الفصل الحادي والعشرون
الخيانة ليست وليدة منطق، وإنما هي طبيعة في بعض الناس، أو إن شئت الدقة هي طبيعةٌ في أكثر الناس، مثلما تجد الأمانة طبيعة أيضًا عند قلة من الناس.
وقد تعاني المرأة من زوجها ما تعاني، ولكنها مع ذلك تظل شريفةً دون أي منطقٍ يدعو لهذا الشرف؛ إلا أنها هي بطبيعتها شريفة، ولا تتصوَّر أن الحياة فيها طريق آخر غير الشرف.
وليس صحيحًا أن البنت لأمها، كما يقول هذا المثل السخيف، الذي يكفي القِدرة على فُمها دون أي داعٍ، ودون أن يكون للقدرة أي دخل في الموضوع؛ إلا أن تكون مقدمة دون معنًى لنتيجة لا صلة لها بالمقدمة، ثم هي نتيجة خاطئة.
فكثيرًا ما عرفت الحياة فتيات شريفات غاية الشرف، وهنَّ من أمهات لا يعرِفْن الشرف في أي شيءٍ. وكثيرًا، بل كثيرًا جدًّا، ما أصبحت بنات غير شريفاتٍ، وهن في ذلك من أمهات كلهن شرف، وهكذا تجد نفسك في غير حاجةٍ أن تكفي القِدرة على فُمها لتطلع البنت لأمها، كما يقول هذا المثل العامي الساذج.
ولكن لا بأس أيضًا أن تتعرض البنت لظروف مثل ظروف تعرَّضَت لها أمها، فتجد البنت نفسها سائرةً في الطريق الذي سبقَتْها فيه أمها.
ولكن الموقف مع بهيرة ابنة شهيرة مختلفٌ كل الاختلاف، وإن كانت النتائج متشابهةً كل التشابه.
فشهيرة خانت زوجها؛ لأن زوجها كان يدعو الناس إلى احتقاره بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة؛ فلم يكن غريبًا إذن أن تبحث شهيرة عن أحضان تحترمُها، فخانت.
أما بهيرة، فزوجها يفرض احترامه على الناس بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، أو هو في الواقع يصطنع الوسائل غير المشروعة في فرض هذا الاحترام، ذلك أنه يطالب بالاحترام بالتكبُّر لا بالكبرياء وبالتظاهر لا بالحقيقة، فهو أجوف بلا علم. ومن أين العلم وهو بلا تجربة؟ ومن أين التجربة، وقد وجد نفسه في بواكير الحياة من كبار بكوات المجتمع المصري بغير ثقافة، أو علم، أو تجربة في الحياة؟ وكانت البكوية التي صبَّتْها عليه أمه بقوة المال وجبروته لا تتيح له أن يخالط أبناء جيله، ويحيا الحياة الطبيعية التي تجعل الإنسان حين يكبر إنسانًا طبيعيًّا شأنه شأن الآخرين، له تجاربهم وله أيضًا أخطاؤهم.
اعتزل يحيى الحياة قابعًا بين جدران بكويته الباكرة وتكبُّره الكاذب فأصبح فراغًا؛ ولهذا لم يكن عجيبًا أن يقنع بالاحترام الزائف من ظاهر الناس، وإن خالطه الاحتقار، بل وإن خالطته السخرية في أعماقهم.
وبهذا التكبُّر وبهذا الإرغام على الاحترام الموهوم عامَل يحيى الحياة، وعامل أقرب الناس إليه زوجه بهيرة، وابنَيه باسل وشهاب.
وهكذا راح ثلاثتهم يُبدون له الاحترام غاية الاحترام، ويُكِنُّون له الاحتقار غاية الاحتقار.
أما الزوجة، فهي تحتقره للتكبر السخيف الذي يُلازمه، فهو دائمًا منفوخ الصدر، يتكلَّم وكأنما كلامه وحي من السماء، ويخاطبها وكأنما يتنازل كلَّ التنازل أن يمتدَّ بينهما حديث.
وكم كان سهلًا على بهيرة أن تُبدي له الاحترام، وتشبع الغرور العجيب الذي ركِّب فيه، ثم هي بعد ذلك تصنع ما تشاء؛ لتشعر أنها تنتقم من غُروره، وأنها قادرة دائمًا على تحطيم كبريائه، ولو في نفسها. والحب لا يستطيع أن يماشي الاحتقار مطلقًا، وهكذا أصبح من المستحيل أن تحب بهيرة زوجها، وإذا انعدم الحب من البيت؛ فكل شيء غير شريف معقول وطبيعي.
أما ابناه فهما لم ينتهيا إلى احتقار كبريائه إلا حين تقدَّمت بهما السن، وعرفا آباء آخرين لأصدقائهما، وبالمقارنة تبين لهما أن أمر أبيهما عجيب.
لقد وجدا الآباء الآخرين يحبون أبناءهم، ويبدون هذا الحب في شتى صور، قد يبدو منهما الحب في كلمة إشفاق، أو حتى في كلمة تأنيبٍ حانية، أو قد يبدو في منحة مالية، أو قد يبدو في اهتمام بدراسة أو إشفاق عند مرض. أما أبوهما فلا يبدي لأي منهما أي عاطفةٍ، إنه يحبهما لا شك ولكنه بصلَفه وتكبره يختزن حبَّه، ويضنُّ به أن يظهر أنه يستكبر أن يبين منه حب؛ لعله كان ينتقم لنفسه أن أباه لم يظهر له حبَّه منذ بدأ هو يدرك الأشياء، أو لعله كان يظن أن الأجدر بالأب ألَّا يَظهر منه حب، فما دام أبوه قد صنع هذا، فهذا إذن هو المثل الأعلى. أما حب أمه له وتفخيمها لشأنه، فهذا أمرٌ مفروضٌ؛ لأنه يرى نفسه فوق البشر، وأمه لم تزد على أن اعترفت بتفوُّقه وسموِّه، وهو بعدُ إذا سأل نفسه فيمَ هذا التفوق أو ذاك السمو؟ سارعت إليه نفسه بالكثير الكثير من توافه الأمور التي تجعله يتأكَّد أنه صنف فوق البشر، وأنه إنسان يسمو على الإنسانية.
وهكذا شب باسل وشهاب في منزل قاتم، الأم فيه تبدو تابعة للأب، وهي في حقيقة الأمر الشخصية المتبوعة لا التابعة؛ لأنها استطاعت في مهارةٍ أن تجعل زوجها يصنع ما تشاء أن تصنع ببعض كلمات بسيطة من إشباع الغرور، ثم هي بعدَ ذلك تسحبه خلفها كيفما تريد، ويسير الأهبل خلفها وهو يظن نفسه يقودها، وينفذ كل ما تشاء، وهو يظن أنها هي التي تنفذ كل ما يشاء، والابنان يكبران ويدركان هذه الحقيقة، فتنقلب موازين الحياة عندهما، ويكرهان أباهما؛ لأنهما لم يريا منه شيئًا يستحق الحب، ويعجبان من أمهما؛ لأنها جعلت من أبيهما هذا المسخ الشائه، وحين توثقت صلة الأب والأم بحامد عبد البديع وجد باسل وشهاب في حامد شخصية كريهة.
وربما كانت هذه الكراهية؛ لأنه دخل البيت الذي لم يتعوَّد أن يستقبل أحدًا؛ فقد كانت الأم تريد أن تستولي على الزوج، وكان الناس بطبعهم ينفرون من الزوج. وهكذا كان البيت مقفل الأبواب دون الآخرين، ولو لم يكن في البيت مع الأب والأم سهير أم يحيى؛ لكانت حياة الطفلين في البيت جحيمًا، فالأم مشغولةٌ بخططها المشروعة وغير المشروعة، والأب مشغولٌ بغروره، ولا أحد يسكب على الطفلين حنانًا إلا سهير. وربما أحسَّت سهير أنها هي التي جعلت ابنها مرسومًا بهذا الجفاء والغرور، وكانت تُعزِّي نفسها أنها لم تكن تتصور أن يتمادى فيه الغُرور إلى هذا الحد، ولكن تلك هي مصيبة المشاعر في نفوس الناس؛ فإنها، قبيحةً كانت أو حميدة، لا تعرف أين ينبغي لها أن تقف، وهكذا تصبح المشاعر القبيحة بالغةَ القبح، وتنقلب المشاعر الحميدة إلى شيء يدعو إلى الضجر أحيانًا، أو السخف، أو الملالة، فتنقلب في أحيان كثيرة إلى شيءٍ كريه هي الأخرى.
وحين ماتت سهير، كان الطفلان يشبَّان إلى بواكير المراهقة، وانقطع عنهما ذلك المنهل من الحنان في وقتٍ كانا في أشد الحاجة إليه.
وحينئذٍ دخل إلى حياتهما حامد، وأحسَّا نحوه بذلك المقت، وإن لم يدريا لذلك سببًا، وأغلب الأمر أن السبب كان في داخلهما، ولكن حامد استطاع في مهارة فائقة أن يتقرَّب منهما، وقد كانت السبل مهيأة له من قريب.
لقد عرف كيف يعاملهما كرجلين، وراح يصحبهما معه إلى مزارعِ أبيهما كلما ذهب لعمل في مزارع أبيهما، أو في مزرعته هو بعد أن أصبح مالكًا لعشرين فدانًا هناك.
وعرف أيضًا كيف يكون واسطة لهما عند أبيهما، فاشترى كلٌّ منهما سيارة، وهو يدخل إلى الجامعة.
وأصبح حامد قريبًا كل القُرب إلى قلب باسل وشهاب، ولم يكن ذلك غريبًا؛ فقد كان هو الإنسان الوحيد الذي يدخل البيت دخول الأقارب. وقد استطاعت معاملة حامد هذه أن تفتح عين الأم على تلك الهوَّة التي تفصل بين الولدين وأبيهما، بل إنها فتحت عينَيها المروَّعتين على تلك الهوة بينها هي وبين ولدَيها.
وهكذا راحت تتقرب إليهما، وتعمل على إسعادهما بكل ما تملك من قوة، ولكنها حرصت كل الحرص أن تكون مصادر هذه السعادة بعيدةً عن الأب؛ فهي لم تكن تريد للولدين أن يحبَّا أباهما، فهي حريصةٌ أن يدرك الأب أن أحدًا لا يحبُّه في هذا الوجود إلا هي.
وكان الولدان يحسَّان بحنوها، ويحسَّان أيضًا بهذا الحنو ينقلب إلى قساوة طاحنة، كلما اقترب واحد منهما إلى ساحة الأب.
•••
كان الوقت شتاء، وكان شهاب في حجرته الخاصة يشاهد التليفزيون الذي أحضرته له أمه في عيد ميلاده، ولم يكن معه باسل، ولم يكن ذلك عن جَفاء؛ فقد كانت العلاقة بين الأخوين صداقة صحيحة فرضتها عليهما طبيعة الحياة في بيت أبيهما أو قصر أبيهما إذا شئت، ولكن باسل كان قد اختار أن يتَّجه إلى الهندسة، حين اختار شهاب أن يتَّجه إلى الحقوق، فإن الصداقة بينهما لم تستطِعْ أن توحد طريقهما في الحياة.
وكان لكلٍّ منهما حجرته في البيت، وكانت هذه الحجرة مجهَّزة بكل ما تصبو إليه نفس شاب، فلكلٍّ مكتبته الخاصة، ولكلٍّ جهازه الخاص للتليفزيون وجهازه الخاص للراديو؛ فلم يكن غريبًا أن يفترق الأخوان في الساعات الأولى من الليل، ليصنع كلٌّ منهما في حجرته ما يحلو له.
كان التليفزيون في تلك الليلة يعرض فيلمًا أجنبيًّا، وكان شهاب مستغرقًا في مشاهدته بعيدًا عن واقع الحياة كل البُعد.
وانتهى الفيلم وانتهى الإرسال أيضًا، وقام شهاب إلى الباب، ونظر إلى غرفة أخيه، فوجد أنوارها مطفأة؛ فقد كان يحسُّ أن النوم بعيد عنه. خاب أمله في السمر مع أخيه وأقفل الباب، وعاد إلى مكتبته، فوجد كتابًا كان قد اشتراه ولم يفتحه، وراح ينظر في صفحاته، الفكر الماركسي والإسلام، وكان عنوان الكتاب هو الذي أغراه بالشراء؛ فقد كان يحس كأبناء جيله أن النفاق من حوله يمكن أن يَقلب جميع القيم والموازين، ولم يستبعد أن يجد منافقًا يزعم أن الإسلام يبارك الماركسية. وكان هذا النفاق هو الحديث الذي لا تنقطع مصادره كلما اجتمع شباب، واعتقد شهاب أن هذا الكتاب سيمده بمادة لا تنفد عن سيطرة النفاق المطلقة على الحياة المصرية، بل على الدين أيضًا.
أعاد الكتاب إلى المكتبة؛ فقد كان في نشوة لا تقبل أن تواجه هذا الانحطاط. بحسب الإنسان المصري أن يواجه النفاق في الصحف وفي الحياة؛ لأن الإنسان لا بد له أن يقرأ الصحف، وأن يعيش الحياة، فإذا خلا إلى نفسه وأحسَّ بنوع من النشوة؛ فينبغي له أن يحاول نسيان الصف والحياة العامة وما يسودهما من نفاق؛ وإلا أصبح شخصًا مولعًا بتعذيب ذاته دون مبرِّر.
بحث عن روايةٍ لكاتب يحترمه، ووجدها ووجد فيها ما تصبو إليه نفسه من انطلاق، واستلقى على السَّرير وبدأ يقرأ. لم ترُق له بداية الرواية، أقفلها وأطفأ نور السرير، وترك نفسه ترود ما يحلو لها من وديان الخيال أو الحقيقة أو هما معًا متمازجان، تتماوج المعالم منهما متناغمة أو متنافرة وهو ملقٍ نفسه إلى الدفاع، لا يكبح جماح الخيال ولا يهتم بحقائق الواقع، ولم يكن يدري أطال به الوقت أم لم يطُلْ حين سمِع همسًا وخطوات وعجِبَ، فإن لكل حجرة من حجرات القصر حمَّامها الخاص، وليس هناك ما يدعو إلى صوتٍ في الليل أبدًا.
قام إلى الباب وفتَحَه في غير حذرٍ، وفي اللحظة نفسها سمِعَ صوت باب يُقفل، ثم رأى شخصًا ينزل السلم المفروش بالبساط السميك، وعلى ضوء القمر الذي ينفذ كسَهْم القدر من شباك السلم رأى وجه حامد، همَّ أن يلحق به ولكن قدميه تسمَّرتا، وحين استطاع أن يجرَّهما كان حامد قد خرج من الباب الرئيسي.
ذهب إلى حجرة أبيه، وفتح الباب ولم يفكِّر.
– بابا.
وقام الأب مفزوعًا! هذه هي المرة الأولى في حياته التي يتجرَّأ فيها أحد أن يفتح عليه الباب دون إذن سابق.
– من؟ .. ماذا؟ .. من؟
– هل أنت نائم؟
– هذا هو الطبيعي في ساعةٍ مثل هذه!
– فماذا كان حامد يفعل هنا؟
– من؟
– حامد.
– حامد من؟
– حامد الذي لا يدخل بيتنا غيره.
– أجُننت؟
– يا ليتني جننت!
وجاءت الأم: ماذا؟
– اسمعي ما يقول ابنك.
– حامد نزل الآن من هنا.
– من؟!
– كنت أظنُّه يعمل مع أبي، أو أنا على الأقل، تمنَّيت أن أجده يعمل مع أبي، ولكن أبي نائمٌ.
أي امرأةٍ غير بهيرة كان يمكن أن تنهار، ولكن بهيرة شيء آخر. من المؤكد أنها طبيعة أخرى غير طبيعة البشر.
– اسم الله عليك يا شهاب، مالك يا ابني؟
وراحت تجس جبهته: آه، قل هذا.
– ماذا؟
– الولد نار، ضع يديك يا يحيى.
ووضع يحيى يده، والعجيب العجيب أنه قال: فعلًا فعلًا عنده حُمى.
– تعالَ يا شهاب، استند عليَّ.
وفغر شهاب فمه ولم يستند على أمه، وإنما استندت هي عليه وسحبته، ولكن من ينظر إليهما يُخيَّل إليه أنه هو الذي يسحبها، وذهبت به إلى حجرته، وقبل أن تدخلها سمعت باب حجرة زوجها وهو يُقفل عليه، ودخلت مع شهاب إلى حجرته، وأغلقت الباب وأرادت أن تُلقي به إلى الفراش، ولكنه كان قد أفاق من ذهوله.
– ماما، ماذا تفعلين؟
– تنام وتستريح، وحبة أسبرين تصبح بكرة في أحسن صحة.
– ماما، كيف استطعت أن تقنعيه أنني محموم؟
– لأنك محموم فعلًا.
– ماما!
– انتظر قليلًا، حتى أحضر لك الأسبرين وبعض الثلج.
– اخرُجي من هنا.
– ماذا تقول؟
– اخرُجي حالًا قبل أن أعمل ما أريد أن أعمله.
– شهاب!
– اخرجي!
وأمام نظراته القاتلة، خرجت سهير.
•••
مسكين يحيى! لم يكن ما قاله ابنه جديدًا عليه، كان يعرفه، وفكر كثيرًا! كيف يمكن أن يعالج الموقف؟ أيُطلقها، فتصبح الحقيقة مدموغة بورقة الطلاق الرسمية؟ وهل تحتمل كبرياؤه هذا؟ أيكلمها؟ وتعرف أنه يعرف؟ سكت واحتمل، وكان كل أمله ألا يعرف أحد آخر.
واليوم عرف شهاب، ماذا سيفعل شهاب؟
استطاع هذا السؤال البسيط أن يُبقي يحيى مؤرَّقًا حتى الصباح.
•••
لم يقُل شهاب شيئًا لأبيه، ولكن العبء كان أكبر من أن يحتمله وحده، قال لأخيه، وارتمى الأخوان في دوامة قاتلة من الخزي والشعور بالمهانة: أبلغ تأثيرها عليه إلى هذا الحد؟
– اسمع، إن أبي يعرف.
– ماذا تقول؟
– لا يمكن، لا بدَّ أنه يعرف.
– على كل حالٍ إن لم يكن عارفًا، فقد عرَّفته أنا، ورفض أن يعرف.
– شهاب، ماذا ستفعل؟
– لا نعرف.
– كيف سننظر إلى أم عاهرة، وأبٍ ديوث وصديق خائن؟
– نحن الآن لا نستطيع أن نفكِّر.
– لا بد أن نفكر، ماذا سنفعل؟
– نطلب منهما أن نعيش في بيتٍ وحدنا.
– ربما يرفضان.
– لا تتكلَّمْ عنهما، تكلم عنها وحدها أنها تفعل ما تريد، هو لا شيء؛ بكل صمته المهيب، وبكل عظمته المتجهِّمة هو لا شيء.
– إذن سترفض.
– لا تستطيع أن ترفض لنا شيئًا الآن.
– لماذا؟
– بعد الذي رأيته.
– إنها متأكدةٌ أنك لن تقول لأحد.
– فعلًا، ولكن لماذا ترفض؟
– بماذا تبرِّر خُروجنا من القصر؟
– إذن لا يدخل حامد هذا بيتنا.
– ولا هذا، الظاهر أنك لا تعرف قيمة حامد، إنه صديق الحُكام اليوم، وهو الذي يحمي بيتنا أن يؤخذ، ويحمي أبي أن تُوضع عليه الحراسة.
– حراسة! أيقبل هذا الوضع خوفًا من الحراسة؟
– لا تبالِغ في ظلمه، ربما قبِله حتى لا يعرفه أحد.
– اسمع، لا بد أن نجد حلًّا، لن نستطيع العيش في هذا البيت، بل لن نستطيع العيش في مصر كلها.
– وجدتها.
– ماذا؟
– نسافر إلى الخارج.
– نهرب؟!
– نهرب.
– ولكن الحقيقة التي نعرفها أنستطيع أن نتركها هنا؟
– هناك دنيا أخرى.
– ولكنها لن تستطيع أن تبتلع الحقيقة التي نعرفها.
– على كل حالٍ، هذا خيرٌ من أن نرى هؤلاء الناس.
– أي شيءٍ خير من أن نرى هؤلاء الناس.
– أي شيء خير من أن نرى هؤلاء الناس.
– إلى أين نسافر؟
– إلى فرنسا.
– ولماذا فرنسا؟ نسافر إلى إنجلترا.
– أولًا؛ لأننا نتقن الفرنسية.
– وهذا سبب يجعلنا نسافر إلى إنجلترا؛ حتى نتقن الإنجليزية أيضًا.
– الحقوق دراستها في فرنسا والهندسة أيضًا، أما في إنجلترا فستكون دراسة الهندسة فقط هي الممكنة، فالقانون الإنجليزي بعيد كل البُعد عن القانون المصري.
– لولا الظروف التي نمر بها؛ لكنت تركتك تسافر إلى فرنسا، وسافرت أنا إلى إنجلترا، أما الآن فلا بد أن نكون معًا دائمًا.
– ومسألة اللغة بسيطةٌ، يمكن أن نقضي الإجازة الصيفية كلها في إنجلترا لدراسة اللغة.
– فكرة.
وسافر الأخوان، وتركا القصر العظيم يضُم بين أحنائه تكبُّره وخسَّته وجراحه وخيانته، ولم يقدِّرا .. وكيف لهما أن يقدِّرا أن القلب المتكبر الكَسير لذلك الرجل الذي استطاعا أن يكرهاه، انصدع حُطامه بسفرهما صدعًا الموتُ أهون منه، ولكن طول التكبُّر منه عوَّده تلبس الكبرياء، فانحنى على صدوع قلبه الذي أمسى شظايا. وصمت!