– آه!
– ما بك؟
– ضاقت نفسي سئمت نفسي من نفسي.
– نفسك تسمعك، تكلم!
– ماذا يجدي أن أتكلم؟
ماذا يبقى غير الصمت وماذا يبقى؟
غرقت سفن الغرقى قبل الغرق،
والطفل تمنى لو لم يولد أبدًا،
والموت تسكَّع في الطرق.
ينتظر البائس صوت البوق ويرنو للأفق،
والطير الواجم شلته نذر الشفق.
نعق البوم، وفي عينيه ارتسمت أطلال الكون وفي الحدَق.
وتنهد من لا زالت فيه القدرة أن يتنهد،
والكل شقي.
– ألهذا جئت؟ ألا تندم؟
– جئت أبثك أحزاني،
وأريك عيون الجرح وألتمس البلسم،
أتلقف منك الحكمة.
– القردة منك ومني أحكم.
فأنا لا أنظر، لا أسمع، لا أتكلم.
– سيعز عليَّ سكوتك عني،
من يسمعني إن صدت نفسي،
وتخلت عني في بؤسي؟
هلا حببت إليَّ الغرب وأوصيت بمركب شمس؟
رب الأرباب سيسمع شكواي هناك، و«آمون» لن يخزل همسي،
و«جحوتي» يقضي في أمري،
ويدون مظلمتي «خنسي».
– لكأني أسمع صوت المتعب يلين عيشه،
من مملكة الغرب يجيء ويحمل نقشه،
يسترحم نفسه؛
أن تمضي معه في مركبه، فتقاوم طيشه،
وتعاتبه وتهدئه وترمم عشه.
– هل جئت لأشكو من يأسي؟
– أحياتك تقبل في النعمى، في الشدة ترفض والبأس؟
– يا أختي مهلًا لا تأسي،
سأسوي مثواك بنفسي،
وأقيم الظلة تحميك من البرد ومن قيظ الشمس.
– عش يومك، لا تقْسُ عليَّ
– إن أقسُ فإنك لن تقسي،
ولمن أتكلم أو أشكو،
إن صدت وابتعدت نفسي؟
ولمن أتكلم؟ واليوم يُعاف اسمي
أكثر من رائحة الرخم بيوم القيظ المحموم،
ولمن أتكلم؟ والجار يدبر همي
وصديق الأمس نعاه البوم؟
ولمن أتكلم؟ قر الناس على السوء،
وجحدوا الحسنى والإحسان.
ولمن أتكلم؟ والماضي يُنسى من ذاكرة الناس،
ولا هون من إنسان.
ولمن أتكلم؟ فقد القلب رضاه،
وظل الصاحب مفقود.
– ما بالك تتمنى الموت؟
هل يبدو اليوم أمامك،
فتخاطبه، أم طيف زارك في النوم؟
– يبدو الموت أمامي اليوم،
كشفاءٍ من مرضٍ طال وعتق من ذل الأسر.
كشوقِ سجينٍ للبيت الآمن بعد سنين قضاها في القهر.
– دع شكواك، وألقِ بخورك فوق الجمر،
واهنأ في يومك.
– اهنأ؟ هل تخفى عنك هموم القلب؟
– افتح قلبك، هات السر!
– يا نفسي، لست بأول من يرثي نفسه.
ينعى غده، حاضره، أمسه.
أرثيها مثل الشاعر «عبد يغوث»،
٢ أو «مالك»،
٣ أو «فيون».
٤
علَّ دموعي تسقط في حقل فؤادٍ محزون،
فتنبه بذرة أمل أو شوكة غضبٍ مدفون.
أحمل مصباح «ديوجين»
٥ المسكين
أهتف في وجه الناس لتسمع أذن من طين:
أنتم في جنح الليل، متى تصحون؟
دولاب الزمن يدور وأنتم تنقرضون وتندثرون.
أشعلتم حرب بسوس أخرى،
وهزمتم بعضكم البعض، وأنتم مهزومون،
واستسلمتم لطغاة الدنيا والدين.
– تسقط قطرات الدمع على قلبك،
كالمطر على أرض مدينة،
هجر الناس مساكنها.
تروي زهرة أمل،
أم شوكة ألم بعيوني؟
– يروي دمعك شجرة أمل في غابات شجونك وشجوني.
وغدًا ستمر خطى الخطاب، ويقطف من ثمرات عيونك وعيوني.
يومًا ينجز وعد سنين؛
فالرجل أمين!
– أتظنين؟
– كفكف دمعك يا عبد يغوث!
يا مالك،
٦ ممن ترجو الغوث، وليس هناك مغيث؟
الدمع على خد البطل مُهان.
ذابت أعمدة الملح، وثار الموتى في الأكفان.
وقريبًا تلد الأرحام الفرسان،
والفارس لا يذرف إلا دمع الفرح
على صدر الشجعان.
– أقدام الخيل قد انكسرت،
ساحت في رمل الأحزان.
والفارس مقهورٌ يبكي
في ظل جدار الكتمان.
لا الشعر يفيد ولا الدرع المكسور يذود الأشجان.
– لا الشاعر أنت، ولا الفارس، قل لي من أنت؟
– سؤال يحتاج الرد عليه لألف سؤال!
لُغز يفترس العمر الضائع بين القدرة والآمال.
– أرني وجهك، مرآتك.
– مرآتي؟ لا تبصر مثلي.
هل تكشف ما لم تكشف لي؟
– في كل صباح تنظر وجهك في المرآة،
تكرهه، تلعن صحبته، تهرب من رؤياه.
تسمع شخصًا آخر وتراه،
تتجول في طرقات النفس وتعجب مما تلقاه:
أعراس جذلى ومآتم، موكب غابات وبساتين،
جنات نعيم وجحيم، رقص ملائكة وشياطين.
تدخل من أبواب الرؤيا، وتعانق
محبوبًا هجرك منذ سنين.
لكن، آه من وحدتك الأزلية وسط الموكب، يا مسكين!
– وحدتي الأزلية، جرحي.
ألديك دواء يا نفسي؟
قولي وأشيري بالنصح.
– ما جدوى الصمت أو البوح؟
فدواؤك داؤك لو تدري،
والبلسم يكمن في الجرح.
تمشي وحدك،
تبكي وحدك،
وحدتك تنادمها وحدك،
حين يجيء الموت ويلجم خيلك،
من منهم يسبل عينَيْك ومن يستر عريك؟
من يلقي حفنة رملٍ وتراب فوقك؟
تتسلق جبل الوحدة وحدك.
آه، كم في الدنيا من أشياء عجيبة!
والأعجب أن يتخلى الإنسان عن الإنسان.
– أنا لا أتخلى، بل أستغني كالأشجار
تحيا في الغابة، لم تسأل عن رغبتها،
لم يطلب منها أحد أن تختار،
تنمو، تزدهر، تشيخ وتذبل أو تنهار.
لكن تحمي وحدتها باستمرار،
وتصر عليها كالنساك بلا إصرار.
ماذا تحتاج الشجرة؟
تتنفس من أنفاس الريح تقبلها الأمطار،
تطعمها الأرض وزاد الأرض غني بالأسرار،
لكن الشجر ضنينٌ بالأسرار
لا يفشيها إلا الخطاب أو النار!
ماذا أحتاج إليه؟ ماذا يحتاج الإنسان؟
الجرع تروي عطشه،
واللقمة تستر عيشه،
وامرأة تدفئ فرشه،
والنور ليطرد عنه الوحشة،
والكلمة تحرس من ريح الصدفة عشه،
حين يغيب ونطفئ الرعشة،
ويشيع ملك الأحزان المرة نعشه،
يحنو فوق القبر ليحفر نقشه:
«منكسرًا عاش، منكسرًا مات،
في الظل اليائس شيَّد عرشه،
سار من الوحشة للوحشة.»
ألمح في عينيك الضحكة.
– ما زالت صبيًّا بين ذراعَي أمك،
لم تكبر أبدًا.
فمتى تعرف موضع قدميك،
وتطرح عكازًا تستند عليه أو يستند عليك؟
ومتى تقنع أو تغتبط بشيء؟
تكره نفسك،
فتفوح روائح منك،
كالماء الآسن في مستنقع.
تتناثر فقاعات الملل السأم الضيق الأبدي المفزع.
– يا نفسي، لا تشتطي في اللوم المقذع.
إن كان الذنب شنيعًا، ذنب العالم في حقي أشنع،
والحمل ثقيل مفجع.
– ماذا لو جربت:
أن ترسل طائر عينك في أغوار النفس،
وفوق صدور الموجودات؛
ليرفرف بالحب عليها، يغرق في النبع المترع
بالحكمة والمعرفة ويرجع؛
ليشيد العش الدافئ بالحب ويهجع؟
– يفزعني الصمت الخالد في أرجاء الكون المفزع.
٨
وجه الموت شنيع، وجه القتلة أشنع،
والظلم الراكض في الطرقات
يدوس الناس ويضمر ظلمًا أفظع.
وأنا أتعثر في عجزي،
وطريقي تذهب، لا ترجع.
– هاجر، واهجر تلك الطرق الملتوية طرًّا،
حاول أن تصبح سيد أقطارٍ أخرى.
سيد نفسك،
وادفن جسد عبوديتك الماضية،
وواجه موتك،
وتحدَّ الخطر لتولد أو تهلك.
لا تسرف في خيبة أملك.
– ماذا أفعل، ماذا أملك؟
– قبِّل ألمك، غيِّره بمطرقة الخلق،
واجبل من طينة ذاتك روحًا ينطلق.
وإذا فاض بنفسك نهر العشق،
فاروِ الأرض العطشى،
وانفخ فيها أنفاس الصدق.
ماذا تبغي؟
– تدرين بما أبغيه فكم كابدت الشوق؟
لمسة صدق.
– في الفن؟
– وفي العيش، وفي الشعر الحق.
– الشعر زهور، ذات جذور،
تنمو وسط الدود وفي أعماق الطين،
لا في الجنة أو بين الحور العين!
طوبى لرجالٍ عرفوا كيف يعيشون،
وكيف يموتون،
كما عرفوا كيف يغنون!
– لست بشاعر.
إني أحيا الشعر ولا أكتب شعرًا،
تفتنني كل الأشياء وتملؤني ذعرًا.
في قلبي طفل مذبوح،
في عقلي شيخ مجروح،
تصدح عيني كالعصفور على شجر الليل وفي غابات المر
تنوح.
تطفر بالدهشة والألم وأحزان الموتى والأحياء،
أحزان لا تدركها الأبصار ولا الأسماء.
– من يدريك لعل العصفور يحلق في الأجواء،
كسفينة أمل، زورق سعد يحمل فوق جناحيه السعداء؟
من يدريك بأن العصفور
هو كرة الكون المسحور،
تجري في فلك الغبطة وتدور؟
عشت طويلًا في قبضة شبح حالم،
مرآة في غابات العالم،
ينعكس عليها غضب الريح وهمس الطير،
قوقعة في قاع البحر الساكن،
تجتر عذاب الموج وأشواق السمك الهائم
في أحشاء العقل الباطن.
هل حانت ساعة صحوك من هذا الكابوس القاتم؟
هل يستيقظ فيك الإنسان،
هل يلقي حمل الشبح الجاثم
في آبار النسيان،
ليهب النور من الأكفان
وتنبت فيه القوة والعينان؟
– ها أنت سرحت مع الأحلام.
– بل أنقذك من الأوهام.
– ووهمك أنت؟
– هات البرهان!
– هل يخرج فوق الإنسان
من شبح، صورة إنسان؟
هل تخرج صورة إنسان من صلب قرود،
أو عملاق أشقر من نسل الأقزام السود؟
– ويلك، هل تكفر بالإنسان؟
– بل أحترم الإنسان، عبدًا أو حرًّا كان،
أحيا وأموت لأجله،
آكل من ثمرة عمله،
روحي تكتئب وتكدح؛
كي تروي شجرة أمله.
أَوَليس شريكي في الوحدة والصمت،
أخي في المولد والموت؟
أوَلا يجمعنا سقف واحد
في بيت الرعب القاتم؟
أَوَلا نجلس في ظلٍّ واحد،
تلقيه شجرة هذا العالم؟
– لو تتشبث بحبال الرؤيا في أعماقك!
لو تصعد فوق الجبل الرائع مع كل رفاقك؛
لعرفت بأن الإنسان
أكثر من إنسان.
أنصت للصوت الهاتف في صحرائك،
يهدر بالكلمة والحرف وبالمعنى الشائك.
أصغِ لصوت إله واحد
يطبق بيديه على أعضائك.
من يسمعك إذا صحت من الألم سواه؟
من يتحمل رعبك إلَّاه؟
أنصت للصوت الممطر،
تثمر أشجار بكائك!
تشرق شمس يقين في كبد سمائك،
تتفتح زهرة قلبك في عتمة صبحك ومسائك،
يتفجر نبع الخضر ببحر ظلامك،
تثب الأفكار على صوت ندائك،
ينشر عقلك …
– عقلي كنسيج هاوٍ تلطمه الريح،
مصيدة ذباب العالم،
مسكن كل جريح،
مأوى كل كسيح،
ينفره مع الأحزان المرة والأفكار المرة،
في سجن الحرف،
إخوته الضمة والكسرة وحروف العطف.
ما يشفيني أن الكلمات بلا سيف.
ماذا أفعل بنسيجٍ هاوٍ في وجه الغلظة والعنف؟
هل يبقى إلا الصمت العاجز، إلا العزلة والخوف؟
عشب أحارب في معركة خاسرة بسلاح الوهم.
آه لو كنت سمعت نداء الحب فلبيت،
وبسطت يدي العاريتين لوجه الشمس أو الموت؛
لحملت حطامي فوق حطام سفين يعبر بي هاوية اليم،
أو يسعفني في ليل الصمت.
وعرفت حقيقة حالي قبل فوات الوقت.
ما عشت حياتي، مت وراء قناع جهم،
بل سبعة أقنعة نسجتها كف الوهم:
الحكمة، والصبر، وقار العالم والسمت!
– لا يكره قلب الحكمة أن ينفذ فيه الحب!
– قالوا: الرأس حكيم غطاه الشيب،
والقلب كبير، أكبر من أن يكره ويحب.
ومضوا بضميرٍ مرتاح لم يثقله الذنب،
لم يلتفتوا كي يجدوا العابد،
يحترق كما احترق البوذي الزاهد
١٠
ليصير ترابًا يطفئ نار الحرب،
ويخلص لحم الشعب البائس من ناب الذئب.
ها هو عارٍ مجروح كيسوع بعد الصلب،
ضنت حتى الريح بأن تحمل شكواه إلى الرب،
بعد فوات العمر وتعب القلب،
ما خلص حتى شعره كلب!
– وعرفت الهوة بين القول وبين الفعل
بين الحرف وبين السيف،
بين النطق وبين الخلق؟
– لم أعرفها، غصت بلُجَّتِها حتى العمق.
أشهق، أختنق، وأحترق وأحرق.
تفجعني الهوة بين القدرة والآمال،
بين الكلمات وبين الأفعال.
كم أحببت الكلمات!
كم صليت لها وركعت!
أمسح بالدمع الأقدام،
أضفر رأسي بالأوهام،
جعت، ظمئت،
من زاد الكلمات طعمت سقيت.
وعلى صدر الكلمات غفوت.
أطرق أطرق كي ينفتح الباب،
أجمع خشبي والأحطاب؛
لأمد الجسر إلى الأحباب
سُدَّت في وجهي الأبواب،
تداعى الجسر وشاخ الحاطب والحطاب،
وافترس الكلمات كلاب،
دربهم كذاب الزفة والنصاب.
ظل الحلم يداعبني أنا وصحابي
أن نعدل قامة هذا الكون المقلوب بقلمٍ وكتاب.
هل تصلحه كلمة صدقٍ من قلبٍ شاب،
ما دام الحب غريبًا يستجدي بالأبواب،
والعدل كسيرًا ينتظر الإذن من الحجَّاب؟
مرت أيام العمر، تساقط يوم موءود
في يومٍ آخر مولود كابي.
وانغرس السهم بقلب الوردة،
جفت أوراق شبابي.
كنا نقف على الأقدام ونقف الآن
على رأسٍ يشتعل الشيب بمفرقه الخابي.
ويدب القلب،
ويعرج من صحراءٍ لسراب.
تسألني ما بك؟ أصمت.
أسأل نفسي: حقًّا ما بي؟
أصرخ من هاوية الخمسين فيختنق سؤالي وجوابي.
ها أنا أهبط تل العمر،
تمضي الأيام سراعًا نحو القبر.
تتلفت عيني: أمسي صخر،
وغدي قفر،
وعلى طول طريقي شجر مر.
ويوسوس شيطان غر:
لذ بالظل قليلًا من وهج الحر.
كيف أذود الطير
عن ثمر لا أبلو منه إلا القهر؟
يا شجر العمر!
يا شجر العمر!
أغصانك هذي، أم تتدلى منك مشانق خضر؟
مشنقة للسر النائم في تابوت الصدر،
ولأطفال الحب الموءودة قبل طلوع الفجر،
للقبلات الحلوة لم أطبعها فوق شفاهٍ حمر.
للرغبات المجنونة،
والشهوات المسجونة،
والآمال المدفونة،
في كفن الحكمة والفكر
تمضي الأيام سراعًا والأيام شجون،
وتعلل نفسك: سوف تكون.
وتمر اللحظة بعد اللحظة من الفرس المحموم
ينظر في عينيك لتقبض خصلات الحظ المقسوم،
فتشيح بوجهك، تهمس: انتظر الفرس المأمون!
سقطت خيل الزمن المطعون.
وتعثر يوم محزون في يومٍ آخر محزون،
وتنكرت لنفسك حين أضعت وصية مت لتكون.
لا استدفأت بنور «أبوللو» المفتون،
ولا شب بدمك حريق من كأس «ديونيز» المجنون.
١٢
– لو شب بدمك حريق من كأس «ديونيز» الملعون،
لو كنت رقصت كرقص «الباخيات» المجنون؛
لغدوت ظريفًا كالجدي المأفون،
وسعيدًا وسط السعداء.
– بل قولي وسط التعساء.
كيف أكون سعيدًا وسط التعساء؟
أو أفرح برنين الكأس أو الذهب اللامع بين الجوعى
والفقراء؟
من يمكنه أن يبقى حيًّا وسط الأشلاء؟
أحيانًا أضحك من شدة نزقي أو خطلي،
أسرع أضع الكف على شفتي من الخجل؛
فالضحكة تصبح إثمًا أفدح من إثم القتل،
حين يسيل الدمع من المقل.
والكلمة تصبح …
– دع شأن الكلمة فهي رنين وطنين،
إن لم تسرج مصباحًا يهدي ليقين،
إن لم تحمل بالعمل كما تحمل أم بجنين؛
فالكلمة …
– ما جدوى الكلمة؟
صمت الشعب كصمت الطين،
وحواة السيرك الخالد يجتهدون
أن ترقص رقص القردة، تلعب بالبيضة والحجر،
تغني تضحك تبكي للجمهور المسكين.
أين الحق من الباطل؟ كدت أسلم بجنوني!
– لو كنت تغوص ببطن الأرض مع الفلاحين؛
لعرفت الحق.
لو كنت تعلم أميًّا كيف يميز بين الميم وبين النون؛
لعرفت الحق.
لو كنت تجاهد في ساحات فلسطين؛
لعرفت الحق.
– معك الحق، معك الحق.
يا ريح الصدق!
هبي واقتلعيني من أوحال الرق.
يا وجهي الباكي، مزق أقنعة الموت بلا رفق.
اخرج من جسد الليل، ادخل في جسد الريح.
وتأهب للمطر القادم والبرق.
– كلمات، في كلماتٍ، في كلماتٍ
كالشحاذ المتسول من شحاذ تمشي في الطرقات.
ومتى يحدث هذا؟
– حين تتم المعجزة وينفجر البركان العاتي،
يطمر آثار القهر ويبعث كل الطاقات،
كل ينابيع الخلق لدى الأحياء-الأموات.
حين تتم المعجزة.
– فات زمان المعجزة؛
فواجه سيف اللحظة واليوم الآتي.
هذا الزمن الحاضر.
– إنا لم نختر هذا الزمن المجنون؛
لم يسألنا أحد أن نولد في هذا البلد المحزون،
لم يسألنا أحد أن نرحل فوق سفين
يغرق في جوف التنين.
قولي: ماذا نفعل؟
ماذا نفعل؟ قولي.
– ما يفعله البحارة فوق السفن الغرقى،
والربَّان العابس في وجه العاصفة الكبرى.
– هل يملك إلا أن يغرق،
ويظل يحدق ويحدق
في فك الطوفان المطبق؟
– بل يقف شجاعًا،
ويحب مصيره،
وينازل محنته وحده.
مد يديك إلى أيدي الغرقى،
وابنِ سفينة نوحٍ أخرى.
– أتقولين سفينة نوح؟
آه من نوح وسلالة نوح!
يا نوح الصامت كالأوثان،
يا نوح الغارق في النسيان،
يا نوح الذاهل عنا،
هذا زمن الطوفان.
زمن وسام العار على صدر الطغيان،
كيف سقطنا تحت سنابك خيل العصر؟
وكيف اختل بيدنا الميزان؟
كنا السادة. في طيبة، مأرب،
في القدس وفي الأندلس وكان وكان.
لا تسأل أرواح الموتى واسأل عنا الآن،
حيث ينام المسجون مع السجان،
واللاجئ في خيمته المشتعلة بالنيران،
يحلم بجناح براق وعد به الرحمن؛
ليقبل خد الصخرة ويطوف بالأركان،
في زمن الجوع الكافر، وثب القرد على عرش السلطان.
واليوم تهاجر أسراب النمل الخائف
من زلزالٍ أو بركان.
يا نوح الغائب، هذا زمنك،
زمن الطوفان.
– كفكف دمعك!
– إني أغرق،
– بل تغرقني في الطوفان.
– إني أنهار،
وينهار على رأسي سقف الدار،
أنجرف مع التيار
نحو الهاوية بغير قرار.
تلطمني كف القيصر والشرطي الجبار.
هل توقف زحف السيل الأسود
كلمات أو أشعار؟
ماذا أملك إلا الدمع،
أسكبه في عينيك لتنسى طعم العار.
ثم ألوذ ككلبٍ يحتضر بجنب جدار،
وأحدق في سحب الغيب.
وأسأل: من يحميك من الإعصار؟
– ومن يحميني منك؟
– مني؟!
– تتحسر، تبكي، تحتضر بجنب جدار.
هل يبدو الموت اليوم أمامك،
فتحن إليه حنين العائد للدار؟
تتمنى لو ذبت به ذوبان الموجة في أمواج البحر الهدار.
أوَحقًّا تتمنى الموت؟
– أتمنى الموت الحق.
أنظر في عينيه، أحدق
وأعانق وجه الخطر المحدق
ويعانقني فأكون بحق
أولد، أبعث، أحيا في صدق.
الموت جليل وجميل،
كجمال المجد أو الشعر.
والموت يعمق ويصدق،
هو ثمرة عمري أو عرقي.
هبني يا ربي أن ألقى
معشوقي في ليلة عشقي،
وعزائي عن رحلة سفري
وذد الأطيار إذا جاءت؛
كي تأكل من ثمري المر.
قد عشت بقبري ما عشت؛
فما ضر يغيبني قبري؟
ما ضر أموت لكي أحيا،
كي يشرق من ليلي فجري؟
– فجرك؟
– أسمعت؟
– ألا تدري؟
وفهمت، فسرك من سري
– قد كنت أثرثر، معذرة!
من غيرك يقبل بالعذر؟
ولمن أتكلم يا نفسي،
وأبوح بسري أو جهري؟
– يكفي ما قلت، ألا تسأم؟
– ولمن يا نفسي أتكلم؟
وأبشر بالفجر وأحلم.
– الطير المتعب نام فنم،
– أأنام؟
ونحن نيام منذ دهور.
عمى، فمتى تنفتح العين،
وتنفتح الأيدي الكادحة وينغلق الفم؟
– حين يؤذن ديك الفجر.
– إني أنتظر أذانه.
– لا يكفي أن تنتظره،
اعمل له!
الفجر قريب لو تعلم؛
فتأهب، واعمل، وتعلم؛
حتى لا تشكو أو تندم،
وتلوذ بحكمتك وتحلم،
كالقرد الأعمى والأبكم.
– الفجر؟!
– الفجر
هو الأحكم!
هذه سطورٌ قليلة من أنشودة، أو قصيدة طويلة تعد هذه البكائية تنويعات
عليها. ولعل هذه الأنشودة أو الحوارية أن تكون أقدم مرثية عرفها
العالم. إنها مناجاة رجل تعِبَ من الحياة، فراح يحاور نفسه التي تقنعه
بالتمسك بدنياه — دنياه التي يئس منها، بعد أن اختلَّت فيها كل
الموازين وانقلبت كل القيم — بينما أخذ يحن إلى العدالة والحقيقة
والسلام في أخراه. وهي نص مصري قديم حققه وترجمه أكثر من عالم من علماء
التاريخ والأدب القديم (مثل أرمان وزيته وفولكنر وسليم حسن)، وأعطوه
هذا العنوان: «حوار متعب من الحياة مع نفسه»، وحددوا عصره بفترة
الثورات والاضطرابات التي جاءت بعد الدولة القديمة. ومع أننا لا نستطيع
أن نصف هذا الحوار الشعري بأنه مرثية أو بكائية بالمعنى الذي عُرف فيما
بعد، فإنه يعد قطعة من أصدق الشعر وأنبله، وأشده تأثيرًا على
القلب.
غير أن المرثية أو البكائية قد عُرفت في الشعر اليوناني والروماني
القديم؛ لتدل على شكل شعري يتألف من بيتين (كوبليه)، يجري أولهما على
الوزن السداسي، وثانيهما على الوزن الخماسي، ويعبر منذ القرنين الثامن
والسابع قبل الميلاد عن أغراضٍ متنوعةٍ، كالحرب والحب والبطولة
والسخرية السياسية، قبل أن يطلق الاسم المحدد «اليجوس أو اليجابا» على
الحداد على ميت، أو الشكوى من فواجع الحياة والتأمل في مآسيها، وقد
يتسع فيشمل قصائد الحب كما حدث في العصر السكندري والروماني والبيزنطي،
ويظل الحب والشكوى طابعه في الشعر اللاتيني — خصوصًا في عصر أغسطس —
عند تيبولوس وبروبريتوس وأوفيد.