سياسة ابن سينا
يعتقد فلاسفة العرب أنَّ كلمة سياسة يُراد بها: «تلافي الخلل وإصلاح الفاسد»، ولمَّا كان الفساد والخلل يطرآن على الإنسان وأعماله، وضع بعضُهم مقالات ورسائل في هذا الموضوع يختلف تقسيم بعضها عن بعض، ولكن مرجعها في الغالب الأعم واحد.
(١) بين سياستين
ليس ابن سينا أول من وضع رسالةً في السياسة بين فلاسفة العرب، بل سبقه إلى ذلك أستاذه الفارابي، فضلًا عمَّا أتى به في صدد هذا الكلام في كتابه المدينة الفاضلة.
في المقدمة يتكلَّم الفارابي عن الطريقة التي يجب على الإنسان أن يسلكها في استجلاب علم السياسة، وأبلغ طريقة عنده في اكتساب العلوم عمومًا والسياسة خصوصًا تأمُّل أحوال الناس وأعمالهم ومتصرفاتهم، وإمعان النظر فيها، والتمييز بين محاسنها ومساوئها وبين النافع والضار لهم منها، ثم يستفيض في النقاط التالية: (١) سياسة المرء مع رؤسائه. (٢) سياسته مع أكفائه. (٣) سياسته مع من دونه. ويختم كلامه بذكر سياسة المرء لنفسه إلى أن يقول: «هذه أصول وقوانين متى ما استعملها المرء في معاشه، وقاس عليها في متصرفات أموره وأسبابه، استقامت به أحواله وطابت له أيامه وسلِم من كثير الآفات، ونال الحظ الجزيل من العادات.»
كما أن المسيم يلزمه أن يرتادَ مصالح سائمته من الكلأ والماء نهارًا، ومن الحظائر والزراب ليلًا، وأن يذكِّي عيونه في كلائها، ويبث كلابه في أقطارها؛ ليحرسها من السباع العاديَة، ومن الآفات الطارقة من السرق والغارة والنهب، وأن يختار لها المشتى الدفيء والمصيف السريح، ويروِّد لها في طلب الكلأ والنطف العذاب، وأن يتحيَّن وقت عملها، وأن يترقَّب حين نتاجها، ويلزمه بعد ذلك أن يسوقها إلى مصالحها ويصرفها عن متالفها بنعيقه وصفيره وبزجره ووعيده؛ فإن كفاه ذلك في حسن انقيادها واستقامة ضلعها، وإلا أقدم عليها بعصاه، كذلك يلزم ذا الأهل والولد والخدم والتبع مع ما ويحق عليه من حفظهم وحياطتهم ومن تحمُّل مؤنهم وإدرار أرزاقهم، إحسان سياستهم وتقديمهم بالترغيب والترهيب، وبالوعد والوعيد، وبالتقريب والتبعيد، وبالإعطاء والحرمان حتى تستقيم له قناتهم.
(٢) سياسة الرجل نفسه
لا يستطيع الإنسان أن يُصلح غيره ما لم يصلح نفسه أولًا؛ لأنَّها أقرب الأشياء إليه وأكرمها عليه وأولاها بعنايته؛ ولأنه متى أحسن سياسة نفسه هان عليه إصلاح الأغيار، وبدءَ بدءٍ يتحتَّم على من يريد إصلاح نفسه أن يعرف أنَّ له عقلًا هو السائس، وأفعالًا هي المَسُوسة، فكل فعلٍ لا يقوده العقل يكون في الغالب مغلوطًا، إلَّا أن العقل بسبب كثرة معايب النفس لا يتمكَّن من إصلاح فاسدها ما لم يعرف مساوئها معرفةً محيطة؛ فإن أغفل بعض تلك المساوئ وهو يرى أنه قد عمَّها بالإصلاح، كان كمن يدمل ظاهر الكلم، وباطنه مشتملٌ على الداء، ولمَّا كان الإنسان مفطورًا على حبِّ نفسه على غيره، وكثير المسامحة لها عند محاسبتها كان غير مستغنٍ في البحث عن أحواله، والفحص عن مساوئه ومحاسنه، عن معونة الأخ اللبيب الوادِّ الذي يكون منه بمنزلة المرآة؛ فيريه حسن أحواله حسنًا وسيِّئها سيِّئًا.
وأحوج الناس إلى الإصلاح هم الرؤساء؛ لأنهم يتركون الاكتراث للسقطات وتعقب الهفوات بالندمات، ولا يدعون الناس يخبرونهم بحقيقة حالهم، فيظنون أن المعايب تخطتهم والمثالب جاوزتهم، ومما زاد في فساد حال الملوك والرؤساء ما أتيح لهم من قرناء السوء وجلساء الشر الذين لو لم يُدلِّسوا ويدسُّوا عليهم لكان الرؤساء في أحسن حال، وليس كذلك حال من دونهم من الرعاع والسُّوقة؛ فإن أحدهم لو رام أن يُخفي عنه عيوبه يبدهه محبة بها، ويتدارك عليه بأقبحها ما استطاع ذلك.
وينبغي لمن يريد تعرُّف مناقب نفسه مثالبها أن يفحص عن أخلاق الناس، ويتفقَّد شيمهم وخلائقهم، ويتبصَّر مناقبهم ومثالبهم، فيقيسها بما عنده منها، ويعلم أنه مثلهم وأنهم أمثاله؛ فإن الناس أشباه؛ بل هم سواء كأسنان المشط، فإذا رأى فيهم الخير فليجتهد على إحرازه إن لم يكن فيه، وإن رأى المثلبة والعادة السيئة فليعلم أن ميلها راهن لديه إما بادٍ وإما كامن؛ فإن كان باديًا فليقمعه وليقهره وليُمته بقلَّة استعماله وشدَّة نسيانه، وإن كان كامنًا فليحرسه لئلا يظهر.
ويلزم الإنسان أن يعد لنفسه ثوابًا وعقابًا يسوسها بهما، فإذا اكتسبت الفضائل سريعًا وتركت الرذائل وتحلَّت بالمنقبة المطلوبة فليُثِبها، وإذا امتنع انقيادها وجمحت وتمرَّدت عليه وآثرت الرذائل على الفضائل، وأتت بخلق لئيم أو فعلٍ ذميم؛ فليعاقبها بمنعها عن اللذة وبإكثار ذمها.
(٣) سياسة الرجل دخله وخرجه
وعلى الإنسان أن يحرص من الأرواح الأثيمة والأموال النجسة، وإذا اتسع رزقه وتوفَّرت أسباب معيشته فعليه أن يصرف شيئًا في الصدقات والزكوات وأرباب المعروف، وأن يدَّخر الباقي لنوائب الدهر وأحداث الزمان.
أما النفقات فإن سدادها في الاعتدال، وعلى العاقل أن يبني بعض أمره في الاتفاق على عقول عوام الناس، وأن يستعمل كثيرًا من التجوُّز والإغضاء في المواضع التي يخشى فيها شبه العار، وأما الذخيرة فلا ينبغي للعاقل أن يُغفلها متى أمكنته؛ لئلا يحتاج إلى غيره متى دهمته المصائب.
(٤) سياسة الرجل أهله
- أولًا: أن تهاب رجلها مهابةً شديدة؛ لأنَّها إن لم تهَب زوجها تعود آمرة ناهية مدبِّرة، وذلك الانتكاس والانقلاب.
- ثانيًا: أن تكرم رجلها كما هو يكرمها؛ فإن الحرة الكريمة إذا استحلَّت كرامة زوجها دعاها حسن استدامتها لها، ومحاماتها عليها، وإشفاقها من زوالها إلى أمورٍ كثيرة جميلة، وكلَّما كانت المرأة أعظم شأنًا وأفخم أمرًا كان ذلك أدل على نُبل زوجها وشرفه، وعلى جلالته وعظم خطره.
- ثالثًا: أن تشغل خاطرها بالأمور البيتية المهمة كسياسة أولادها وتدبير خدمها، وتفقُّد ما يضمه خدرها من أعمالها؛ فإن المرأة إذا كانت ساقطة الشغل خالية البال، لم يكن لها هم إلا التصدِّي للرجال بزينتها والتبرُّج بهيئتها، ولم يكن لها تفكير إلا في استزادتها؛ وهناك الطامَّة الكبرى.
(٥) سياسة الرجل ولده
- (١)
أن يُحسن تسميته، واختيار مرضعته؛ كي لا تكون ذات عاهة؛ فإن اللبن يعدي كما قيل.
- (٢)
أن يبدأ بتأديبه ورياضة أخلاقه قبل أن تهجم عليه الأخلاق اللئيمة، وتنهال عليه الضرائب الخبيثة، وهذا يكون بعد الفطام حالًا.
- (٣)
أن يجنِّبه مقابح الأخلاق صبيًّا، ويُبعد عنه العادات القبيحة؛ وذلك بالترحيب والإناس والتوبيخ والضرب، وخيرٌ أن تكون الضربة الأولى غير موجعة؛ لئلا تسيء ظن الصبي بها، ويشتد خوفه من مربِّيه.
- (٤)
أن يرسله إلى المدرسة عندما يبلغ أشُدَّهُ؛ ليدرس أولًا العلوم الدينية ثم القراءة ثم رواية الرجز ثم القصيدة.
- (٥)
أن يكون مؤدِّب الصبي عاقلًا ذا دين، بصيرًا برياضة الأخلاق حاذقًا بتخريج الصبيان، وقورًا رزينًا، بعيدًا من الخفة والسخف، حلوًا، لبيبًا، نظيفًا، ذا مروءة.
- (٦)
أن يكون مع الصبي في مكتبه صبية من أولاد السراة حسنة آدابهم مرضيَّة عاداتهم؛ فإن الصبيَّ عن الصبي ألقَن، وهو عنه آخذ وبه آنس، والمدرسة العمومية أحسن من البيتية؛ لأنَّ فيها مباراة ومباهاة.
- (٧)
أن يُعلِّمه الصناعة التي يكون أهلًا لها؛ إذ ليس كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له مواتية، لكن ما شاكل طبعه وناسبه.
- (٨)
ألا يُعوِّده الكسل، فبعد أن يحذق صناعته فليتركه يعتاد طلب المعيشة، ويتذوَّق حلاوة الكسب، وإذا لم يصنع معه كذلك كان وبالًا عليه.
(٦) سياسة الرجل خدمه
لا يجوز لك أيها الغنيُّ أن تحتقر خدمك؛ لأنهم مثلك وأعوانك؛ فإنَّ من يكفيك التعاطي بيدك فقد قام عندك مقامها، ومن يكفيك السعي برجلك فقد ناب عنك منابها، ومن يحفظ لك ما تحفظه عينك فقد كفاك كفايتها، فغناء الخدم عنك كثير ونفع القوام إياك جزيل، ولولاهم لأُرتِجَ دونك بابٌ من الراحة كبير، فينبغي لك أن تحمد الله على ما سخَّر لك منهم، وأن تحوطهم ولا تقصيهم، وتتفقَّدهم ولا تهملهم، وترفق بهم ولا تحرجهم.
لا تتخذ خادمًا إلا بعد الاختبار له، وإن لم تستطع ذلك فأعمِل فيه التقدير والفراسة والحدس، جانبْ ذوي العاهات كالعوران والعرجان، ولا تثق بذي الكيس الكثير، والدهاء البيِّن؛ فإنه لا يسلم من المكر.
علِّم كل خادم ما هو أهلٌ له، ولا تنقله من عملٍ إلى عمل، ولا تحوِّله من صناعةٍ إلى صناعة؛ فإن ذلك من أمتن أسباب الدمار، فمتى نقل الإنسان الخادم مما قد أتقنه ومارسه إلى ما يختاره له أفسد عليه نظام خدمته.
لا ينبغي أن يشدِّد الإنسان النكير على خادمه، فصرفه أوفق من ذلك، وهو دليلٌ على ضيق الصدر وقلة الصبر وخفَّة الحِلم، لكن فليعاقبه عندما يذنب، ومن عصا معصيةً صلعاء أو جنى جنايةً شنعاء لا سبيل إلى اغتفارها؛ فالخلاص منه أولى؛ لئلا يُفسد عليه سائر الخدم.
وختام هذا الفصل
إن سياسة ابن سينا مع إيجازها وقلَّة ابتكارها، وبعض الهنات التي تعتورها لا تزال أفيد كتبه وأحسنها، كلُّ مَن يدرسها يستفيد منها حتى في عصرنا هذا. والهفوة الوحيدة البارزة في هذه الرسالة البليغة هي ابتعاد الرئيس عن الكلام عن واجبات الإنسان نحو خالقه كما صنع أستاذه الفارابي في سياسته، ولعلَّنا نجد له بعض المعذرة فيما قاله: «انقضت الأبواب التي مثلنا فيها ما يحق على الرجل فعله … وإنما ذكرنا القليل من الكثير، والجمل دون التفسير …»