الفصل الثاني

حياة ابن سينا

لكل إنسان في الوجود البالي حياتان؛ حياة مادية، وحياة روحية. الأولى هي نشأة الإنسان وترعرعه، والتقلُّبات التي تطرأ عليه، والأحداث التي تدهمه من الخارج وما إليها. والثانية هي مصدر كل اتجاه عقلي وتطور اجتماعي. ولكلٍّ من هاتين الحياتين تأثيرهما الخاص؛ فالمادة تؤثِّر في الروح تأثيرًا عظيمًا، كما أن الروح تُسيِّر ذاك التأثير، وتُلبسه ثوبًا يختلف قيمةً ووزنًا باختلاف الشخص ومواهبه العقلية؛ لذا نرى نظريات الفيلسوف المتفائل تباين نظريات المفكر المكتنف بالأحزان والأشجان والمصائب والويلات. وهذا لا يجرؤ على إنكاره ذو فهم. وكما أنه يلزم الإنسان أن يقيت جسده، ويهذِّب روحه، ويطبع فيها الملَكات الصالحة، كذلك يجب على المؤرخين المبصرين أن يدرسوا فرعَي الحياة الروحي والمادي؛ لكي يرضوا الحقيقة، وينجوا من الملامة، ويعطوا كل ذي حقٍّ حقه.

(١) حياة ابن سينا العامَّة

إنَّ مجمل ما نعرفه عن تاريخ حياة الشيخ الرئيس العامة أو المادية هو مأخوذ عن موجز كتبه بخط يده، هاك نصَّه بالحرف نقلًا عن ابن العبري، تاريخ مختصر الدول، ص٣٢٥، قال ابن سينا:
إن أبي كان رجلًا من أهل بلخ،١ وانتقل منها إلى بخارا في أيام نوح بن منصور،٢ واشتغل بالتصرف٣ في قرية خَرْمِيثن، وتزوَّج أمي من قرية يقال لها أفشنة، ووُلدت منها ووُلد أخي. ثم انتقلنا إلى بخارا، وأحضرت معلم القرآن والأدب، وكملت العشر من العمر، وقد أتيت على القرآن وعلى كثيرٍ من الأدب حتى كان يقضى مني العجب. وأخذ والدي يوجِّهني إلى رجلٍ كان يبيع البقل، ويقوم بحساب الهند حتى أتعلمه منه، ثم جاء إلى بخارا أبو عبد الله الناتلي،٤ وكان يدَّعي الفلسفة، وأنزله دارنا؛ رجاء تعلُّمي منه، فقرأت ظواهر المنطق عليه، وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خبرة، ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح، وكذلك كتاب إقليدس، فقرأت من أوله خمسة أشكال أو ستة عليه، ثم تولَّيت حل الكتاب بأسره، ثم انتقلت إلى المجسطي، وفارقني الناتلي، ثم رغبت في علم الطب، وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وتعهدت المرضى؛ فانفتح عليَّ من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة، ثم توفَّرت على القراءة سنةً ونصفًا، وكلما كنت أتحيَّر في مسألة ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس، تردَّدت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى يفتح لي المغلَق منه والمتعسر، وكنت أرجع بالليل إلى داري، وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراء والكتابة، فمهما غلبني النوم، أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إليَّ قوتي، ثم أرجع إلى القراءة، ومتى أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إن كثيرًا منها انفتح لي وجوهها في المنام، ولم أزل كذلك حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي والرياضي. ثم عدلت إلى العلم الإلهي، وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة، فما كنت أفهم ما فيه، والتبس عليَّ غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرَّة، وصار لي محفوظًا وأنا مع ذلك لا أفهمه، وأيست من نفسي وقلت: «هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، وإذا أنا يومًا حضرت وقت العصر في الورَّاقين، وبيدِ دلَّال مجلَّد ينادي عليه، فعرضه عليَّ؛ فرددته ردَّ متبرِّم معتقد ألا فائدة في هذا العلم»، فقال لي: «اشترِ مني هذا فإنه رخيص، أبيعكه بثلاثة دراهم؛ لأن صاحبه محتاج إلى ثمنه»؛ فاشتريته، فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة، فرجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته، فانفتح عليَّ أغراض ذلك الكتاب؛ بسبب أنه صار لي على ظهر القلب، وفرحت بذلك وتصدَّقت بشيء على الفقراء شكرًا لله تعالى، فلمَّا بلغت ثماني عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدَّد لي بعده شيء، ثم مات والدي وتصرَّفَت بي الأحوال، وتقلَّدت شيئًا من أعمال السلطان، ودعتني الضرورة إلى الارتجال إلى بخارا والانتقال عنها إلى جرجان، وكان قصدي الأمير قابوس، فاتَّفق في أثناء هذا أخذ قابوس وحبسه وموته، ثم مضيت إلى داهستان، ومرضت بها مرضًا صعبًا، وعدت إلى جرجان، وأنشأت في حالي قصيدة فيها بيت القائل:
لمَّا عظُمتٌ فليس مصرٌ واسعي
لمَّا غلا ثمني عدمت المشتري

ا.ﻫ.

وفي جرجان اتَّصل به تلميذاه؛ أبو عبيد الجوزجاني، وأبو محمد الشيرازي؛ لرغبتهما في تلقِّي العلم عنه فأفادهما كثيرًا، ثم انتقل إلى الري، واتصل بخدمة مجد الدولة إلى أن كان من الأسباب ما استوجب خروجه إلى قزوين، ومنها إلى همذان، وتقلَّد الوزارة لشمس الدولة، ثم تشوش العسكر عليه، وأغاروا على داره ونهبوها وقبضوا عليه، وسألوا شمس الدولة قتله فامتنع، ثم أُطلق فتوارى، ثم مرض شمس الدولة بالقولنج فأحضره لمعالجته واعتذر إليه وأعاده وزيرًا.٥

وبعد أن مات شمس الدولة، وبويع ابنه طلب أن يستوزر الشيخ الرئيس فأبى، وأقام في بعض الدور متواريًا، ثم اتُّهم بأنه يكاتب أمير أصفهان علاء الدولة سرًّا، فقبضوا عليه، وسيَّروه إلى قلعة فردجان فسُجن، وأنشأ هناك قصيدة جاء فيها:

دخلت باليقين كما تراه
وكل الشك في أمر الخروج

واستمر في القلعة أربعة أشهر، ثم أُخرج وأعيد إلى همذان حيث أقام مدة، وبعد ذلك عنَّ له الفرار فخرج متنكِّرًا إلى أصفهان، فصادف في مجلس علاء الدولة الإكرام والإعزاز اللذين يستحقهما مثله، ولمَّا سار علاء الدولة قاصدًا سابورخاست خرج الشيخ معه، واشتغل بالرصد واتخاذ آلاته، واستخدام صناعها قصدًا لإصلاح الخلل الواقع في التقاويم القديمة.

والمشهور عن الشيخ أنه كان قوي البنية والمزاج مسرفًا في الملاذِّ البدنية والشهوات اللحمية، فأنهكه ذلك، وعرض له قولنج فحقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات، فتقرَّحت أمعاؤه وظهر له سحج، واتفق له سفر مع علاء الدولة فحدث له الصرع الذي يحدث عقيب القولنج، فأمر باتخاذ دانقين من كرفس في جملة ما يُحقن به، فجعل الطبيب الذي يعالجه به خمسة دراهم، فازداد السحج به، فطرح بعض خدمه في الأدوية التي يعالج بها مقدارًا كبيرًا من الأفيون، وكان سبب ذلك أن غلمانه خانوه في أمر فخافوا العاقبة عند بُرْئه، وكان مذ حصل له الألم يتحامل ويجلس مرةً بعد أخرى ولا يحتمي، ويُسرف في قوته الحيوية فكان يمرض أسبوعًا ويصلح أسبوعًا.

ثم قصد علاء الدولة همذان ومعه الرئيس أبو علي، فحصل له القولنج في الطريق، ووصل إلى همذان، وقد بلغ منه الضعف، وأشرف على الانحلال فأهمل التداوي، وقال: «المدبر الذي في بدني قد عجز عن تدبيره، فلا تنفعني المعالجة»، ثم اغتسل وتاب، وتصدَّق بما معه على الفقراء، ورد المظالم على من عرف، وأعتق مماليكه، وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة حتى تُوفِّي.

كان ميلاد ابن سينا ٣٧٠ﻫ، ووفاته ٤٢٨ﻫ بهمذان حيث دفُن، وقيل بأصبهان، والأول أشهر.٦

(٢) حياته الخاصة

كان ابن سينا على جانب عظيم من الذكاء، والمثابرة على، وتوقد القريحة؛ يتبرهن ذلك من حياته التي كتبها هو عن نفسه وأوردناها سابقًا، وكان ميَّالًا إلى درس الكتب العويصة، وحل المشاكل العلمية. وهذا يثبته ما حكاه عنه تلميذه أبو عبيد الجوزجاني، وهو قوله: «إني صحبت الشيخ خمسًا وعشرين سنة، فما رأيته ينظر فيما يقع له من الكتب على الولاء، وإنما يقصد المواضع الصعبة والمسائل المشكَلة؛ ليتبيَّن ما قاله صاحب الكتاب فيها.»

وكان ذا عقل خصب، وشغوفًا بإفادة غيره من أبناء جنسه، ويُروى عنه أن جماعةً من العلماء وقعت لهم شُبَه في مسائل من كتابه المختصر الأصغر في المنطق، وعُرِضت تلك الشُّبه عليه للإجابة عنها؛ فكتب في جوابها زهاء خمسين ورقة في نصف ليلة حتى دهش الناس من ذلك وصار تاريخًا بينهم، بيد أنه مع هذا كله قد كان محبًّا للظهور، مواربًا لا يريد أن يستفيد غيره من الموضع الذي استقى منه؛ لذا لمَّا شُفي نوح بن نصر الساماني من مرض اعتراه دخل مكتبته التي لم يكن لها نظير، فيها من كل فن من الكتب النفيسة النادرة الوجود، فأخذ هناك يطالع، فاقتبس منها أشياء لم يدركها سواه، وقرأ أغلب نفائسها، ثم أحرقها؛ ليتفرَّد بما وعته من الحكمة؛ ولئلا ينتفع به سواه.

كذلك قد كان الشيخ خبيثًا في باطنه خلاف ما في ظاهره؛ لأن سائر مؤرخِّي حياته يثبتون أنه كان مطواع الأهواء والملاذِّ، ومع هذا فإنه في فلسفته يثبت أن السعادة الكاملة في هذه الحياة الدنيا تقوم بالتجرد التام عن الحسيَّات، والابتعاد عن الملذات اللحمية، والتبحُّر في الوجود الكامل، حتى لقد قال في إحدى رسائله عن هذا العالم الفاني ما يأتي: «دار أليمها موجع، ولذيذها مستبشع، وصحتها قسر الأضداد على وزن وأعداد، وسلامتها استمرار فاقة إلى استمرار مزاقة، ودوام حاجة إلى مج مجاجة …» ثم يواصل القول «إن الإنسان الذي يتبجن في قلبه بغض الدنيا، وتصير هذه الخصلة وتيرته، انطبع في فصه نقش الملكوت، وتجلَّى لمرآته قدس اللاهوت، فألِف الأُنس الأعلى، وذاق اللذة القصوى، وأخذ عن نفسه لمن هو به أوْلى، وفاضت عليه السكينة، وحفَّت به الطمأنينة، واطلع على العالم الأدنى اطلاع راحم لأهله مستوهن لحبله.»٧ هذا قول ابن سينا في هذا الأمر، إلَّا أن عمله يخالف ذلك ويناقضه، وبعض الحكماء يقولون: «إن العالم الذي يعلم ولا يعمل بما يعلمه ليس بعالم.»

ونحن نعتقد أن الشيخ الرئيس لو اعتدل في حياته لكان عَمَّر طويلًا، وأتانا بنظريات فلسفية موزونة؛ لأن الصفة النقدية لم يكن محتاجًا إليها؛ بل كانت متجسِّدة فيه تجسُّدًا؛ فإننا بينا نرى فلاسفة العرب يؤلِّهون أرسطو، ويتلقَّنون تعاليمه بدون ما رويَّة، نشاهد أن ابن سينا يمحِّصها، ويتناول ما يلائمه وينبذ ما لا يقره عقله.

أما باقي مزايا ابن سينا الروحية فسيطلع عليها القارئ عندما يدرس في هذا الكتاب شرحنا لأهم مبادئه الفلسفية، وجلَّ من يملك الكمال وحده.

١  في شمالي بلاد الأفغان.
٢  من الدولة السامانية.
٣  المحاسبة الدولية.
٤  ويُروى أيضًا البابلي أو النابلي.
٥  دائرة المعارف البستانية، م١، ص٥٣٦.
٦  انظر دائرة معارف القرن العشرين في العربية، م٥، ص٣٣٦.
٧  مقدمة كتاب النجاة، ص١٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤