الفصل الثاني والعشرون
لا يستطيع أحد أن يقدِّر أثر الرواية المقروءة المعروضة على مسرح، أو شاشة السينما، أو التليفزيون، أو المذاعة، التقدير الصحيح.
فإن هذه الروايات أفسدت حياة الناس، ونغَّصت عليهم عيشتهم تنغيصًا فريدًا؛ حتى لا يجرؤ شيءٌ آخر أن يُسابقَها في هذا المضمار.
فقد ظلت هذه الأعمال التي نطلق عليها أعمالًا فنية ترسم البيت السعيد رسمًا غاية في السذاجة والعبط، فالزوجة تطعم زوجها بيدها، وتأتي له بالحذاء، وتتولى شئون ملابسه، وتحاول دائمًا أن تضحك معه، ولا تطلعه على شيء يكدرها أبدًا حتى لا يمتدَّ الكدر إليه، وهي طبعًا تطيع أوامره مهما تكُن هذه الأوامر سخيفة. وتحرص هذه الأعمال الفنية أن تجعل حياة الزوجين جميعًا على هذه الوتيرة الواحدة، التي يتخيلها الكُتَّاب السُّذَّج، سعادة لا تُدانيها سعادة وهناءة لا يماثلها هناء.
وأغلب الأمر أن هؤلاء الكُتَّاب يلقون من زوجاتهم عنتًا ورهَقًا يجعلهم يهربون من واقع دنياهم، تلك التي يصطنعونها دنيا مهبولة تفيض سخافة وعبطًا.
ولو وقف الأمر عند هذا لأصبح مقبولًا. وأي خيرٍ أن يهرب كاتب، أو أي شخصٍ، من واقع مرير إلى حلم وَهْم سعيد، ما دام بهذا يقرُّ عينًا ويسعد؟
ولكن الكارثة الكبرى أن المنتجين والمخرجين يأخذون الأمر مأخذ الجِد، ويعرضون هذه الأعمال على الناس.
وهكذا تقولب الحبُّ في حياتنا في هذا القالب المضحك، فالزوجة التي لا تطعم زوجها بيدها، ولا تطيع كل سخافاته، ولا تأتي له بالحذاء أو النَّعل، ولا تطبخ له كل ما تهفو إليه نفسه، تصبح عند الأزواج الذين شاهدوا هذه الأعمال أو قرءُوها، امرأة لا تُعاشَر، وهي في عُرفهم تكرههم ولا تحبهم. ومن الزوجات من صدقت هذه الصورة، وحاولت أن تنفذها في أيام زواجها الأولى، ولكن قليلًا ما تستطيع أن تظلَّ على حالها هذا، ثم تعود إلى طبيعة البشر. وهكذا تنقلب حياة الزوج إلى جحيم وليس هذا منه بعجيب؛ فقد رسمت له الأعمالُ التي رآها الجنَّةَ بهذه المعالم المضحكة، فحين يصطدم بغيرها يصبح من الطبيعي أن يرى حياته جحيمًا، فنقص أي مَعلم من معالم هذه الجنة الفنية هو عنده جحيم. وويل للزوجين إذا كانا تحابَّا قبل الزواج؛ فإن كلًّا منهما سيتوقع من الآخر أن يقتل نفسه وهو سعيد؛ ليقدم لحبه كلَّ ما يمكن أن يخطر ببالِ هذا الحب، حتى إذا تمَّ الزواج وعاد كل من الزوجين إلى طبيعة البشر، انكشفت الحقيقة الرهيبة أن الرجل إنسان بشرٌ، وأن المرأة إنسانة بشر، وتصطرع الحياة على أنغام نفير الحروب، بعد أن كانت ساجية بين المحبين على أنغام موسيقى الملائكة.
وفي أتون هذه الأوهام، تحطَّم كثير من حبٍّ كان صادقًا، ولكنه كان مجنونًا، ودُمرت زيجات كان يمكن أن يفوح منها عبير يانع عن أيام مخضلَّة بندى الحنان والمودة، ولكنها جهِلت الواقع، ولم تستطع الأيام أن تنقلب عندها إلى أحلام وأوهام ورؤًى.
ولكن أسامة كان محصَّنًا ضد الأوهام، فلو أن الحياة سارت بأبيه رخاء كلها، ولو أنه تُرك لأمه وحدها لواجَه، في كل متَّجه من حياته، ذلك الحلمَ الباسم المستبشر الذي ينقلب إلى واقع كشرٍ متجهم ذي أنيابٍ ونصال ومدى.
لقد صاحبت نمو أسامة تلك الأزمة التي تعرَّض لها أبوه، ووعى أباه وهو يركب الموتوسيكل السيدكار، وهو ما يزال يذكر أمه وهي تعتذر عن عدم قبول الدعوات؛ حتى لا تصبح مضطرة أن تردها بمثلها، ورأى بيته والطعام فيه معدود بقدر الأشخاص، بعد أن كان دائمًا موفورًا لا يحصيه حجمًا ولا عددًا، حتى لقد كان الخدم يدعون من يشاءون من خدَم الجيران، ورأى أمه تمكث السنة بأكملها لا تدخل بيتها خيَّاطة، ورأى أباه لا يفكِّر في شراء قماش جديد لنفسه سنوات، ولكنه أيضًا يذكر أن ملابسه هو دائمًا كانت تتجدَّد، فلم يعُد على مظهره إشارة من ضيق يدٍ، وأدرك كيف كان أبواه يجنِّبانه دائمًا أن يحسَّ بما يمرَّان به، وحسِب الجانبان أن ابنهما لم يشعر بشيءٍ، وحنا هو عليهما فلم يشعرهما أنه أحس بشيءٍ.
ومرت بهم هذه الأيام النكِدة الماجدة، واستطاع أسامةُ بضربة حظٍّ أفلس فيها أبوه أن يصبح هو من أغنى الناس نفسًا، واستطاع أن يعرف أن الحياة التي تعطي تستطيعُ أن تمنع، وأن الإنسان إذا لم يعرف من الحياة حالتَيْها، صار فيها هشًّا هينًا جاهلًا، أو أحمق تصرعه أي ريحٍ من رياح الحياة.
ورياح الرخاء والغِنى والدَّعة والهَناء تحمل من طواياها نفس الأخطار التي تحملها رياح الفقر والحاجة، والعوَز والشقاء.
وإذا كان الإنسان يحتاج أن يكون قويًّا ليواجه الحياة، وهي تطحَن وتفترس بمخالب الفقر، فهو محتاج أن يكون أكثر قوةً؛ ليواجه الحياة وهي تبتلع وتمحو من الإنسان إنسانيته، حين تفرش الذهب والماس تحت الأقدام.
استطاعت هذه الفترة النكِدة أن تجعل من أسامة إنسانًا يعرف تقلُّبات الحياة؛ الأمر الذي لم يستطعِ المسكين يحيى أن يعرفه، فلو كان يحيى قويًّا في لقاء الغِنى، لما انهدمت به الحياة، ولما تصدَّعت جوانب نفسه، ولما خلت الحياة عنده من كل معنًى للحياة.
في هذه الأيام النكِدة التي شهِدَها قصر راشد باشا، كانت أسرة فهمي عبد الحميد من الأسرات النادرة التي تأتي للقصر أغلب أيام الأسبوع، وتوطَّدت علائقُ الصداقة بين خديجة وبين نعمات زوجة فهمي. وفي فناء القصر لعِبَت جميلة مع أسامة، كانت تصغُره بعامٍ وبعض عام، ولكنه لم يكُنْ رآها قبل أن تصبح أمها صديقةً لأمه.
لم يكن حبًّا ذلك الذي نما بينهما وإنما كان أُلفة، وكان يأنس إليها، وكان يخيَّل له أنها تأنس إليه. ولم يكن يدري يومذاك شيئًا عن الصِّلات التي تجمع بين أبيها وأبيه، وما كان يستطيع أن يعيَ هذه الصِّلات، ولا أن يفهمها. وكيف لمثل من كان في سنِّه أن يفهم هذه الحرب، وهذا العداء، ثم هذا الحب وذلك الإيثار؟ وكيف يستطيع أن يعيَ في براءته الإنسانَ يسفل إلى هذه الخسَّة، ثم يعلو هو نفسه إلى هذه السموة؟
لم يكن يدري شيئًا دائمًا، كان يأنس إلى جميلة وكان يألفها، وكان يحب أن تأتي، ويحب أن يلعب معها طفلَين، ثم أصبح يحب أن يحكي ما يجري له في المدرسة، ثم أصبح يحب، حين باكرته الرجولة ونهدت هي إلى الأنوثة، أن يحادثها عن كل شيءٍ، ويستمع منها عن كل شيءٍ. وكانت تُحس أن ما يقوله لها لا يقوله لسِواها، وكانت تعرف أن ما تقوله هي له لا تقوله لسواه، على براءةِ ما يقول وما تقول.
وحين تزوَّجا كانت بينهما هذه الألفة الحنون التي تكون بين الزوجين، ولم تكن الناحية المالية تُشكِّل لهما أيَّ عقبة؛ فقد استعاد راشد ثروته، وكتبها جميعًا باسم أسامة، ولو أن هذا لم يكن يعني شيئًا بالنسبة لأسامة في حياة أبيه؛ فقد كان راشد هو الذي يتصرف في كل دخله.
وقد تزوج أسامة، وراشد ما زال على قيد الحياة، وكان راشد سعيدًا بهذه الزِّيجة أشدَّ السعادة، كما سعدت بها أيضًا خديجة. وحين استقرَّ الزوجان الصغيران بالمنزل تنازلتْ خديجة عن سيادة البيت، وجعلت لجميلة اليد الطُّولى والوحيدة في إدارة البيت، وحلا لها أن تأخذ المكان الذي أخذته منها هانم أفندي حين تزوجت هي راشد، وسعدت خديجة بمكانها هذا الجديد، وقد استطاعت جميلة في ذكاء أن تجعل خديجة دائمًا في مكانة عُليا، أوامرها مقدسة وراحتُها موفورة قبل أن تتوافر لزوجها أو حتى لحميها.
وحين مات راشد، كان أسامة قد عمِل في المحاماة، ووجد نفسه في مهنته، فاستطاع أن يكون حكيمًا في تصرفاته المالية؛ يعيش عيشةً كريمة، ولكنها بعيدةٌ عن السفه.
وكان من الطبيعي أن تختلف خديجة وأسامة في أيام زواجهما الأولى، ولم يكن أسامة يدهش أن يجد أباه وأمه يقِفان إلى جانب زوجته، حتى وإن لم تكن محقَّةً، فقد وجدا عندها طاعة الأبناء وحبَّهم هذه الطاعة، وذلك الحب الذي يصبح موضع إكبار إن جاء من غير الأبناء.
وحين مات راشد، ظلتْ جميلة التي أصبحت ست البيت، فِعْلًا لا تفضُّلًا، أكثرَ عناية بحماتها، وأكثر رعاية لها وحدبًا عليها.
وحين تتابعت قوانين الإصلاح الزراعي ابتلعت الغالبية العظمى من ثروة فهمي عبد الحميد، فلمَّا مات كان ما تركه من مالٍ يكاد لا يقوم بشأن أولاده، فكان أسامة يعوِّضهم عما أصابهم كلما سنحت فرصة لا تجرح كرامتهم، وأصبح يحُث زوجته أن تعطي أخويها كل ما يحتاجان إليه حتى لا يحسا بعنَت الحياة. إلا أن الأخوين وجدا أن الأمر لا يمكن أن يستمرَّ على هذا المنوال، فكتب كل منهما توكيلًا لأسامة ليُدير ما بقي من أرضهما، واتجه الأكبر جميل إلى الكويت، واتجه الأصغر صبحي إلى السعودية، ومرَّت الحياة بالزوجين أسامة وجميلة طيبة، لا يشوبها إلا ما يشوب البيوتَ السعيدة من خلافات يمحوها الحبُّ، أو شجار يعصف به الحنان.
وأنجبا راشد وفهمي، وراحت الحياة تكرِّر نفسها مع الطفلَين، ليدرجا في طريق درج فيه أبواهما من قبل قد تختلف تفاصيله، ولكن المعالم الأساسية فيه واحدة.
وحين كسدت سوق المحاماة المدنية، وفكر أسامة أن يتَّجه، كما اتجه كثير من غيره، إلى البلاد العربية، جاءته أم مرسيلة لتغير متجه حياته جميعًا.
فمنذ ذلك اليوم الذي قصدت فيه إلى مكتبه، أصبح أسامة من أكبر المحامين في القضايا السياسية، ولم تكن هذه القضايا وحدها تكفي مكتبه، ولكن ذيوع اسمه فيها جعله بعيد الصيت في القضايا الجنائية، وانتعش المكتب واستقرَّ أسامة، وأصبحت الحياة أمامه هانئة سعيدة، ومَن أسعد من رجل بارع في عمله يعترف الجميع ببراعته؟
وهل هناك اعتراف أعظم من تلك الدعوة التي جاءت إليه عن طريق ضابطٍ دخل إلى مكتبه بغير إذن، ليقول له في محاولة فجَّة للتلطف: سيادتك مطلوب.
– أنا؟
– نعم.
– من الذي يطلبني؟
– ستعرف حين تذهب.
– أذهب؟
– سأذهب معك.
– إلى أين؟
– ستعرف.
– لماذا؟
– ستعرف ذلك أيضًا.
– أهو قبض؟
– لا، المسألة لن تصل لهذا.
– لقد وصلت فعلًا.
– إنها مجرد دعوة.
– هل أستطيع الاعتذار؟
– طبعًا لا.
– فهي أمر بالقبض، وليست دعوة.
– سيادتك تستطيع أن تسمِّيها كما تشاء.
– ألا أخبر البيت؟
– لا داعي.
– مجرد مشورة أم هو أمرٌ ألَّا أتصل؟
– لا داعي، والسلام.
– ومن أين يأتي السلام؟
– تفضل.
– حاضر.