الفصل الخامس
طبيعيات ابن سينا
غنيٌّ عن البيان أن العلوم الطبيعية لم تنهض هذه النهضة المباركة إلا
في القرن التاسع عشر. وهذا لا يعني أن كلَّ ما كُتب في هذا الموضوع قبل
التاريخ الآنف كان لَغوًا ومغالطة، بل إن الحقائق الراهنة الواضحة كانت
جد قليلة بالنظر إلى ما كان يكتنفها من الخرافات والسفسطات، وطبيعيات
ابن سينا لم تشذ عن هذه القاعدة؛ لأن معظم ما فيها خطأ ومحاولات فاشلة؛
لذا إذا كنا نورد ملخَّصها في هذا الفصل؛ فلكي نطلع على تطور الفكر
الإنساني وبطء نموِّه.
(١) موضوع الطبيعيات
يَعتقد الرئيس أنَّ العلم الطبيعي هو صناعة نظرية، وكل صناعة
نظرية لها موضوع من الموجودات أو الوهميات،
١ إذن للعلم الطبيعي موضوع يُنظَر فيه وفي لواحقه، وما
موضوعه إلَّا الأجسام الموجودة بما هي واقعة في التغير، وبما هي
موصوفة بانحناء الحركات والسكونات.
٢
من هذا يظهر أن الطبيعي يدرس الموجود الحقيقي، ولكن ليس بما هو
موجود، ولا بما هو جسم، ولا بما هو جوهر، ولا بما هو مركَّب من
مادَّة وصورة، ولكن بما هو قابل للحركة والسكون. وهذا التعليم لا
يزال أتباع الفلسفة المدرسية يدافعون عنه ويؤيِّدونه.
يزيد أرسطو الإسلام على ما تقدَّم: أن العلوم الجزئية لا يلتزم
أصحابُها بإثبات مبادئها، وصِحة المقدِّمات التي بها يبرهنون ذلك
العلم؛ بل بيان مبادئ العلوم الجزئية يتعلق بصاحب العِلم الكلي
الذي موضوعه الموجود المطلق، وبما أن الطبيعيات هي من العلوم
الجزئية؛ فالبرهنة على صِحة مبادئها لا تختصُّ بالعالم الطبيعي؛ بل
بعلماء ما وراء الطبيعة، وبعبارة أوضح: إن العالم الطبيعي يمكنه أن
يتخذ المبادئ المقرَّرة في الإلهيات، ويحارب بها خصومه، ويقارع
أضداده، ويثبت القضايا المعترض عليها. ومن هذا الكلام يتبيَّن
القارئُ الفرقَ الشاسع القائم بين الطبيعيين الأقدمين والطبيعيين
المحدَثين؛ لأن هؤلاء لا يُسلمون إلا بالاختبار والواقع، ولا
يلجئون إلى عِلم آخر يثبتون به ما يريدون تقريره.
(٢) المادة والصورة
إن الكون بأجمعه هو في تغير مستمر وتحويل مستديم.
قف تجاه سنديانة يابسة كطبع الدهر تلتهمها النار فلا يمضي عليها
إلا القليل حتى تصير رمادًا، فهل تلاشت هاته السنديانة باحتراقها،
واضمحلَّ كلُّ ما فيها؟
إن الأجسام الطبيعية جمعاء مركَّبة من مادة هي محل، ومن صورة هي
حالَّة فيه، ونسبة المادة إلى الصورة نسبة النحاس إلى التمثال،
٣ فكما أن الفنان لا يمكنه أن يصنع تمثالًا نحاسيًّا ما
لم يكن عنده مادَّة نحاسية، هكذا لا يمكن أن تكون مادَّة بدون
صورة. أما الصورة فتقوم بمعزِل عن المادة؛ لأنَّها أكمل وأرقى،
وبهذا القيام المكمِّل قد خالف ابن سينا المعلم الأول؛ وذلك لكي
يستطيع إثبات خلود النفس التي هي صورة للجسم، إن كل ما نعرفه نطلع
عليه بواسطة الفعل أو الصورة، فيتبع ذلك أن المادة الأولى ليست
معروفة بذاتها؛ لأنَّها لا تتضمن فعلًا بل استعدادًا لاقتبال
الصورة؛ إذن كيف يمكننا أن نبرهن على هذه المادة التي لا نستطيع
إلى تعريفها سبيلًا؛ لأنَّها ليست موجودة في نوع أو في جنس أو في
تمييز؟
نحن نعرف — بَدء بِدء — بحواسنا الخارجية أنه يوجد أجسام تملك
صورًا حِسِّيَّة، وعندما تكون في الفعل تتضمن أقطارًا معيَّنة، بيد
أن هذه الأجسام ليست هي كذلك؛ لأنَّها تملك بالفعل أقطارًا
مثلَّثة؛ بل لأنَّها قابلة لأن تقتبل تلك الأقطار أو ترفضها؛ لأن
الأقطار لا تركِّب الأجسام بما أنها أجسام؛ بل تنسب إلى الأجسام
نسبة العوارض إلى الجوهر. إن السطح مثلًا لا يدخل في تحديد الجسم
بما أنه جسم، ولكنه يدخل في تحديد الجسم بما أنه متناهٍ؛ إذن هو
عارض جسمي متغيِّر. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نتصور الجسم بما هو
جسم دون أن نفتكر ضرورة بأنه متناهٍ، وبما أن كل جسم يملك صورة هي
موضوع للعلم الطبيعي، كذلك يملك امتدادات وأقطارًا محدودة تدخل
مقولة الكليات، وتكون موضوعًا لعلم آخر، إن هذا الكتاب الموجود بين
يدي الآن له ثلاثة أقطار تُقاس وتُعد بالأرقام، وله فوق ذلك صورة
محسوسة بها يقوم كماله، وتدرس وتوصف في عِلم آخر؛ إذن إن أقطار
الأجسام لا تبقى دائمًا غير متغيِّرة،
٤ وهذا القول يُطلق على الصورة أيضًا؛ لأنَّها إما أن
تكون نفس الاتصال، أو تكون طبيعة يلزمها الاتصال حتى لا توجد هي
إلا والاتصال لازم لها؛ فإن كانت نفس الاتصال فقد يكون الجسم
متصلًا، ثم ينفصل فيكون لا محالة شيء هو بالقوة كليهما، فليس ذات
الاتصال بما هو اتصال قابل للانفصال؛ لأن قابل الاتصال لا يعدم عند
الانفصال، والاتصال يعدم عند الانفصال؛ فإذن شيء غير الاتصال هو
قابل للانفصال، وهو بعينه قابل الاتصال، فظاهر أن ها هنا جوهرًا
غير الصورة الجسمية، هو الذي يعرض له الانفصال والاتصال معًا، وهو
مقارن للصورة الجسمية، ولا يمكن أن يوجد مفارقًا وهو ما نسمِّيه مادة،
٥ فيتضح من ذلك:
- (١)
أن المادة لا يمكنها أن توجد بمعزِل عن الصورة، ولكن
الصورة الكاملة كالنفس البشرية مثلًا يمكنها أن توجد
بدون المادة، لا … بل إن المادة هي سجن لها:
وصلت على كرهٍ إليك
وربَّما
كرهت فراقك وهي ذات
تفجع
- (٢)
فساد شيء يكون تكوينًا لشيء آخر، وتكوين شيء يكون
فسادًا لشيء آخر، فالموجودات بأجمعها تفسد وتتكوَّن
بموجب هذه السُّنة، ولن تجد لِسُنة الله
تبديلًا.
وإذا سلَّمنا بهذه النظرية التي لا يزال يفلحها أتباع الفلسفة
المدرسية، فيلزمنا أن نسلِّم بتقسيم الموجودات على هذه الطريقة:
أول الموجودات في استحقاق الوجود هو الجوهر المفارق غير الجسم الذي
يعطي صورة الجسم وصورة كل موجود، ثم الصورة، ثم الجسم، ثم الهيولى،
وهي وإن كانت سببًا للجسم؛ فإنها ليست بسبب يعطي الوجود بأنه محل
لنيل الوجود، وللجسم وجودها، وزيادة وجود الصورة فيه التي هي أكمل
منها … فإن أَوْلى الأشياء بالوجود هو الجوهر ثم الأعراض، وفي
الأعراض ترتيب في الوجود أيضًا.
٦
(٣) مجمل باقي الطبيعيات
بعد أن يفرغ الشيخ الرئيس من تقرير ما تقدَّم ينتقل إلى المقالة
الثانية، فيتكلَّم عن لواحق الأجسام، فقبل كل شيء يحدد الحركة
بأنها تبدُّل حال قارَّة في الجسم يسيرًا يسيرًا على سبيل اتجاه
نحو شيء، والوصول بها إليه هو بالقوة لا بالفعل، فيجب من هذا أن
تكون الحركة مفارقة لحال لا محالة، ويجب أن تكون تلك الحال تقبل
التنقص والتزيُّد؛ لأن ما خرج عنه يسيرًا يسيرًا على سبيل اتجاه
نحو شيء فهو باقٍ ما لم ينقص الخروج عنه البتة جملةً، وإلا فالخروج
عنه يكون دفعة،
٧ فمن هذا التحديد يظهر أن لكل متحرِّك عِلَّة محرِّكة
غيره تدفعه إلى الحركة؛ لأنه لو كان كل جسم يتحرك بذاته، وتوجد فيه
الحركة بما هو جسم لكان كل جسم مبدأ لذاته، الأمر الذي هو باطل
الاستحالة، ثم يُعقب ذلك فصلًا يبرهن فيه على أنه لا يجوز أن
يتحرَّك الشيء بالطبيعة، وهو على حالته الطبيعية، وأنه ليس شيء من
الحركات بالطبيعة ملائمًا لذاتها، وبعد أن يستوفي الكلام في
الحركة، ويقابل بين الحركة والسكون ينتقل إلى القول في الزمان
والمكان، ثم في النهاية واللانهاية، ثم في الجهات.
وفي المقالة الثالثة يقسِّم الأجسام إلى بسيطة ومركَّبة؛
فالمركَّبة تثبت وجودها بالمشاهدة والعيان، والبسيطة تثبت بتوسط
المركَّبة؛ لأن كل مركَّب فإنما يتركَّب عن بسائط، وللأجسام كلها
أحياز ضرورية، وهي التي تتباين بها الأجسام في الجهات بأوضاعها،
ولبعضها أمكنة وهي الأجسام التي تحيط بها أجسام أُخَر،
٨ وما يفرغ من تبيان الأمور الطبيعية وغير الطبيعية التي
للأجسام حتى ينتقل إلى تقرير الأجسام الأولى، ويشبع القول في
قواها، فيفترض أوَّلًا أن جسم النار من جملة الأجسام البسيطة التي
تتركَّب منها المركَّبات؛ لأنه لا يوجد أبسط منه في الحرارة، وهو
جسم غاية في الحرارة، ونظن أنه يابس ويأخذ المكان إلى فوق، ثم
شاهدنا الماء باردًا بالطبع رطْبًا، ولا يوجد جسم أبسط منه في
البرودة، فيكون إذن الهواء قابلًا للحرارة والبرودة والماء باردًا.
أما الجسم الذي يقبل الحرارة والبرودة فهو التراب، من هذا يظهر أن
العناصر الأولى التي تتركَّب منها الأجسام هي: النار والماء
والهواء والتراب، ويسميها والأسطقسات،
٩ إلَّا أن هذه جميعها تنتهي عند النار؛ لأنَّها أقوى من
الجميع.
وفي المقالة الخامسة يتكلَّم عن المركبات، ومن جملة ما يقوله في
هذه المقالة اللذيذة القراءة الصفحة التالية:
… يحيط بالبر والبحر الهواءُ البخاري إلا أنه ذو طبقتين؛
إحداهما تصاقب كرة الأرض؛ فتسخن من شعاع الشمس المسخن
للأرض المسخنة لما تجاورها، وبعضه يبعد عنه؛ فيستولي عليه
الطبيعة التي في جوهر المائية وهو البرد؛ ولهذا يكون أعالي
الجبال ومواضع انعقاد السحاب أبرد، ثم فوق هاتين الطبقتين
طبقة الهواء الذي هو أقرب إلى البساطة، ثم فوقه طبقة
الهواء الدخاني؛ وذلك أن الدخان أيبس وأسرع حركةً وأشبه
كيفيةً بالنار، فهو يعلو البخار، والهواء إن لم يبرد في
الوسط فينزل ريحًا؛ فإن لم يبرد علا وطفا فوق الهواء، إلا
أنه كما أظن أنه لا يكون محيطًا ولا كثيرًا بل يسيرًا
منتشرًا والأكثر يحترق سهبًا … ثم فوق هذا كله الطبقة
النارية، وجميع العناصر الأربعة بطبقاتها طوع الأجرام
العالية الفلكية، والكائنات الفاسدة تتولَّد من تأثير تلك
وطاعة هذه، والفلك، وإن لم يكن حارًّا ولا باردًا؛ فإنه قد
ينبعث منه في الأجسام السفلية حرارة وبرودة بقوى تفيض منها
عليها، ويُشَاهَد هذا من إحراق شعاعها المنعكس عن المرايا؛
فإنه لو كان سبب الإحراق حرارة الشمس دون شعاعها لكان
كلَّما هو أقرب إلى العلو أسخن، وقد يكون مطرح الشعاع إلى
الشيء، فيحترق وما فوقه لا يحترق؛ بل يكون في غاية البرد،
فإذا سبب الإسخان التفاف الشعاع الشمسي المسخن لما يلتف به
فيسخن الهواء، وربما بلغ من إسخانه أن بعد الهواء لقبول
طبيعة النار، ويخرجه عن الاستعداد للصورة الهوائية، فإذا
وقعت القوى الفلكية في العناصر فحرَّكتها، وخلطتها، حصل من
اختلاطها موجودات شتَّى، فمنها أن الفلك إذا هيج بإسخانه
الحرارة بخر من الأجسام المائية، ودخن من الأجسام الأرضية،
وأثار شيئًا بين الغبار والدخان من الأجسام المائية
والأرضية؛ ولأن الأرض والماء يوجدان في أكثر الأحوال
متمازجين، فليس يوجد بخار بسيط ولا دخان بسيط إلَّا ندرة
وشذوذًا. (ص٢٤٩ و٢٥ من النجاة)
وأنت ترى من هذه الصفحة الفكهة أن كلام ابن سينا في طبيعياته
لآخر هذه المقالة لا يتعدَّى بجملته إلى طور التخمين والحدس
والمحاولات الفاشلة. أما في المقالة السادسة، ويدور محور الكلام
فيها عن النفس، فقد أتانا بنظرات أعمق من هذه تستحق الدرس
والتمحيص.
فإلى الفصل الآتي أيها القارئ الصبور.