الفصل السادس عشر
دقَّ جرس التليفون بمنزل زكريا باشا: أنا عبد القادر إبراهيم وكيل وزارة الخارجية يا معالي الباشا.
– أهلًا عبد القادر بك، أهلًا وسهلًا.
– متى أستطيع أن أرى معاليك؟
– وقتما تشاء.
– في أسرع وقت إذا أذنتَ سعادتك.
– الآن إذا شئت.
عشر دقائق أكون عند معاليك.
السن والثقافة والتجارب جعلت زكريا باشا يبدو هادئًا وهو ينتظر وكيل الوزارة، ولكنه كان واثقًا أن شيئًا يتصل بابنه عدلي في طريقه إليه. وقد تعوَّد منذ سنوات ألا يصل شيء سعيد بابنه عدلي، أبت عليه تجاربه أن يفكر فيما يمكن أن يكون هذا الشيء.
وجاء وكيل الوزارة.
عدلي يسهر كل يوم إلى الفجر، يلعب القمار في جنيف ولا يكفيه أي مال، بل إن صحته وهو الشاب لم تعد تستطيع أن تتحمل ما يصنعه بها.
مرتبه وإيراده الذي يذهب إليه هناك يقذف به جميعًا على مائدة القمار، بل إنه حتى لا يتناول من الطعام ما يقيم أوَده؛ فهو يفضل أن يلعب القمار عن أن يتناول الطعام الذي يحتاج إليه جسمه، فهو لا يذهب إلى الفندق إلا بعد الظهر لينام ساعتَين ثم يستأنف، وكل هذا ما كان يحتاج إلى وكيل الوزارة ليأتي به إلى زكريا باشا.
لقد نضب المال من يد عدلي؛ فإذا هو يطلب من الفندق الذي ينزل به أن يصرف له شيكًا يقدر بالنقود المصرية بحوالي خمسمائة جنيه، وقد قصد أن يطلب صرف الشيك في يوم سبت حتى تكون البنوك مقفلة في يوم الأحد، ظانًّا أنه يستطيع أن يكسب فيودع المبلغ في البنك قبل أن يقدمه الفندق.
لم يكسب.
وطرده الفندق وطالب السفير المصري بالشيك وحساب الفندق.
دفع السفير، ولم يشأ أن يخبر الوزير لأنه يعرف أنه صديق الباشا، وأخبر وكيل الوزارة.
طبعًا دفع الباشا كل ما أخبره به وكيل الوزارة، وما إن ودعه إلى الباب حتى عاد إلى التليفون ملهوفًا: راوية.
– أفندم سعادة الباشا.
– تعالي حالًا!
وحين جاءت: كم ترسل لك دائرة عدلي كل شهر؟
وتسمَّرت عينا راوية على الباشا وتقلَّصت خلجات وجهها، وحاولت أن تتماسك بكل ما يطيق البشر أن يتماسكوا، ولكن هيهات لدموع مثلها أن تغيض، لقد طفرت إلى سكبٍ وراء سكب.
– لا عليكِ يا ابنتي. لا عليك، خذي.
– لا آخذ شيئًا يا عمي. لا يمكن.
– ستأخذين.
– ألا يكفي أنكَ تربي هالة، وأنك رفضتَ أن تأخذ نصيبك من تركة نينا نعيمة هانم؟
– هذه أشياء ليس من شأنها أن تسقط واجب زوجك في الإنفاق عليكِ.
– هذا خطؤه، وليس من المفروض أن تتحمل أخطاءه.
– ومن يتحمل أخطاء الأبناء إلا آباؤُهم؟
– ألا يكفي ما تحملتَه أنت من عدلي؟
– أنا لم أتحمل شيئًا.
– بعد كل هذا؟
– هذه كلها أخطائي أنا. ما دمتُ لم أحسن تربيته فعليَّ أن أتحمل كل ما يفعل.
– من قال هذا؟ يا عمي الناس طبائع، وعدلي طبعه هكذا ولا ذنب لك أنت.
– يا بنتي أنا لم أقم بواجبي نحو عدلي، وأنا الآن أحاول أن أستدرك الخطأ الذي وقعتُ فيه. خذي.
– لا يمكن.
– أنت تعرفين إلى أي حدٍّ يحترمني أبوك؟
– أعرف.
– لا تضطريني أن أدعوه، وأعطيه ما يجب أن تأخذيه أنت.
وقبلت راوية المال، وانصرفت.
ولكن قصة عدلي لم تتم فصولًا.
•••
ما هو إلا شهر وبعض شهر حتى جاءت الأنباء أن عدلي سقط مريضًا بعد هذا الجهد الذي أنهك به جسمه، واضطر الباشا أن يصحب راوية إلى سويسرا.
وهناك وفي حجرة من فندقٍ فقير التقى الباشا مع ابنه عدلي لأول مرة، بعد ما صنعه عدلي تجاه أبيه.
وهناك لم يجد الباشا من ابنه إلا بقية حطام لم يترك القمار منه شيئًا.
كان موقف الابن ذليلًا حتى لم يحاول أن يعتذر، وكان موقف الأب أليمًا حتى لم يذكر من هذا الشيء الذي أمامه إلا أنه ابنه وأنه مريض.
سرعان ما عرف الأب وعرفت راوية أن مرض الصدر هو ما يعانيه عدلي.
في مصحة في ليزين على جبل بالقرب من لوزان استقر عدلي، ودفع الباشا نفقات العلاج، وأعطى لراوية ما يكفي لفترةٍ أخرى، وسافر إلى القاهرة بالباخرة.
وفي القاهرة استقبلته من راوية برقية: «لقد مات عدلي.»
•••
منذ ذلك اليوم أصبح زكريا إنسانًا آخر؛ كان يخشى أن يبدي حبه ليحيى ابنه، ويخشى أن يظهر ضعفه لهالة حفيدته، فاعتزل عنهما الحياة بعد أن أصرَّ أن يقيم معه ومع زوجته زوجة ابنه راوية.
ومنذ ذلك اليوم أصبح زكريا باشا يمثل لابنه وحفيدته شيئًا مقدسًا لا سبيل إلى الحديث معه، وإنما تصل إليهما الأوامر منه والنقود، وكأنه طيفٌ غير إنساني لا صلة له بالبشرية.
وكان يحيى في تلك السن التي يتشكل فيها الإنسان ليصبح رجل الغد.
وأما هالة فلاهية يصغر عندها كل شيء، ليصبح مجرد حدوتة أو أداة تسلية.
لم يكن زكريا يتوقع أن تطول به الحياة حتى يفقد عدلي، وأصبح يخاف على ابنه وابنته أن يتعلقا به ثم يخذلهما ويتركهما؛ فينهار صرح في نفسيهما كبير، كان يريد حياته أن تكون على هامش حياتهما، ولو أنه أراد أن يجتمع بهما لأعجزته نفسه؛ فقد كان موت عدلي بالنسبة إليه في سنه هذه نكبة لم يحتملها.
كان يدري أنه لم يحسن تربيته، وكان يدري أنه لا يصلح لشيءٍ، وكان يدري أنه طعنه أو حاول أن يطعنه بهذه القضية التي رفعها، ولكنه أيضًا كان يدري أنه ظل لفترةٍ طويلة من حياته ابنه الوحيد، وأن أهميته قد زادت حين أتى بهالة وحين أتى هو بيحيى، وكان يجعل في حياة عدلي من بعده أداة أمن تصحبه في رحلته إلى الحياة الأخرى، ولكنه مات.
وفي لحظةٍ ينهار هذا الأمن ولا يبقى من عدلي إلا أنه مات، يكفي هذا! وسُنة الحياة أن يَدفِن الابن أباه، وويل للآباء، أو قل إن شئت، ويل للحياة كلها إذا اختلفت هذه السُّنة، فدفن الأبُ ابنه!
ينسى زكريا كلَّ شيء إلا أن ابنَه مات، فتصبح مسالك الحياة أمام عينه مهوَّشةً شائهة لا معنى لها.
لا يختلف عنده طريق عن طريق، بل إنه حتى لم يعد يريد أن يختار ولا أن يدلي برأي.
هو لا يشارك في السياسة، وهو لا يذهب إلى مكتب المحاماة، وهو لا يجد في مجلس الأصدقاء أنسًا أو ترفيهًا، لم يبقَ من الأصدقاء إلا من يصغرونه، أما أتراب حياته ورفاق طريقه فقد ماتوا واحدًا بعد الآخر، وأقفرت من حوله الحياة التي كانوا يصنعونها معًا.
حتى السياسة التي كان من أعلامها اختلفت دروبها، وتغير رجالها فأصبح لا يفهم عنهم ولا يفهمون عنه، وحتى إذا فهموا فإنه لا يريد أن يدلي برأي.
وكيف يدري زكريا باشا أنه إذا أبدى آراءه في تربية ولده وحفيدته يكون قد قال الرأي الصواب؟ ومن يعرف الخطأ في عصر هؤلاء؟ وكيف يستطيع أن يشارك في تربية الأحفاد — فيحيى وإن يكن ابنه خليق أن يكون حفيده — وهو لم يوفق في تربية ابنه حتى يفكر في تربية حفيده.
في حجرته زكريا باشا إن غادرها فساعة أو بعض الساعة يحسُّ بها أنه حي لم يمت، ثم إلى غرفته يعود.
ومن هذه العزلة اتخذت سهير وراوية أداة إرهاب للطفلين، وعند يحيى أصبح سمت الرجل كما ينبغي أن يكون؛ هو هذا الباشا المنعزل، هكذا أصبح الأمر عند يحيى. أصبح يعتقد أن الرجل لا يكون رجلًا إلا إذا لم يرَ أحدًا ولم يره أحد، وأصبح يظن أن الرجل العظيم — ومَن أعظم من جده؟ — يجب أن يكون صموتًا لا يتكلم، فإذا تكلم فكلامه أمر، وإشارته لا يصحبها إلا الطاعة من الآخرين، هكذا صورت أمه أباه، وهكذا أكد أبوه هذه الصورة بوجه ارتمى عليه الحزن واحتضنته تجاعيد السنين؛ فأصبح بمزاج الألم والأيام تكشيرةً لا انبساط لها.
ربما استطاعت راوية أن تنجو بهالة من هذه الصورة، وهالة على كل حال بطبيعة جنسها لا تصبو أن تكون رجلًا، ورجلًا مرهوبًا. ولكن رواية خشيت على ابنتها أن يجعلها موت أبيها جانحة إلى الحزن في حياتها؛ فراحت تتيح لابنتها كل فرصة للبهجة، ولم تكن تستعمل اسم الجد إلا حين ترى أن هالة تبالغ في طلب البهجة، وكان ذكر اسمه مصحوبًا بالرغبة التي تريدها الأم، وتلصقها به وهو فيها مظلوم؛ كافيًا أن يردَّ هالة إلى ما تبتغيه الأم من الاعتدال.
•••
كان يحيى في السادسة عشرة حين مات أبوه زكريا باشا.
وفجأة وجد يحيى نفسه قد انتصب رجلًا على رغم أنفه؛ فالخدم لا يذكرونه إلا بلفظ البك، هكذا مفردة دون اسم يحيى يسبقها، أو صفة الصغير تلحق بها.
أصبح هو البك، ليس «بك» وإنما البك كاملةً خالصة له. فقد أرادت سهير أن تجعل منه رجل الأسرة الجديد، ولم يكن بدٌّ من أن تُحيطه بكل هالات التوقير إذا كانت سنه وثقافته لا تستطيعان أن تحيطاه بشيء.
وحين مرَّ بعض الوقت قالت راوية: ألا ترين من الأنسب أن أرجع إلى بيتي؟
– لماذا؟
– أنت تعرفين أن بيتي مغلق، ومن الطبيعي أن أعيش فيه مع ابنتي.
– وما الطبيعي في ذلك؟
– كانت هالة مع جدها، أما الآن …
– شأنك عجيب يا راوية، هي الآن مع عمها في القرابة ومع أخيها في السن، فأي عجيب في ذلك؟
– ربما يحب يحيى أن يعيش وحده.
– اسمعي. أنا وأنت لم نختلف طوال هذه السنوات، وأصبحنا كأخوات، وهذا البيت بيتي وبيت يحيى معًا، وقد تعودتُ الحياة معكِ كما أعتقد أنكِ تعودتِ الحياة معي، وليس من الطبيعي أن تعيشي وحدك مع هالة وبيت عمها موجود. وإذا كان الباشا قد مات فإننا نستطيع أن نجعل من يحيى رجل البيت ونعيش معًا. ودعينا لا نعود لهذا الحديث.
– على شرط …
– قبلتُه!
– أتعرفينه؟
– كنتِ لا تشاركين في نفقات البيت، والآن تريدين أن تشاركي؟
– فهل تقبلين؟
– نعم أقبل.
•••
من حُسن حظ هالة ومن حُسن حظ يحيى، أو من سوء حظه لا أدري، أن هالة جاء لها خطيب.
أما أن هذا من حُسن حظها فلا شك في ذلك؛ فإن هالة لم تستطع أن تتصور يحيى هو البك، فقد عاش عمره رفيق الملعب، وكانت تسخر سخريةً شديدة من جو التوقير الذي تُشيعه حوله أمه، وتشتد السخرية بها إذا رأت أمها تشجع هذا التوقير، ولم تكن تحتفظ بسخريتها لنفسها دائمًا، كانت تفجرها كلمات لا تتحرز أمام من تنفجر، وكثيرًا ما كان ذلك يحدث أمام الخدم؛ فترتسم على أفواههم بسمات تنال — لا شك — من الهيبة الصارمة التي ينبغي أن تُفرش تحت أقدام الأمير الصغير؛ البك.
وكان يحيى يجنُّ من سخرية هالة، وكانت أمها تحاول — عبثًا — أن تردعها.
ولكن هالة مسكينة؛ فما تستطيع أن تتصور يحيى كما تريد السيدتان أن ترسماه، دون أن تضحك ضحكًا ساخرًا يتشكل في كثير من الأحيان كلماتٍ لاذعة.
وهكذا لم يكن عجيبًا أن يرحب الجميع بذلك العريس الذي تقدم للزواج من هالة.
ولم يكن عجيبًا أيضًا أن تكون التحريات التي أجروها عنه مبتسرة، تتسم بالتعجل أكثر مما تتسم بالجدية والتعمق.
كل ما عرفوه عنه أنه خريج التجارة العليا، وأن أباه تاجر من أواسط التجار، لا هو بالغني الفاحش الغنى ولا بالفقير المدقع.
العريس اسمه جابر عبد البديع الشحات، في السابعة والعشرين من عمره، ويعمل مع أبيه في التجارة.
له أخٌ أصغر منه بسنةٍ واحدة، وقد تخرج في كلية الحقوق واسمه حامد، وحامد يعمل بالأعمال الحرة في غير تجارة أبيه بجانب عمله بالمحاماة. والحقيقة في أمر حامد أن مكتبه ستار لأعماله التجارية، فاسم المحامي ومكتبه يخلقان حوله جوًّا يستطيع عمله التجاري أن ينتفع بهما. وهو فعلًا يعمل بالمحاماة ولكنه يختار قضاياه. ولجابر وحامد بعد ذلك أختان تكبرانهما ومتزوجتان ولهما أبناء، أما الكبرى فاسمها حميدة، وأما الصغرى فاسمها رشيدة.
وحين جمع الفرح الأسرة في منزل زكريا باشا أحسَّت راوية أنها تعجَّلت، ولكن هالة لم تفكر في عقد مقارنة بين أسرتها الجديدة وأسرتها التي عاشت فيها، وإنما هي سعيدةٌ أن تتزوج في هذه السن الباكرة، ويعجب بها شابٌّ أنيقٌ مثل جابر. ولم تكن تجربتها تسمح لها بأن تقدر معنى هذه السلسلة الذهبية الضخمة السميكة المتوحشة التي يعلقها أبوه عبد البديع الشحات على صدره، ولا معنى الفستان الأحمر الذي يسمُّون أحمره بالأحمر الإنجليزي الذي ترتديه حميدة، ولا معنى الفستان الفستقي اللامع الذي ترتديه رشيدة.
أما راوية وسهير فقد فهمتا تمامًا أي أسرة ناسبتها ابنتهما المسكينة هالة، ونظرت كلٌّ منهما إلى الأخرى نظرة تقول «لماذا؟» لو أن هالة فقيرة وبحثت عن بعض غنى لكان ذلك مفهومًا؛ لو أن السن تقدمت بها فشارفت الثلاثين لكان هناك بعض العذر، لو أنها أحبت جابر وأحبها لأصبح الأمر لا يحتاج إلى تبرير.
ولكن هكذا وبدون أي أسباب! لماذا؟
وفي لحظةٍ واحدة اتجهت العيون منهما إلى البك؛ إلى يحيى. ودمعت عينا راوية ولم تخف الدمعات، فالأمهات اللواتي يفقدن أزواجهن مباح لهن دائمًا أن يبكين في أفراح أبنائهن أو بناتهن، ولكن سهير فهمت معنى الدموع من راوية، ووثقت من فهمها وأطرقت خجلًا. لقد جعلها حرصها على أن تجعل ابنها «بيكًا» لا تكتنفه السخرية تنصح بتعجيل هذا الزواج دون ريث من تأمل أو بحث أو تفكير.
كان في الفرح كل أصدقاء راوية وسهير، فلم يكن عجيبًا أن تكون شهيرة سيدةً مرموقة في الفرح تذهب وتجيء، وتدعو إلى الطعام، وتمر بجانب الخدم وهم يقدمون الحلوى والشربات. بل لقد تولت هي نفسها تقديم علب الحلوى إلى المدعوين مع راوية وسهير.
وفي الفرح تعرَّف شباب بشباب.
تعرف حامد بيحيى وبشهيرة وبهيرة، وتعرفوا به ضمن من عرفوهم في ليلتهم تلك.
كان يحيى في فترة هذا الفرح قد اتخذ قرارًا خطيرًا، وزاده هذا القرار شعورًا بالأهمية إن كان هذا الشعور عنه يحتاج إلى مزيد.
كان يحيى يتعثر في التعليم حتى بلغ الثالثة الثانوية وهو في التاسعة عشر من عمره، وكان ما زال المدى أمامه بعيدًا؛ فقد كان لا بد له أن ينال الثقافة ثم التوجيهية، وأدرك أن هذا أمر بعيد المنال إن لم يكن مستحيلًا.
وهنا يقف علماء النفس حائرين، فهناك من يقول إن جو الأهمية الذي تفجر حول يحيى كان خليقًا أن يجعله يذاكر ويصبر نفسه على الجهد؛ لأنه لا يليق بالرجل المهم أن يسقط أمام الخدم والأتباع الذي لا يقولون عنه إلا البك.
وهناك فريق من هؤلاء العلماء يقول إن هذا الشعور بالأهمية مع عدم الإدراك لقيمة الثقافة يجعله يظن أن التعليم شيءٌ ثانوي لا يستحق هذا العناء، وأن البك لا يجوز له أن يصنع ما يصنعه عامة التلاميذ، ويذاكر كما يذاكرون، وينجح كما ينجحون.
وهكذا تجد أن علماء النفس هؤلاء كثيرًا ما يزيدون الأمور تعقيدًا، وكثيرًا ما تنغلق أمامهم المسالك، فلا أحد منهم يعلم إن كان على خطأ أم كان على صواب.
ولكن يحيى لم يفكر على كل حالٍ أن يسأل علماء النفس، ولا أن يستخير كتبهم، وهو أيضًا — وهو البك — لم يكن محتاجًا أن يستشير أحدًا؛ فحزم أمره وقرر رأيه وأصدر قراره: لا تعليم!
وقرار البك لا مردَّ له. وأدركت أمه أنها لن تستطيع أن تجادله؛ فهي تعلم أن البك الذي صنعته وجعلت مَن حولها يصنعونه معها، لم يعد صالحًا للنقاش.
وهكذا أصبح البك بك رسميًّا وإن لم يصدر بشأن رتبته براءة من القصر الملكي، وهو أيضًا في غير حاجةٍ إلى براءة القصر الملكي؛ لأن الوهم الذي يحيط به ضخم ضخامة الحقيقة نفسها، فالبراءة بالبكوية لن تزيد حقيقة تكوينه ثبوتًا لديه أو لدى المجتمع الذي يحيط به.
وهكذا تثور حول يحيى بك مشكلة أعيت الأجيال؛ هل الحقيقة هي ما يعتقده الإنسان أم أنها معنًى مجرد ليس يعنى بمن يعرفه أو من يعارضه؟ وإن كانت معنًى مجردًا فما قيمته إذا لم يُجمع عليه الناس؟ ولكن هل كل حقيقة يجمع عليها الناس؟ ودعنا نسأل أيضًا: هل كل ما يجمع عليه الناس حقيقة؟ وما لنا لا نسأل أيضًا: وهل أجمع الناس على شيء؟
فإذا قلنا إن هناك غالبيةً كاثرة تجمع على أمرٍ معين، وإن هناك أقلية لا توافق الإجماع؛ فإنه لا بد لنا أن نسأل مرة أخرى: هل من الحتم أن تكون أغلبية الناس معتنقة الحقيقة، وأن الأقلية لا قيمة لها؟ ومن يحكم في هذه القضية؟ إن هناك رأيًا معروفًا أن الحقيقة واحدة لا تتعدد. ولكن هل عرف أحد هذه الحقيقة الواحدة؟ وما دام أحد لم يعرفها فأين نجدها؟ المؤكد أنها متعددة، وأنها واحدة، ولكن أحدًا لا يستطيع أن يعرف أين الحقيقة الخالصة في هذا العدد الكبير من الحقائق؟ ليس غريبًا إذن أن تكون الحقيقة ضائعة بين البشر الذي ركِّب من عقل وشهوة، ومن فكر وعاطفة، ومن حكمة وهوًى، فبين التيارَين المتعارضَين تنزوي الحقيقة، ويعتقد كل إنسان أن الحقيقة التي استقر عليها رأيه هي الحقيقة؛ فلا بأس إذن أن يعتقد يحيى أنه بك فعلًا رغم افتقار رتبته إلى براءةٍ رسمية.
وعرف حامد أن البك في هذا البيت معناها يحيى، وعرف شهيرة وأعجب كل الإعجاب بابنتها بهيرة.
وكان بين المدعوين أيضًا وجدي، فإن أردت أن أذكِّرك به فلا بد أن أنسبه إلى أمه لأنها الجانب المجمع عليه من أبويه أنه ابن نجاة. وهو عند كل من يعرف نجاة ابن عزت بهادر وعند القضاء الذي أصدر الحكم في قضيته ابن عبد المحسن باشا وفيق.
وكان وجدي في نضارة الشباب وفي فتوته، يتمتع بجمالٍ أخَّاذٍ سامق، ويتمتع أيضًا بذكاءٍ خارق، يُعرف هو بخلقه الخاص، وظروفه التي أحاطت بولادته ونشأته، والقضايا التي وجدها تتلقفه مع مهد الطفولة، كيف يستعمل هذا الذكاء وأين يستعمله. وهو في إعماله لذكائه هذا يستعمل كل ما لديه من أصلٍ ممزق بين الحقيقة التي يكاد يلمسها بالشبه بينه وبين الذي يناديه بعمه عزت، وبين الوهم الذي أكسبه القضاء حجية الشيء المحكوم فيه، كما يجعل ذكاءه يستخدم هذا الجمال الذي لا تستطيع عين أن تعبره دون أن تقف عنده وتطيل الوقوف.
وكانت خديجة وراشد باشا وأسامة بين المدعوين.
راشد باشا قد عادت إليه ثروته، ولكنه حوَّلها إلى عمارات باسم أسامة مباشرةً، وقطع ما بينه وبين الريف تمامًا؛ فباع عزبته التي استخلصها من أيدي الديَّانة وابتاع بثمنها عمارات، فقد أدرك أن وحيده الذي رُبِّي بالقاهرة لن يستطيع أن يستنبت من الأرض ريعها، كما أدرك أن ابن خديجة التي عاشت عمرها بالقاهرة لن يكون فلاحًا يفهم كيف يعامل الأرض. وقد حقق أسامة ظن أبيه؛ فإذا هو طالب يحب العلم، وإذا هو شاب يحب القراءة، وهكذا لم يكن غريبًا أن يجد نفسه بين شباب الفرح يقف على جزيرةٍ مستقلة به، وإن كان ذكاؤه قد مكَّنه أن يشارك الشباب من أمثاله أرضهم ودنياهم.
جمع الفرح قومًا كثيرين وتعارف منهم من لم يكن من قبلُ متعارفًا، والتقى الأصدقاء يصلون حديثًا كان بينهم ثم انقطع أو يبدءون حديثًا هو آخر الأمر إلى انقطاع.