مصنفاته، تقسيمه العلوم
كل فضلة من الزمان كان يُكرِّسها للمطالعة والكتابة، والوقت الذي لم يحصل عليه في النهار يبحث عنه عندما تلتحف المسكونة بلحاف الظلمة الكثيف، حتى إنه لم ينَمْ ليلة بكاملها، كان في السفر يحمل أوراقه قبل زاده؛ وإذ يأخذ التعب منه مأخذه يجلس مفكِّرًا كاتبًا في الهواء الطلْق، وكان في السجن يطلب الورق والحبر قبل الخبز والماء، ولا يغرُب عن ذهن المطالِع اللبيب أن ابن سينا الطبيب أشهر من ابن سينا الفيلسوف؛ فإن أوروبا نفسها قد عوَّلت على كتاباته الطبية أجيالًا عديدة، وعلَّقت عليها الشروح الضافية، وألقت نظرياته من على منابر كلياتها، فعسى أن تحفز ذكراه التسعموية أحد أطباء العرب؛ فيُخرج لنا كتابًا عن ابن سينا الطبيب.
(١) مؤلفاته
- (١) الشفاء: وهو أعظم مؤلفات أرسطو الإسلام قدرًا وأعلاها شأنًا وأغزرها مادةً وأكثرها فائدةً، كتبه بين أسفاره ومهام أشغاله العديدة وتشرُّداته المتواصلة، يحتوي كلَّ فروع الفلسفة المنتشرة في أيامه؛ كالمنطق، والرياضيات، والطبيعيات، والإلهيات، ثم باقي العلوم الطبية، وهو في ١٨ جزءًا، وقد نُقل قسمٌ منه منذ زمن قديم إلى اللغة اللاتينية تحت اسم Sufficiaentiae. أما علم ما وراء الطبيعة المدوَّن في الشفاء فقد ظهر مطبوعًا باللاتينية في مدينة البندقية ١٤٩٥م.
- (٢)
القانون: وهو في ١٤ مجلدًا، ضمَّنه كل معارف عصره في الطب والعقاقير والتشريح، فكان أهم مؤلَّفاته الطبية على الإطلاق، وعوَّل عليه أطباء العرب والإفرنج مع الحاوي للرازي عدة أجيال، طُبع في رومية ثم في مصر.
- (٣) النجاة: وهو مختصر لقسم الشفاء الفلسفي، وضعه للذي «يريد أن يتميَّز عن العامة، وينحاز إلى الخاصَّة، ويكون له بالأصول الحكمية إحاطة.» أشهر طبعاته الطبعة المصرية الصادرة سنة ١٣٣١ﻫ، وقد زعم الدكتور جميل صليبا في البحث الإفرنسي٢ الذي وضعه على إلهيات ابن سينا أن المأسوف على علمه المطران نعمة الله أبا كرم الماروني قد نقل النجاة إلى اللاتينية، بيد أن الحقيقة تناقض ذلك؛ لأن المطران المشار إليه لم يُترجم إلى اللاتينية إلا إلهيات النجاة وطبعها في روميَّة سنة ١٩٢٦م.
- (٤)
الإشارات والتنبيهات: صنَّفه في أواخر حياته، ونسب إليه أهمية عظمى؛ لأنه أورد فيه الشيء الكثير من آرائه الناضجة التي تتفق تمام الاتفاق والأفلاطونية المستحدثة، ويُنصح للعامة أن لا تقرأ هذا السِّفْر؛ لأنه وضعه لذوي الثقافة العالية والعقول الراجحة، نُشر مطبوعًا في أوروبا ١٨٩٢م؛ ونظرًا لأهميته قد شرحه فريق من العلماء المسلمين، من ذلك شرح واختصار فخر الدين محمد بن عمر الرازي المطبوع في مصر ١٣٢٦ﻫ تحت اسم لباب الإشارات.
- (٥)
المنطق الشرقي: طُبع في مصر ١٩١٠م، وهو على ما يعتقد أصحاب التحقيق وضعه بمثابة توطئة للفلسفة المشرقية التي لم تصل إلينا.
- (٦)
رسائل في الحكمة والطبيعيات: جُمعت من آثار ابن سينا، وطُبعت في مصر ١٩٠٨م.
- (٧)
وأخيرًا ظهر في مصر ١٩١٧م كتاب يُدعى «جامع البدائع»، يشتمل على كثير من الرسائل التي وضعها الشيخ، من ذلك رسالة في الحب، وأخرى في طبيعة الصلاة وإثبات وجود الله ووحدانيته وسرمديته … إلخ.
وله غير ذلك كتاب جليل في السياسة نشره الأب شيخو في مجموعة سمَّاها «مقالات فلسفية قديمة لبعض مشاهير فلاسفة العرب مسلمين ونصارى»، المطبعة الكاثوليكية، بيروت ١٩١١م، وله غير ذلك مؤلفات وقصائد فلسفية كثيرة، حتى إنه كتب في الموضوع الواحد عدَّة رسائل وشروح لا تختلف بمعناها عن بعضها البعض، والمرجوح أنه كان يفعل ذلك إجابةً لطلب المنشغفين بدرس الحكمة، وعلمُ ربك فوق كل ذي علمٍ.
(٢) تقسيمه العلوم
إن الشيخ الرئيس قد خاض جميع مواضيع المعرفة البشرية المنتشرة في أيامه، وقسَّم العلوم إلى عليا وسفلى ووسطى؛ فالعلوم العليا هي ما بعد الطبيعة أو الفلسفة الأولى التي موضوعها الوجود المطلق بما هو مطلق مجرد عن المادة ولواحقها؛ والسفلى تدرس المادة وتختص بها وتلازمها وتُدعى الطبيعيات؛ والوسطى هي مزيج من العلوم العليا والسفلى؛ أي تتعلَّق بالمادة من جهة، وتتجرَّد عنها من جهة أخرى، وتُعرف بالرياضيات.
لم يكُ أرسطو يعتقد كتلاميذه المعاصرين أن الفلسفة تدرس الأشياء بعللها العالية؛ بل كان يُصرِّح بأن الفلسفة هي نوع من الموسوعات تحتوي سائر العلوم؛ العليا والسفلى والوسطى، وعلى هذا المنوال نسج ابن سينا، ثم قسَّم الفلسفة إلى نظرية وعملية؛ الأولى: تشمل الحساب والطبيعيات وما وراء الطبيعة، والثانية: تنظر في الخلقيات والاقتصاد والسياسة، إلَّا أن أرسطو قد حوَّل أنظاره إلى القسم الطبيعي وعالجه معالجةً دقيقة، واكتشف براهين جديدة نقض بها مزاعم الفلاسفة المتقدِّمين. أما الرئيس أبو علي فإنه لم يتحفنا بشيء من ذلك، ولو كان قد تبحَّر كثيرًا في هذا الفرع، وكذلك لم يتوسَّع في تشريح جزء الفلسفة العملي.
من هذا التقسيم نعرف أن فيلسوفنا كان يؤمن بأن الحكمة الأولى هي أسمى العلوم، ولعلَّه قال بذلك لكثرة ما كلَّفه تفهمه لها من المصاعب والمشاق.