم في الجمام فقد أوهننا النصب وبيننا وبين الأعداء مسافة قاصية، فرأينا أن نخصَّ للجمام من أبداننا نصيبًا فإن الشرود على الراحة أهدى إلى النجاة من الانبتات.
فوقفنا على قلَّته، فإذا جنان مخضرَّة الأرجاء، عامرة الأقطار، مثمرة الأشجار، جارية الأنهار، كثيرة الأزهار، يروي بصرك نعيمها بصور تكاد لبهائها تدهش العقول وتستبهت الألباب، وتُسمعك أغانٍ شجيَّة وألحانًا مطربة، وتُشمك روائح لا يدانيها المسك السري ولا العنبر الطري، فأصبنا من ثمارها وشربنا من أنهارها وشممنا من أزهارها ومكثنا بها ريثما اطَّرحنا الإعياء، فقال بعضنا لبعض: سارعوا فلا مخدعة كالأمن ولا منجاة كالاحتياط ولا حصن أمنع من إساءة الظنون، وقد امتدَّ بنا المقام بهذه البقعة على شفاء غفلة، ووراءنا أعداؤنا يقتفون أقدامنا ويتفقَّدون مقامنا، فهلمُّوا نبرح ونهجر هذه البقعة وإن طاب الثواء بها فلا طيب كالسلامة.
فأجمعنا على الرحلة وانفصلنا عن الناحية وحللنا بالثامن منها، فإذا شامخ خاض رأسه في عنان السماء تسكن جوانبه طيور لم ألقَ أعذب ألحانًا وأحسن ألوانًا وأظرف صورًا وأطيب عشرةً منها، ولمَّا حللنا في جوارها عرفنا من إحسانها وتلطُّفها وإيناسها أيادي لم نقضِ بقضاء أهونها.
ولمَّا تقرَّر بيننا وبينها الانبساط أوقفناها على ما ألمَّ بنا؛ فأظهرت المساهمة في الاهتمام، وذكرت أن وراء هذا الجبل مدينة يتبوَّءُها الملك الأعظم، وأي مظلوم استعداه وتوكَّل عليه كشف عنه الضرَّاء بقوته ومعونته، فاطمأننا إلى إشارتها وتيمَّمنا مدينة الملك حتى حللنا بفنائها منتظرين لإذنه ورضائه، فخرج الأمر بإذن الواردين وأُدخلنا قصره، فإذا نحن بصحنٍ لا نضمن وصف رحبه، فلمَّا عبرناه رفع لنا الحجاب عن صحن فسيح مُشرق استضقنا لديه الأول؛ بل استصغرناه حتى وصلنا إلى حجرة الملك.
فلمَّا رُفع لنا الحجاب، ولحظ الملك في جماله مُقلَنا علِقت به أفئدتنا ودهشنا دهشًا عاقنا عن الشكوى، فوقف على ما غشينا فردَّ علينا الثبات بلطفه حتى اجترأنا على مكالمته وعبَّرنا بين يديه عن قصتنا، فقال: لا يقدر على حلِّ الحبائل عن أرجلكم إلا عاقدوها، وإني منفِذٌ إليهم رسولًا يسومهم إرضاءكم وإماطة السوء عنكم فانصرفوا مغبوطين.
وهو ذا نحن الآن في الطريق مع الرسول وإخواني متشبِّثون بي يطلبون مني حكاية بهاء الملك بين أيديهم، وسأصفه وصفًا موجَزًا فأقول: إنه الملك الذي مهما حصَّلت في خاطرك جمالًا لا يمازجه قبح وكمالًا لا يشوبه نقصٌ صادَفَهُ مُستوفًى لديه، وكل كمال بالحقيقة فهو حاصل له، وكل نقصٍ ولو بالمجاز منفيٌّ عنه كله، لحسنه وجه ولجوده يد، مَن خدمه فقد اغتنم السعادة القصوى، ومَن صرمهه فقد خسر الآخرة والدنيا.