ما هو الله تعالى؟
فُطر الإنسان على حب معرفة الفاعل، فإذا شاهد تمثالًا أبدعته يدُ فنَّانٍ عبقريٍّ، أو رأى رسمًا متقحِّلًا لا تناسُب بين خطوطِه وألوانِه فأول عبارةٍ يرسلها: «مَن هو الذي صنع ذلك؟» إذن لا تثريب على الفلاسفة إذا تأمَّلوا الموجودات مليًّا وتساءلوا عن مبدعها، وخصَّصوا القسم الأوفر من كتاباتهم لمعرفةِ الخالقِ، وتحديد العلاقة القائمة بينه وبين مخلوقاته.
(١) الوجود الإلهي
يعتقد ابنُ سينا كأستاذه الفارابي أنَّنا نتسلَّق من معرفة الموجود النسبي إلى معرفة الموجود المطلق، أو بعبارةٍ أخرى أصرح: معرفتنا للوجود الممكن توصلنا إلى معرفة واجب الوجود.
كل شيء يعتريه الفساد يمكنه أن لا يوجد، وكل شيء يولد يمكنه أن يوجد، فيكون إذن تغيير الموجودات في نظر الرئيس متعلِّقًا بالإمكان، إلا أنَّ سلسلة الممكنات لا تقدر أن تكون غير متناهية؛ لأنَّها إذا كانت غير متناهية تبقى ممكنة الوجود بذاتها، ولا تستطيع أن تعطي ذاتها الوجود، فيلزمنا إذن أن نقسِّم الموجودات إلى موجود ممكن وموجود واجب، فالممكن الوجود هو الموجود الذي متى فُرض غير موجود أو موجودًا لم يعرض منه محال. والواجب الوجود هو الموجود الذي متى فُرض غير موجود عرض عنه محال، وبما أن الموجود الممكن الوجود لا يقدر أن يتناول وجوده من ذاته لكونه ممكنًا، فيجب إذن أن يأخذ وجوده من الموجود الواجب الوجود الذي يعطي الممكنات الوجود وهو ما نسميه الله.
إن المعلم الثالث لا يقف عند هذا الحد في إثبات وجود الله؛ بل ينتقل إلى برهان العلل، نحن نرى أن كل موجود ممكن؛ إما أن يكون مع إمكانه حادثًا أو غير حادثٍ؛ فإن كان غير حادث، فإما أن يتعلَّق ثبات وجوده بعلَّة أو بذاته؛ فإن كان بذاته فهو واجب لا ممكن، وإن كان بعلة، فعلته معه والكلام فيه كالأول.
(٢) ماهيَّة الله وبساطته
الماهية والوجود في الله هما شيء واحد؛ لأننا إذا فصَلنا ماهيته عن وجوده جعلناه متجزئًا وقابلًا للقبْلية والبعْدية وفيه شيء ما بالقوة، الأمر الذي لا يلائم واجب الوجود؛ لأنه هو الكمال بالذات، والوجود المطلق والعلَّة الأولى والمبدأ الأول لجميع الموجودات، والواجب التام الذي ليس له حالة منتظرة.
وبما أن واجب الوجود خالٍ من القوة، وكل شيء فيه هو بالفعل، فيتبع ذلك أنه تعالى بسيط. وهذا واضح لأن الله ليس بجسم، ولا مادة جسم ولا صورة جسم، ولا مادة معقولة لصورة معقولة، ولا صورة معقولة في مادة معقولة، ولا له قسمة لا في الكم ولا في المبادئ ولا في القول، ولا يقع تحت حد أو برهان، بريء عن الكمِّ والكيف والماهية والأين والمتي والحركة … بهذه الأقوال ونظائرها يحدِّد الشيخ الرئيس علاقة الخالق بالمخلوق، ويطلعنا على أن الله هو فوق الكل، وقادرٌ على كل شيء.
(٣) وحدانية الله وحقيقته
إن واجب الوجود واحد من جهة تماميَّة وجوده، وواحد من جهة أن حده له، واحد من جهة أنه لا ينقسم لا بالكم ولا بالمبادئ المقوِّمة له ولا بأجزاء الحد، وواحد من جهة أن لكل شيء وحدة تخصُّه وبها كمال حقيقته الذاتية، وأيضًا هو واحد من جهةٍ أخرى، وتلك الجهة هي أن مرتبته من الوجود وجوب الوجود، ولا ندَّ له ولا شريك، أليس إن هذه النتيجة الفلسفية الجميلة هي ترديد لقول القرآن: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
ولمَّا كانت حقيقة الشيء في وجوده الثابت له كان لا حق أحق من الواجب الوجود، ومن يملك الوجود المطلق هو بالوقت نفسه حق بكل معاني الحقية، وقد يقال أيضًا: حقٌّ لما يكون الاعتقاد به صادقًا فلا حقَّ أحقَّ بهذه الحقيقة مما يكون الاعتقاد بوجوده صادقًا ومع صدقه دائمًا، ومع ذلك دوامه لذاته لا لغيره.
(٤) عقل الله وعشقه
إن طبيعة الوجود بما هي كذلك غير ممتنع عليها أن تعقل، وإنما يعرض لها أن لا تعقل إذا كانت في المادة أو مكتنفة بعوارض المادة، والحال أن الله مجرَّد عن المادة ولواحقها فإذن هو عقل، وبما أنه يعرف أن لذاته هوية مجرَّدة فهو عاقل ذاته، وبما يعتبر أن لهويته ذاتًا فهو معقول، وكون الأول عاقلًا ومعقولًا لا يوجب فيه كثرة البتة؛ لأن تحصيل الأمرين ليس إلا اعتبار أن له ماهيَّة مجرَّدة هي ذاته، وأن ماهية مجرَّدة هي ذاته له، وها هنا تقديم وتأخير في ترتيب المعاني والغرض المحصَّل شيء واحد بلا قسمة.