الفصل الرابع عشر
نظرت شهيرة إلى ابنتها طويلًا. لم تكن تدري لهذه النظرة سببًا، وإنما هي ألقت عينها على بهيرة ثم ثبتتها، يحسب من يراها أنها نظرةٌ بلهاء خالية من أي معنًى، إلا أن نظرها اتجه إلى هذا المُتَّجه ثم شرد ذهنها وهي في هذه اللحظة، ولكن لو انزاحت عن الإنسان فيها ما يتغلف به الإنسان من أسرار لرأينا في جوانحها هلعًا على ابنتها، أو إذا شئت الدقة في التعبير — وما لك لا تشاء، ما دمت قد التزمت أنا أن أقصَّ عليك، وأن أكون دقيقًا حين أخاطبك — كان هلع شهيرة على نفسها لا على ابنتها. لقد قبلت زواجها من سامي وحسبت أن الزوج بلا شخصية هو أصلح زوج لها، ثم ما لبثت أن تبيَّنت أن الزوج بلا شخصية لا يصلح للحياة مُطلقًا؛ فهو ما يلبث مع الأيام أن يصبح شيئًا بلا طعم ولا لون ولا رائحة، قد يكون مريحًا لزوجته، ولكنها تلك الراحة التي تسعد بها المرأة من خادم في البيت، وتشقى بها غاية الشقاء من زوج يفترض المجتمع أن يكون هو السيد.
وسامي مسكينٌ، لا يستطيع أن يكون سيدًا أبدًا، فالسيد لا بد أن يكون مهيأً بخلقه الشخصي، أو بما له، أو بهما جميعًا.
يمكن أن يكون السيد سيدًا أو رجلًا ذا وجود، إذا كانت الطبيعة قد وهبت له هذا السر العجيب الذي يجعل الإنسان معتزًّا بأنه إنسان، وبأن الله كرَّمه على العالمين؛ فلا ينبغي له أن يذل الإنسان الذي كرَّمه الله فيه.
يمكن أن يكون رجلًا ذا وجود إذا استطاع أن يروِّض أقدامه أن تسير على هذه الشعرة الواهية، التي تفصل بين الإنسان الذي يحافظ على كرامته، وبين الإنسان التافه الذي يحاول أن يحجب تفاهته بغروره.
وتلك موهبة ينميها البيت والمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، وليس من الحتم أن يكون المرء غنيًّا لتنمو هذه الموهبة، وإنما من الحتم أن يكون هذا الإنسان نابتًا بين أناس يعرفون كيف يكرمون أنفسهم، وكيف يكونون كرامًا على الناس؛ يستغنون عن الغنى بالعفة، وعن الغرور بلين الجانب وحُسن المعاشرة.
وقد يستطيع المال أن يحجب عيوب الشخصية المتلاشية، ولكن قليلًا ما يحجبها، ثم ما يلبث الأقربون أن يدركوا الحقيقة، ويسقط حجاب المال، وتبقى الشخصية الزائلة.
وكان سامي يجمع بين الشخصية الضائعة وبين قلة المال، وابتكر لنفسه أيضًا عدم العفة؛ فهو يريد أن يلبس أحسن ملبس ويأكل أحسن مأكل، ولا يجد حرجًا من نفسه ولا من كرامته أن يلقي بهذا الثقل أيضًا على زوجته، غير مكتفٍ أنها تقوم بشأن البيت وحدها.
وقد يكون عيب سامي هذا شيئًا لا يصيب إلا خاصته الأقربين ومَن يلاصقونه في الحياة، ومن أقرب إليه من زوجته؟ ومن ألصق به منها؟! ولكن ألا يكفي أن يُصاب منه هؤلاء؟ وما الناس جميعًا إذا كان هؤلاء لا يكنُّون له الاحتقار؟
حين تسقط قيمة الزوج عند زوجته يصبح كل شيءٍ لها مباحًا. ربما تكون شريفة الجوهر، وربما تكون هي نفسها أبيَّة تنأى بشرفها عن الألسنة اللاهية التي تتميز بالمجتمع؛ لتجعل السر فيه جهرًا، والخفي علنًا، والخبيء شهيرًا، والمستور مفضوحًا.
ولكن زوجًا كزوج شهيرة كفيل بأن يجعلها تنتقم منه، حتى ولو كان عرضها هو أداة الانتقام، وقد تنازعها الرغبة عن العفة، وقد تتغلب العفة آخر الأمر، أو قد تنتظر المرأة انتظارًا غير لهيف وغير مكترث ولكن انتظار ترقب، وقد تعرض لها سانحة الخيانة وقد تتردد وقد تقبل أيضًا.
كانت شهيرة وهي تنظر إلى ابنتها في هذه الفترة التي تتردد فيها، والتي توشك فيها أن تقبل.
وكان الذي يعرض الفرصة صديقًا لزوجها، جمعت بينهما صداقة طبيعية؛ فهو رئيس زوجها في العمل، ويتمتع سامي برضاء شكري بك الكيلاني؛ فهو يحسن أن يكون مطيعًا.
ومرض سامي بضعة أيام فزاره شكري، ورأى شهيرة فتوثَّقت الصداقة بين شكري بك الكيلاني و… وسامي.
وكان طبيعيًّا أن تؤدي هذه الصداقة أن يطلب شكري بك شهيرة هانم كل يوم، ويتحرى أن يكون هذا الطلب وسامي في مكان العمل.
وتنظر شهيرة إلى ابنتها بهيرة.
أي غدٍ ينتظركِ؟!
أبٌ موجود بلا وجود.
وأم لا تمنع غير زوجها أن يتصل بها، ولا ترى بأسًا أن توغل العلاقة إلى أبعد من ذلك.
بهيرة، أي مصير ينتظرك؟!