الفصل الثاني عشر
لم يكن ذهاب راشد إلى الحج خطرةً عابرة، ولكن الحقيقة أنه مع كل العربدة التي صخبت بها حياته مؤمنٌ عميق الإيمان، وهو منذ تزوج استطاع أن يجعل من خديجة أُنسه الصاخب حين يشاء، وزوجته حين يقتضي الأمر، فهو تائب.
وحين أتى إليه أسامة أراد أن يقفل من كتابه صفحات يخشى في فترات ملل أن يُغرى بفتحها ويعود إليها.
فصحب خديجة واتجه إلى بيت الله، واستلم أركان الكعبة، وتغشَّاه ذلك الرهب الأمين الذي يعرفه من يعرفون الله، وانسربت من عينَيه الدمعات، والتفت إلى خديجة تظلها صفحة البيت الحرام، فرأى في وجهها الخشوع حيًّا فوَّاحًا بأريج من العطر، حسب للحظات أنه يراوحها من سموات صاحب البيت، واستغفر الله وأطرق. وظلت هي رانية العينين إلى الكعبة يوشك من يراها أن يظن أنها تستشف من وراء الأشياء وجه عزيزٍ كريم.
طافا وأدَّيا مناسك الحج، وانتقلا إلى بيت النبي، وما إن وقف في رحابه راشد حتى ذهل عن الدنيا وتولته خفقة أرعشته؛ فإذا هو بكاء وبكاء، يكاد جسمه يستحيل إلى عبرات، وارتمى على أعتاب النبي كأنه صديقٌ قديم يلقي بنفسه إلى أحضانه، وراح يصيح: هذا مكان الخطَّائين يا رسول الله فاشفع، اشفع فربما أخطأنا لتشفع.
وأحسَّت خديجة أن بينها وبين النبي سببًا؛ فهي سمية حبه الأول، وحضن رسالته الدفيء، وهي منذ عرفت الحياة تركع في إيمان وتسجد في صدق مع نفسها ومع الله. إن القبر الذي أمامها يضم من الدنيا أحب الدنيا إليها، ويضم من الآخرة وسيلتها إلى أجمل ما تعد به الآخرة من لقاء وجه الله.
نسي راشد أن بجانبه زوجته، بل نسي أنه زوج، ونسي أن له ابنًا ينبغي أن يدعو الله له في هذه السدة الزكية.
ونسيت خديجة أنها في صحبة زوجها، بل ذهلت عما يحيط بها، ونسيت وهي الأم ابنها.
حتى إذا هدأ بعض الروع من الزوج والزوجة أشار المطوِّف في هدوء صوته، وكأنه أمرٌ عادي ليس له ما له من جلال وسمو.
هنا كان ينزل الوحي على رسول الله.
وانتفض راشد وكأنما مسَّه المس. هنا، هنا التقت السماء بالأرض، أكرم سماء بأكرم من في الأرض في آخر لقاء عرفه الكون. هنا انقلبت موازين العالم من الجبروت إلى المساواة، ومن العزة بالإثم إلى عبادة رحمن السموات والأرض، ومن الفجور إلى العفة، ومن الوهم إلى الحقيقة، ومن عبث الحياة والموت إلى مجد الدنيا والآخرة، ومن الحضيض إلى القمم الشامخات. ارتمى بجانب مكان الوحي وراح ينظر إليه في خشوعٍ وحب، ثم استجمع وقام فصلى صلاة لله، وحين ختم الصلاة أفاق إلى خديجة تنهي صلاتها هي أيضًا.
لقد زار راشد العالم أجمع، ولكن شيئًا لم يزلزل كيانه جميعًا كما زُلزل في رحاب الله وفي حضرة النبي الأعظم، ليس متصوِّفًا وإنما هو مؤمن، فما هذا الذي لقف نفسه جميعًا وهزَّها، فانتفضت كشجرة في بواكير حياتها تناوحتها ريحٌ عاتية تقتلع شم الأشجار وعواليها، ولكن العجيب أنه أحسَّ شجرته ازدادت ثبوتًا في سموات الإيمان وفي أحضان الخلود.
أحسَّ أنه يريد أن يذوب تخشعًا وحمدًا لله أنه مؤمن، فبهذا الإيمان تفجرت في نفسه هذه الإشعاعات النورانية فعانق نوعًا علويًّا من السعادة، لم يعرفه في أية لحظة من لحظات حياته، عربيدة كانت هذه اللحظات، أم لحظاتٍ مؤمنة قانتات.
مساكين أولئك الذين لا إله لهم ولا دين ترسو على شواطئه الآمنة الجازعات من أيامهم، والهالع من مضطرب حياتهم، يقطعون حياتهم هباءة هائمة، تقطعت أواصرها بأصولها، وانعدمت طرقها إلى المستقبل، لا تدري من أين ولا تدري إلى أين، باختيارها ألقت بنفسها إلى الضياع، فشمل الضياع ماضي حياتها ومستقبلها وما بعد المستقبل.
ودَّع راشد وخديجة الأراضي المقدسة، واستقبلتهما على الباخرة جماعة من الأصدقاء.
وحين استقر بهما المقام في بيتهما بالقاهرة أقاما حفلًا كبيرًا، دعوا إليه من تعودا أن يدعوهم، ولكن الرهط المدعوَّ فوجئ بشيئين، لو لم يكن الداعي هو راشد لكانت المفاجأة أعظم وطأة وأشد غرابة؛ لقد أقام راشد بمناسبة حجه وحج وزوجته إلى بيت الله الحرام حفلًا غنائيًّا أحيته أم كلثوم، والأعجب من ذلك أن الخدم داروا في الحفل بكئوس الويسكي والكونياك وكل ما تعود راشد أن يقدمه في ولائمه، الشيء الجديد الوحيد الذي خجل أن يعمله في يومه هذا أن يشارك أصدقاءه في شرب الخمر.