الفصل الثاني
المفروض أن أروي لك في هذا الفصل موقف خديجة من هذه الخطبة، ويمكن أن أروي لك هذا الموقف بطرق عدة. فمثلًا أستطيع أن أقول إن خديجة كانت تحب ابن خالتها عزت بهادر الذي نشأ معها منذ الطفولة الأولى، وكان يقاربها في السن. وما دُمنا نتكلم عن هذه الطبقة من الناس؛ فالمفروض أن أقول لك: إنه يهوى ركوب الخيل ويجيده، وإنه طلق اللسان — بالفرنسية طبعًا — وإن لغته العربية لا تكاد تستقيم، وإنه ممشوق القوام تافِهُ العقلية لا يفكر إلا في أتفه الأمور وأسخفها، وأكون بذلك سائرًا وراء كل من كتب عن هذه الطبقة.
أو كان من الممكن أن أقول لك مثلًا إن عثمان باشا فكري دخل إلى ابنته، فقال لها: أبشري يا خديجة، عندي لك أعظم خبَر.
– صحيح يا بابا؟
وطبعًا حين تقرأ «بابا» لا بد لك أن تشدِّد الباءَين، فهكذا تنطقها ممثِّلات السينما في أفلامنا العربية. نرجع الآن إلى الحوار الذي كان المفروض أن أُقدمه إليك، يقول الأب وقد تهلَّل وجهه بالفرح: جاءك عريس لا مثيل له في مصر.
وهنا كنت سأحتار كيف أكمل المشهد، هل ستُطرق خديجة في حياء؟ أم تراها كانت ستقول: من؟
وعلى الحالين، كان عثمان باشا يقول: راشد بك برهان.
وكنت سأحتار أيضًا كيف تتصرف خديجة بعد هذا، هل كانت ستسأل أباها عن العريس وأحواله جميعًا من شكل وعمر؟ وطبعًا لا داعي للسؤال عن الشهادة أو الثقافة، فقد كانت هذه الأشياء في ذلك الحين بعيدة عن مجال السؤال عند السيدات، وتُوشِك أن تكون كذلك عند الرجال أيضًا.
أم تراها كانت ستطرق حياءً وخجلًا، وتقول الجملة التي لم يستطِع كاتب حوار أن يغير منها شيئًا على طول السنين: اللي تشوفه يا بابا؟
ولعلي كنت سأخرج من هذه الحيرة بوسيلة أكثر يسرًا وأقرب إلى منطق الأمور، فأجعل خبر الخطبة ينتقل إلى الابنة عن طريق أمها، وأنتهز هذه الفرصة لأقدِّم إليك كل ما لم تعرفه بعدُ عن شاكر بك برهان على لسان الأم.
ولكن ما العجلة في تعرُّفك على شاكر برهان؟ ولماذا لا نتكلم عن خديجة قليلًا؟ فأنت لم تعرف عنها إلا أن عينَيها جميلتان، ولكنك أنت لم تعرف مثلًا أن قوامها فارع رشيق لا تطغى عليه نحافة، ولا يفرط عليه سِمن، وهي ذات شعر ناعم إذا أطلقت عنانه هدَر على كتفيها في عربدة طاغية، وجَبينها عريض فيه ذكاء، وعيناها اللتان عرفت أنهما جميلتان فيهما جرأة، وفيهما تطلُّع إلى المستقبل في وثوق الذكر وفي فتور الأنثى، وأنفها دقيق مائل قليلًا إلى الخد الأيمن، هذا الميل الذي يراه بعضُهم جمالًا، ويراه بعض آخر عيبًا في جمالها الفاتن. وإن كنت من الذين يحبون أن يوصَفوا بالمثقفين، فلعلك تحب أن تعرف شيئًا عن ثقافتها. قرأت كورني وراسين وفولتير وهيجو وفلوبير وروسو، حتى اعترافات روسو قرأتها، وقرأت شكسبير مترجمًا، وقرأت ديكنز وهاري وتولستوي وديستويفسكي. أظنك عرفت الآن أنها كانت تحب القراءة وكانت تعبُد الشعر، فقد كانت تحفظ روايات كورني وراسين جميعًا، وتحفظ كثيرًا من شعر هيجو، ولم تكن تميل كثيرًا إلى مضحكات موليير. كانت القراءة عندها هي الوسيلة التي تفتح لها النافذة على عالم لم يكُن من الممكن أن تخالطه أو تندمج فيه؛ فقد كان الحريم جزءًا منفصلًا عن المجتمع في ذلك الحين يحرِّكْنه من داخل البيوت، ولكنهن لا يشاركن في حركاته.
وكانت خديجة شأن كل فتاة تعرف أنها ستتزوج في يوم الأيام، وكانت تعتقد أنها ستتزوج رجلًا مثقفًا تستطيع أن تشترك معه في أحاديث طويلة عن الشعر والأدب، وكانت الخشية تُخالجها أن يكون هذا المثقف ذا ثقافةٍ عربية وإنجليزية، وليس ذا ثقافة عربية وفرنسية، فالمثقفون في ذلك العهد كانوا جميعًا يجمعون إلى العربية ثقافة أجنبية أخرى، ولم يكن الغِنى في ذاته أمرًا ذا بال عند خديجة؛ فالغنى عند الأغنياء شيءٌ مفروض يعتقدون هم أنه طبيعي، يصاحب التكوين البيولوجي لأجسامهم، فالمال عندهم شيءٌ من المقرر وجوده، كما يوجد لهم عينان وأنف وشفتان. ولكن الثقافة هي التي كانت نادرة الوجود، فإذا وُجدت فهي عميقة راسية الأصول بعيدة الأغوار. وقد كانت خديجة لا تتصور أن يكون خطيبها غير مثقفٍ، ولم يكن تفكيرها هذا مجافيًا للصواب؛ فإن والدها الذي أتاح لها هذا التثقيف لا يقبل أن ينالها شخصٌ لا يقف مع ما بلغته من دراسة على درجة واحدة، فإن تفاوتت الدرجة فليكن هو في العليا لا في السفلى. وهي في سذاجتها الثقافية نسِيت أن للمال عند الأغنياء نداءً ولغة يفهمونها جميعًا دون اتفاق بينهم، فمن الطبيعي ألا يتزوج الغني إلا ذات ثراء، ومن الطبيعي أن يسارع الثريُّ بقبول الغني خطيبًا لابنته.
وهذا الاتفاق غير المكتوب بين الأغنياء يتضمَّن أن كل شيء غير الثراء يمكن اغتفاره أو تجاهله.
وهكذا لم يكن عجيبًا أن يقبل عثمان باشا فكري خطبة راشد بك دون ريث من تفكير، وخصوصًا أنه أصبح غنيًّا سابقًا، ولكنه ما زال يحمل اللقب «غني».
ومن الطبيعي أيضًا أن تقبل خديجة الزواج، فهي تعلم أنها نهاية محتومةٌ لحياة البنت في بيت أبيها، أو بداية محتومة لخلية جديدة من الحياة.
والاسم الذي تقدم لخطبتها اسم شهير في عالم الثَّراء وليس شهيرًا في عالم الثقافة، فقد كان المجتمع في ذلك الحين لا يُلقي ستارًا من التجاهل على أي مهتمٍّ بالثقافة، فلو كان على جانب منها مهما يكُن ضئيلًا لذاع صيته، بل إن الحياة كانت تُتيح لمن يهوى شراء الكتب أن يصبح شهيرًا في عالم التثقيف، حتى وإن لم يقرأ هذه الكتب. وقد كان أغلب هذا النوع من الهُواة يكتفي من الهواية بالشراء دون القراءة، فالقراءة لها ناس وشراء الكتب له ناس آخرون، والذين يقرءون لا يهمهم مطلقًا طريقة الطبع التي يهتم بها الشرَّاءون، كل ما يعني أهلَ القراءة أن تكون الحروف واضحة جليَّة لا لبس فيها ولا غموض، وقد يكون هذا الوضوح في ذاته سببًا في رخص الكتاب لا في غُلو سعره.
ولا تنتظر منِّي أن أُفيدك كثيرًا في الشروط التي لا بد منها ليكون الكتاب تُحفة أثرية ذات شأن، فأنا من ذلك النوع الساذج الذي يحب أن يقرأ ولا يهمُّه أن يقتني.
على أية حالٍ، لم يكن راشد من القرَّاءين أو الشرَّائين المدمنين، وإن كان ملمًّا بكثير من الكتب، وكان غنيًّا مدمنًا للغِنى، وإن كانت خديجة في آمال اليقظة وأحلام النوم ترجو أن يكون زوجها مثقفًا يحب كورني وراسين أو المتنبي وشوقي على الأقل، إلا أن هذه الآمال وتلك الأحلام لم تكن شروطًا أساسية في اختيار رجُلها، فقد كانت ثقافتها تتيح لها قدرًا من الذكاء تعرف به أنها هي لا تملك من حرية الاختيار القدر الكافي الذي يسمح لها أن تضعَ الشروط، ولو توفرت هذه الحرية؛ فما كانت لتجعلها تضع هذه الشروط. فهذه الآمال والأحلام لم تكن إلا خواطر تهفو إلى النفس أو تهفو إليها النفس، ولكن خديجة تعلم كل العلم أنها أمَلٌ لا يزيد، أو حلم مصيره المؤكد التيقظ على الحقيقة.
وهكذا أعفتني خديجة من الحيرة التي خشِيت أن تتولاني أمامك في بداية الفصل، ولم توجِّه إلى أبيها إلا سؤالًا واحدًا: هل أنت راضٍ عنه؟
– وأين أستطيع أن أجدَ مثله؟
– أمرك إذن.
لم تسأل كم عمره، فالمجتمع لم يكن قد أتاح بعد للفتاة أن تسأل عن عمر زوج المستقبل، وإذا كانت امتنعت أو منعتها التقاليد أن تسأل هذا السؤال الطبيعي المعقول، وهي أيضًا لم تكن تحب ابن خالتها عزت، فالطُّرق إذن جميعها مغلقة دون أي أسئلةٍ أخرى، بل لعلها لم تكن تحتقر أحدًا في حياتها قدرَ احتقارها لهذا العزت، فهو فراغ تجسَّم في هيكل إنساني يعنى كل العناية بشاربه وشعر رأسه، ولكنه لا يبذل أقلَّ عناية برأسه هذا من داخله، فإن رأيته رأيت تمثالًا، وإن حادثته وجدت التمثال خيرًا منه.
فأنا إذن لا أستطيع أن أُقيم عَقَبة من أي نوع تمنع زواج خديجة من راشد، وتم الزواج.