الفصل السابع
العِلَّة والمعلول
يختلف العلم الإلهي في نظر ابن سينا عن سائر العلوم، كل علم،
طبيعيَّا كان أم رياضيًّا، إنما يفحص عن موجود معيَّن أو حال بعض
الموجودات، أمَّا العلم الإلهي فإنه يدرس الموجود المطلق ولواحقه التي
له بذاته، وبموجب هذا الاعتبار تكون جميع العلوم جزئية، ولا خبر عن علم
مطلق بعد العلم الإلهي.
محور العلم الإلهي هو العلَّة المطلقة والمعلول المطلق؛ لأن الله
تعالى على ما اتفقت عليه الآراء كلها ليس مبدأ لموجود معلول دون موجود
معلول آخر، بل هو مبدأ للوجود المعلول على الإطلاق؛ ولذا يكون هو
العلَّة المطلقة أيضًا،
١ إذن لا لوم ولا عذل علينا إذا افتتحنا كلامنا عن إلهيات
ابن سينا بالعلل والمعلولات.
كل عِلَّة مبدأ، وليس كل مبدأ عِلَّة؛ فالوالد هو علَّة الابن ومبدأ،
والنقطة هي مبدأ السطر وليست علته. وهذا قول مقتبس من التعاليم
الأرسطوية. أما ابن سينا فإنه قد خلط بين العلَّة والمبدأ بدليل قوله:
«المبدأ يُقال لكل ما يكون قد استتمَّ له وجود في نفسه، إمَّا عن ذاته،
وإمَّا عن غيره، ثم يحصل عنه وجود شيء آخر ويتقوَّم به … إلخ.»
٢
ينسج الرئيس في تقسيم العلل على منوال الفيلسوف؛ فيقسمها إلى أربعة
أقسام رئيسية: علَّة مادية، علَّة صورية، علَّة فاعلة، وعلَّة
غائيَّة.
كلَّما تكوَّن شيءٌ من شيءٍ يقال إنه حصل تغيير، ويتوقَّف شرح هذه
التغايير المختلفة العارضة على مبدأين؛ أولهما أنها تطرأ على موضوع
ثابت وقار هو المادة أو العلَّة المادية للتغيير، وثانيهما أن هذه
التغايير قائمة بأنَّ شيئًا جديدًا يظهر في المادة وهو الصورة أو
العلَّة الصورية للموضوع المعروض للتغيير، فمن هذا يصدر أن العلة إذا
كانت جزءًا لمعلولها لا يجب عن حصوله بالفعل أن يكون موجودًا بالفعل
دعوناها مادية، وإذا كانت جزءًا لمعلولها يجب عن وجوده بالفعل وجود
المعلول له بالفعل سمَّيناها صوريَّة، مثال العلَّة المادية: الخشب
للسرير؛ فإن السرير كامنٌ بالقوة في الخشب الذي هو مادة السرير المبهمة
قبل أن تخرجه يد النجار من القوة إلى الفعل، ومثال العلَّة الصورية:
الشكل والتأليف للسرير، فتكون العلل هيولى للمركَّب وصورة للمركَّب،
ولقد أخذ هذا الفكر القديس توما الأكويني وأفرغه بأسلوب واضح فقال:
المادة هي عِلَّة الصورة من جهة أن الصورة لا توجد إلَّا في
المادة، وكذا الصورة علَّة المادة من جهة أن المادة لا وجود
لها بالفعل إلا بالصورة، وكلٌّ من المادة والصورة تقال بالقياس
إلى الأخرى وكلتاهما نسبتها إلى المركَّب نسبة الجزء إلى
الكل.
أما إذا لم تكن العلَّة جزءًا لمعلولها، فإما أن تكون مباينة أو
ملاقية لذات المعلول؛ فإن كانت ملاقية فإما أن ينعت المعلول بها، وهذا
كالصورة للهيولى، وإما أن تنعت بالمعلول، وهذا كالموضوع للعرض، وإن
كانت مباينة فإما أن تعطي معلولها الوجود الكامل وحينئذٍ تكون فاعلة،
وإما أن تعطي الوجود؛ بل تعمل لأجل الوجود، وعندئذٍ تتغيَّر وتصير
غائيَّة، فتكون العلَّة الفاعلة — في نظر الشيخ — هي ما منه يكون شيء؛
أي الانتقال من وجود إلى وجودٍ آخر أو الانتقال من اللاوجود إلى
الوجود، وتكون العلَّة الغائيَّة هي الهدف الذي ترمي إليه العلة في
إبرازها الفعل إلى الوجود.
إن المادة والصورة هما المبدآن الباطنان للموجود المادي، وأما
العلَّة الفاعلة فهي المبدأ الخارج للصيرورة أو التكوُّن، قال الشيخ الرئيس:
والغاية بما هي شيء فإنها تتقدَّم سائر العلل، وهي علة العلل
في أنها علل، وبما هي موجودة في الأعيان قد تتأخر، وإذا لم تكن
العلَّة الفاعلة هي بعينها العلة الغائيَّة كان الفعل
متأخِّرًا في الشيئية عن الغاية؛ وذلك لأن سائر العلل إنما
تصير عللًا بالفعل لأجل الغاية وليست هي لأجل شيء آخر، وهي
توجد أوَّلًا نوعًا من الوجود فتصير العلل عللًا بالفعل، ويشبه
أن يكون الحاصل عند التمييز هو أن الفاعل الأول والمحرِّك
الأول في كلِّ شَيء هو الغاية؛ فإن الطبيب يفعل لأجل البرء،
وصورة البرء هي الصناعة الطبية التي في النفس، وهي المحرِّكة
لإرادته إلى العمل، وإذا كان الفاعل أعلى من الإرادة كان نفس
ما هو فاعل هو محرِّك من غير توسط من الإرادة التي تحدث عن
تحريك الغاية، وأما سائر العلل فإن الفاعل والقابل قد
يتقدَّمان المعلول بالزمان، وأما الصورة فلا تتقدَّم بالزمان
البتَّة، والقابل دائمًا أحسن من المركَّب والفاعل أشرف؛ لأنَّ
القابل مستفيد لا مفيد، والفاعل مفيد لا مستفيد.
٣
وبكلامٍ وجيز: إن ابن سينا يثبت ستَّة أنواع من العلل؛ أولًا: العنصر
أي مادة المركَّب، ثانيًا: صورة المركَّب، ثالثًا: الموضوع، رابعًا:
صورة الهيولى، خامسًا: الفاعل، سادسًا: الغاية، بيد أنَّ مادة المركَّب
تذوب في الموضوع؛ لأنهما معًا عِلَّة بالقوة للشيء المزمع أن يكتسب
وجودًا، وصورة المركَّب تمتزج بصورة الهيولى؛ لأنهما معًا عِلَّة
بالفعل.
ومعلوم أن الهيولى والصورة لا يمكنهما أن يكونا عِلة إلا للصادر
عنهما الذي هو ممكن بذاته، ومن هذا الاعتبار نعرف أن ابن سينا لا يؤمن
إلا بوجود عِلةٍ واحدةٍ مطلقة، وهي واجب الوجود فإن جميع الأشياء التي
تصدر عن واجب الوجود لا تملك بذاتها إلا إمكانًا فقط؛ ولذلك هي معلولة،
٤ إذن كان شيشرون الفيلسوف الروماني على حق عندما صرخ في
ساعة نزعه: «يا علَّة
العلل ارحمني
Causa causarum misereme.»