الفصل العشرون
لم يكن أسامة يتصوَّر، حين حصل على شهادة الحقوق، أن يتجه إلى ما اتَّجه إليه، فقد بدأ حياته بأن تمرَّن في مكتب المحامي الكبير صديقِ والده مهران باشا عبد الفتاح، وقد استطاع أن يعرف في هذا المكتب الكبير كيف يكون المحامي كبيرًا؛ فأسامة يجيد الفرنسية، وهكذا كان يستطيع دائمًا في كل القضايا أن يرجع إلى أعظم المصادر، وقد علَّمه مهران باشا كيف يتناول القضايا ويتعامل معها، ويغوص في أدق ما تُخفيه أوراقها.
وما هي إلا شهور حتى تبيَّن مهران باشا أن أسامة يملك موهبة المحاماة، وأدرك أن أسامة يستطيع أن يكون امتداد الأجيال العباقرة من المحامين؛ أمثال عبد العزيز فهمي، ومرقص حنا، والهلباوي، ووهيب دوس، وعلوبة، ومرعي، إلى آخر هذه الأسماء التي وطَّدت دعائم المهنة الخطيرة، وأرست أركانها في مصر والشرق العربي.
وقد أدرك أسامة أن عمله باللغة الفرنسية سيمكِّنه أن يكون محاميًا عملاقًا في القضايا المدنية، فهي التي تحتاج إلى البحث والرجوع إلى المصادر الأصلية للقانون.
وراح أسامة يخطو خطواته الأولى، ولكن قليلًا ما خطا؛ فقد سرعان ما انقلبت موازين المجتمع كلها، ولم يصبح للقانون المدني مكان، فالقانون المدني يقوم أساسًا على أنَّ للمال حرمة، والدولة هي التي تحمي هذا المال أن يُستلب بطريق غير مشروعٍ.
فحين تستلب الدولة نفسها هذه الأموال، وتصدر القوانين بالحراسة والمصادرة لاستلابها، تسقط حرمة المال، ويصبح اختطافه والاستيلاء عليه بغير حقٍّ هو الأصل، وتصبح حرمته واحترام حق الإنسان فيه استثناءً لا يُقاس عليه ولا يُتوسَّع فيه.
وفي ظل هذه الشرائع الجديدة من سقوط الشرعية، ينزوي القانون خزيانَ ينظر ويتحسر وتدمَى جراحه ولا ينطق، فالقانون هو الشرعية؛ فإذا استُبيحت الشرعية اندثر القانون، وهكذا أصبح القانون المدني تاريخًا يُروى عنه كفترة من الزمان، كانت ولم تصبح، ومرت ولم تعد توجد، وتخلو الحياة من القانون، وتخلو أيضًا من العاملين في القانون.
وهكذا كان من الطبيعي أن يبحث أسامة لنفسه عن عمل جديد، لم يتصور أنه يستطيع أن يتوظَّف، فقد تعلق بالمحاماة وأحبَّها، ورسم مستقبله وحياته على أن يكون محاميًا، وقد قضى السنوات التي عمل بها في المحاماة في توطيد أركانه في ميدان القانون؛ والقانون المدني بالذات. فحين رأى القانون المدني يُحتضر حار به الطريق، وأَشكلت أمامه المناهج، ولم يعد يدري إلى أي مصيرٍ يصوِّب غايته.
كان قد خلف مهران باشا في المكتب في صفقة مالية معتدلة جديرة برجلٍ كبير مثل مهران باشا، وبشاب غنيٍّ مثل أسامة، وفي الأيام الأولى لاستقلاله بالمكتب، بدأ الانهيار القانوني في الحياة المصرية، وأصبح أسامة يتابع القضايا القديمة في المكتب، ويقينُه يزداد كل يوم أنه لن يجد قضايا جديدة.
فاسم المكتب كبير، ولا يؤمُّه إلا أصحاب القضايا الكبيرة، وهؤلاء زالوا تمامًا من الحياة المصرية مضيَّعين بين المصادرة والحراسة. وباسم الحراسة والمصادرة اغتالت الدولة الغالبية العظمى من أصحاب المال بقانونٍ، فكان شأنها من هؤلاء شأنًا فريدًا، فالسارق يعاقبه القانون ويستردُّ منه المال، أما إذا اغتُصب القانون نفسه المال في حماية من قوة الدولة وسلطانها؛ فإنه حينئذٍ يصبح اللص أشرف من الدولة، وتصبح السرقة أشرف من القانون، فلم يكن غريبًا أن يدرك أسامة أن المكتب إلى إفلاسٍ، وإن كان هناك بعض محامين صغار يروحون ويجيئون في المحاكم؛ فإن هؤلاء إنما يترافعون في قضايا صغيرة، لا تستطيع أن تقترب من باب المكتب الكبير.
كان أسامة واثقًا أنه لا بدَّ له أن يبحث عن طريق آخر، وكان وثوقه هذا يزداد في كل يوم إيقانًا. أين إذن الطريق؟ فكَّر أن يكتب لجميل في الكويت أو لصبحي في السعودية؛ لعل واحدًا منهما يستطيع أن يجد له عملًا هناك، فهو لا يطيق البطالة، حتى وإن كان موفور المال. كان في ذلك اليوم أوشك أن يصمِّم على كتابة الخطاب، ولكن وكيل المكتب يدخل إليه: زوجة محمدين تطلب أن تراك.
– عم محمدين؟
– قالت أنت تعرفها.
– أدخلها فورًا.
وقام أسامة وراء وكيله، وفتح باب مكتبه وهو يصيح: أهلًا أمه مرسيلة.
– أهلًا بك يا ابني.
– أين أنت؟
– في الدنيا.
– تفضلي.
وتدخل السيدة العجوز، ويجلسها أسامة علي كرسي قريب من مكتبه، ويجلس أمامها كما يفعل مع كبار الزوار. إنها زوجة عم محمدين الذي كان مع أبيه وجده، والذي لقِفه على كتفَيه. وكان عم محمدين قد مات منذ سنوات، وسأل أسامة زوجته هذه التي يناديها أمه مرسيلة؛ إن كانت تريد مرتبًا شهريًّا أم تريد مبلغًا واحدًا مرة واحدة؟ ففضلت المبلغ الواحد، فأعطاها ألفَي جنيه، وطلب إليها أن تقصد إليه في أي لحظة إذا احتاجت إليه، وكانت والدته منذ فترة تطلب إليه أن يسأل عنها. وذهب فعلًا إلى البيت الذي كانت تقيم، فوجدها قد تركته، ولم يعُد يعرف عنوانها، فكان فرحه بمجيئها طبيعيًّا، فقد كان يريد أن يطمئنَّ على أحوالها، وهي في هذه السن المتقدمة، كما كان يريد أن يُطمئن أمه عليها.
– لقد وقعت من السماء.
– أتلقاك بعيني يا أمه مرسيلة، أين أنت؟ لقد ذهبت إلى …
– سأحكي لك. حين أخذت منك المبلغ، كان عمك محمدين قد اشترى أرضًا بحلوان، وهو يعمل مع المرحوم والدك، قلت أضع المبلغ في بناء بيت يسترني أنا وابني راشد وزوجته.
– راشد تزوج؟
– لم يكن أيامها متزوجًا، ولكن قلت في نفسي إنه لا بد سيتزوج.
– معقول؟
– وتزوج فعلًا، واسم النبي حارسه تعلم ميكانيكي.
– سيارات؟
– سيارات وكل الماكينات، واستطاع واحد من صحابه أن يُعيِّنه بشركة من شركات الحكومة.
– عظيم!
– أنا أجَّرت شقة في حلوان؛ لأكون بجانب البيت وهو يبني، وراشد تعين، والحمد لله أصبحت الحالة مستورة، وتزوج راشد بنت حلال من أربع سنوات، وعنده الآن ولدان علي وحسين.
– بسم الله ما شاء الله!
– تعيش! ما أدري من يومين إلا وواحد من صحاب راشد يدخل إليَّ، ويخبرني أنهم قبضوا على راشد.
– ماذا؟! .. لماذا؟
– قال صاحبه إنه كان في مظاهرةٍ.
– مظاهرة؟ .. وهل هناك مظاهرات الآن؟
–يا ابني واللهِ لا أعلم، قال عن البتاع الاشتراكي، وإنه قال في الاجتماع كلامًا جعل الرؤساء يزعلون. المهم الولد المحبوس.
– أين؟
– لا أدري.
– كيف؟
– ليلتين الآن لم يأتِ إلى البيت، ولا أعرف له طريقًا.
– من الذي قبض عليه؟
– سبحان العالم!
– طيب يا أمه مرسيلة تعالي أنت معي الآن إلى البيت.
– أروَّح يا ابني، البنت مراة راشد فُتَّها في البيت حالها ملَخْبط، ولا يصح أن أتركها وحدها.
– اسمعي .. تعالي معي، وسأرسل السيارة تأتي بزوجة راشد وبعلي وحسين أيضًا.
– يخليك، يطول عمرك، يعمر بيتك.
– قومي يا أمه مرسيلة، قومي، هيا، نينا ستفرح جدًّا لما تشوفك، وأنت أيضًا ستفرحين لما تشوفي مراتي نادية، وابني راشد وفهمي.
– محفوظ باسم الرحمن الرحيم تعيش الأسامي! ولا تدعوني يا سي أسامة؟ لقد شلتك على كتفي ولا أحضر فرحك؟
– ربنا يعلم، بحثت عنك بلا فائدة، على كلٍّ نصلح الخطأ اليوم، هيا بنا!