الفصل الرابع
لماذا يتوقف العقل عند بعض الناس، ويتصرَّفون تصرفات حمقاء، مع أنهم من ذوي العقل الراجح الذي استطاع أن يمكِّن لهم ويُنزلهم منزلة محترمة عند الناس؟
لو أن أحدًا سأل زكريا باشا حسام الدين على سبيل الاستشارة: ما رأيك في زيجةٍ الزوج فيها فات الخمسين منذ ستِّ سنوات، وهو يحث الخُطى نحو الستين، والزوجة فيها تمشي الهُوينى إلى العشرين من عمرها لم تكمِلْها؟ لكان جوابه متسمًا بالعقل والرَّزانة وبُعد النظر؛ فالمسألة لا يختلف فيها عقلان على شيءٍ؛ أن الرجاحة أو على الأقل لا ينعمان بالغباء الشديد.
ولكن العجيب أن زكريا باشا حسام الدين هو نفسه تزوَّج الآنسة سهير ممدوح كريمة ممدوح عزت باشا. أما زكريا باشا فهو مستشار في محكمة الاستئناف عُرف بعلمه الواسع بالقانون، بل وعُرف أيضًا بحبه للأدب، وكثيرًا ما كانت أحكامه قِطعًا أدبية يتغنَّى بها المحامون خاصةً الذين صدر الحكم في صالحهم، وهو موسَّع عليه في الرزق، واسع الأفق، عميق النظرة؛ ولهذا لم يكن عجيبًا أن يصبح وزيرًا. وقد سُرَّ بهذا؛ لأنه كان يفكر منذ زمن أن يترك القضاء الجالس إلى القضاء الواقف. ولعله في ذلك تأثَّر بالقصة التي تُروى عن أحد مشاهير المحامين في فرنسا، وكان ابنه يعمل في القضاء، وكانت سُمعة ابنه أيضًا عظيمة، فقد عُرف عنه أنه من أحسن القُضاة. وفي يومٍ سأل أحد الصحفيين المحامي: لماذا تعمل أنت في القضاء الواقف، بينما يعمل ابنك في القضاء الجالس؟
فأجاب المحامي الذكي: لو استطاع ابني الوقوف ما جلس.
وأغلب الأمر أن الأب كان يريد ابنه أن يعمل معه في المكتب الكبير، ليظل محتفظًا بمكانة المكتب بعد وفاته، والراجح أن الابن كان يفضل العمل في القضاء بطبيعة مواهبه أيًّا ما كان الأمر، فالمؤكد أن زكريا باشا تأثر بهذه القصة، وأراد أن يقف عن كرسي القضاء ليصبح محاميًا واثقًا من عمله القانوني، ومن لغته في وقت معًا.
وهكذا جاء تعيينه في الوزارة خير طريق يخرج منه إلى مقاعد المحامين. كان زكريا باشا قد تزوَّج في أول حياته نعيمة هانم شهاب بنت مجدي باشا، وقد أنجب منها ابنهما عدلي.
ولكن زكريا باشا كان يحب النساء، وكان بارعًا في الحصول عليهن، والطريق تجمع أصحاب القصد الواحد، فلم يكن عجيبًا أن يجمع طريقُ النساء بين الباشا زكريا والبك راشد، فكانت صداقة قوامها الأول، وقد يكون الأهم، النساء.
ولكن «راشد» صاحب مصالح كبيرة، والباشا زكريا حين ترك الوزارة إلى المحاماة أصبح يتمتع بنفوذ كبيرٍ، وأصبحت الأبواب التي لا تُفتح لغيره من المحامين تُفتح له. ولراشد عينٌ يقظى كعين الصقر تدري أين يكمُن الخير لها، فقضايا راشد تنتقل إذن من تلقاء نفسها إلى مكتب الباشا، وتزداد الصداقة توثقًا.
لعلك الآن تعجب إن ذكرتُ كل شيءٍ عن الباشا أو أكاد، ولم أذكر شيئًا عن زوجه الأولى نعيمة هانم شهاب، ولا عن زوجه الثانية الآنسة سهير حمدي.
وما كان لي أن أذكر شيئًا عن واحدة منهن دون تفصيل لا يقبل الإجمال؛ فنعيمة هانم شهاب هي الابنة الوحيدة للغني الشهير مجدي باشا شهاب، وهي سيدة علَّمها الغِنى أن تأمر فتُطاع، وليس زكريا باشا بأقل منها غنًى أو أدنى حسبًا، وإنما تعلقه بالنساء وعلمُه بأنه لا شكَّ سيخونها جعله يسمح لها بأن تأمر فتُجاب، وأن تبدوَ وكأنها هي رجل البيت. وكان ذكاء زكريا ومعرفتُه أنه آخر الأمر يستطيع دائمًا أن يفعل ما يريد داخلَ البيت أو خارجه يجعله يتيح لها هذا المظهر المتأمر الصُّلب تفرح به هي، ولا يخسر هو شيئًا.
ولكن شيئًا واحدًا فات زكريا باشا، وما هذا بعجيب؛ فالأذكياء أيضًا تفوتهم أشياء.
لقد استولت نعيمة هانم على ابنهما عدلي منذ ولادته، فهي وحدها صاحبة الشأن في تربيته وهي التي تدخله المدرسة، بل إنها هي التي اختارت له الكلية التي يدخل إليها، والعجيب أن هذه الكلية لم تكُن الحقوق التي تخرَّج فيها أبوه، والتي تخرجت فيها الغالبية العظمى من وجوه البلاد ووزرائِها وحُكامها. لقد اختارت له كلية الهندسة وقد نشأ عدلي فكرةً من أمه وخطرةً منها وإشارةً من يدها، فهو لا يعرف أن يختار ولا يريد أن يعرف، فالذي لم يعرف الحرية يومًا لا يفكر فيها، بل لعله إذا مُنحها تمثَّلت له شيئًا بغيضًا لا يُطيقه ولا يحتاج إليه. فالاختيار في الحياة شيءٌ صعب ومهمة شاقةٌ لا يتعرَّض لها إلا من لا يتمتع بأمٍّ كأم المهندس عدلي التي تختار عنه كلَّ شيءٍ يتعلق به، وكلَّ طريق ينبغي له أن يسير فيه.
وحين تخرج عدلي في كلية الهندسة اختارت له نعيمة هانم زوجتَه وتزوجها، وكان عدلي على غِناه دميم الخلقة، وأصبح بفضل السيدة والدته كريهَ الخُلُق ضعيفًا تافهًا. وحين تزوج وانسلخ كيانه عن كيان أمه في السَّكن وخلا به وبزوجته بيتٌ تجلَّى على حقيقته البشعة أمام زوجته؛ أنه لا يجيد في الحياة إلا أصناف الطعام، فما كان له في بيت أبيه بعدَ أمه إلا الطاهي يلازمه فتعلَّم عنه أصول الطهي حتى أجادها، وأحسَّ بالرضاء عن نفسه واطمأنَّ أنه صاحب موهبة، وسبحان رب العرش في علياء سمائه؛ يهب لكل عبدٍ من عباده مهما يكُن تافهًا شيئًا تطمئِنُّ إليه نفسه أنه يملك ما لا يملكه الآخرون.
وربما كانت هذه الموهبة بالنسبة لزوجته في الأيام الأولى من زواجهما مثارَ ضحِك ومُزاح، ولكن ويل للزوجة وللزوج معًا إذا تبيَّنا أن الضحك والمُزاح إنما هما جدٌّ كل الجدِّ، وأن عبقرية المهندس ليست في شيءٍ إلا في طَهو أصناف الطعام.
ضاقت الزوجة راوية بزوجها أشدَّ الضيق، ولما كان لا بد للضيق أن يتمثَّل في عمل؛ فما هو إلا شهر أو بعض شهر حتى كان عدلي مطيةً وزوجه راكبتُها، ويبدو الأمر من النظرة السطحية أن مثله في ذلك مثل أبيه، ولكنَّ وهلةً من إنعام النظر سرعان ما تعود بها العينُ الخبيرة أن هدوء أبيه عن ذكاء وعن محاولة لإعفاء ما يصنعه خارجَ البيت. أما هدوء الابن فعن غباء؛ ولأنه لا يعرف إلا أن يكون هادئًا. وحلَّت الزوجة محل الأم ولم يقُمْ بينهما أي خلافٍ، فراوية ذكية تعرف كيف تبدو أمام حماتها دائمًا طيِّعة ذلولًا، لا تخالف لها أمرًا أو ترد لها كلمة، فملكت بذكائها الأمَّ والابن جميعًا.
وهكذا وقع زكريا باشا في خطأ لم يُنجِه منه ذكاؤه المتوقِّد، وبدلًا من أن يكون ابنه جديرًا بأن يحمل اسمَه أصبح هُزوة لكل هازئ، وأغلبُ الأمر أن زكريا باشا أراد لابنه أن يُلهي زوجتَه عنه، فيستطيع هو أن ينصرفَ إلى نسائه ما شاء له الانصراف؛ فإن زوجته تعرف عنه ميله للنساء، بل لقد حدث بينهما حادث تدافعتْ أصداؤه في مصر جميعًا، يوم أن دعت زوجته سيداتٍ كثيرات في ليلةٍ شاع فيها الأنس والسرور، بمناسبة عودتها من الأراضي الحجازية، بعد أن حجَّت بيت الله وزارت قبر نبيه.
وكان الباشا يوم ذاك في البيت، ولكنه كان في حجرته بعيدًا عن مجتمع النسوة.
لم تكن نعيمة هانم تعرف أن صديقتَها صالحة هي رفيقة الباشا في هذه الأيام، فلم يكن عجيبًا أن تدعوَها. وكم كانت المفاجأةُ صعبة حين تفقدت صالحةَ في أثناء الحفل، فلم تجدها فإذا خادمتُها مبروكة تشير لها بإصبعها إلى أعلى، وتصعد نعيمة هانم إلى حجرة الباشا، فتجدها خالية فتكمل صعودها إلى السطح، لتجد صالحة في أحضان زوجها، وإذا بها تصرخ صُراخًا يتعالى على صوت المغنية في الطابق الأدنى، وإذا بها تخلع حذاءها، وتنهال به على معالي الباشا، وكان يومذاك وزيرًا جديدًا. وتصبح القصة حديثَ مصر جميعًا، وتُطَّلق صالحة من زوجها، وتنقطع صلة الباشا بها.
ولكن الباشا لا يستطيع العيش من غير أخرى، ويتعرَّف في هذه الأيام على المستشار ممدوح بك عزت، وهو رجل اقترب من المعاش، وذهب إلى معالي الوزير يرجوه أن يسعى له أن ينالَ رتبة الباشوية، وهو في طريقه إلى مقاهي المعاش.
وممدوح بك عزت رجل تزوَّج وهو كبير السن من سيدةٍ مات عنها زوجها، هي السيدة نبوية الباجوري، وقد أنجبت لزوجها فتاةً كان عمرها يومَ ذهب والدُها إلى وزير العدل يدور حول العشرين.
في غمرة التقرُّب الذي يسعى به ممدوح بك إلى معالي الوزير دعاه إلى الغداء في منزله، وهناك رأى الباشا لأول مرةٍ بيت ممدوح بك، ورأى أيضًا ابنة ممدوح بك. أما البيت فكسير متواضعٌ يدل على أن سعادة المستشار شريف وفقير، وأما البنت فتدلُّ على أن سعادة المستشار أحسنَ اختيار زوجتِه، وأن الله جعل الابنة تشبهُ الأجمل في والدَيها.
راقت سهير في عين الباشا، ولكن هذه فتاة في حضن أبيها، فلا سبيل إليها أو على الأقل الطريق الذي تعوَّد أن يسلكَه لا يصلح معها، مع هذه الفتاة ليس هناك إلا طريق واحدة.
– سعادة الباشا، ابنتُك سهير غاية في الجمال.
– لا تنسَ يا معالي الباشا أن صدور الرتبة منك يوشك أن يكون براءة للباشوية، فأنت الوزير المختص باقتراح الرُّتب للمستشارين.
– سعادة الباشا أنا أعرف اختصاصاتي كلَّ المعرفة.
– إذن؟
– أظن جلالة الملك لا يرضَى أن يكون أبو زوجتي «بك».
– ماذا؟ ماذا قلت معاليك؟
– أنا يا أخي أخطب ابنتك لنفسي.
– هذا شرفٌ يا معالي الباشا.
– ولي شرط.
– أنا تحت أمر معاليك.
– أن يظل الزواج سرًّا حتى أجدَ الفرصة مناسبةً لإعلانه.
وتم الزواج، ونال ممدوح باشا رتبة الباشوية.
لم يكن عجيبًا أن يقبل ممدوح بك أو باشا خطبة ابنتِه، فقد كانت المناصب والرُّتب ذات شأن أسطوري في ذلك الزمان، ولكن العجيب أن شخصًا في ذكاء زكريا باشا يخطب فتاةً تصغر ابنه بعشر سنوات. من المؤكد أنه ما كان ينصح أيَّ إنسان ينتصحُه أن يفعل ما فعل، ولكن الإنسان دائمًا يظن أنه شيءٌ آخر غير الناس، وأن ما لا يجدر بغيره يجدر به؛ فزكريا مثلًا كان يظن أن شبابه دائم، وأن الجاذبية التي يتمتع بها تستطيعُ أن تعوِّض سهير عن فتوة العشرين، وأن اللقب والمكانة أهم بكثير من تقارب السن.
ولم يكن الأب يسأل ابنتَه في شأن زواجها؛ ولهذا لم تحاول سهير أن تمتنع، فما دام أبوها قد اختار لها هذا فلا تُردُّ إرادته، ولكنها في شبابها المتفتِّح كانت تعرف الطريق الذي فرشَه لها أبوها برتبة الباشوية التي نالها.
وظل الزواج سرًّا.
شخصٌ واحد كان الباشا يصحبه إلى بيت زوجته الجديدة، هو راشد بك برهان، فقد عرف فيه الباشا قدرتَه الفائقة على سكب حياة كاملة في لحظات مُتعة. وقد كانت السرية التي تحيط بالزواج تجعل الصلةَ بينه وبين زوجته يحيط بها جوُّ المغامرات الذي كان يحيط بصِلاته مع رفيقاته السابقات. وقد كان الزواج يحصِّن العلاقة إذا هي افتضَحت من أن تلوكَ الألسنةُ اسمَه كما لاكَتْها في حادثة الحذاء، وفي أحداث أخرى مشابهة.
أُعجب راشد بزوجة الباشا وأُعجبت به، رأت فيه الشخص الذي تستطيع معه أن تمارس شبابها وتحسَّ بجمالها الآسر مقدَّرًا عند خبير نساء. وهو وإن كان يكبُرها في السن، إلا أن الفارق أقل من ذلك الفارقِ الذي يفصِلُها عن زوجها.
أحست سهير في عينَي راشد الإعجاب، وكانت تعلم أنه لن يُقدم على مغازلتِها على مرأًى من زوجها، فالزوج لمَّاح الذكاء، وراشد يعرف مقدار لماحيته وذكائِه. إذن فلتُقدم هي.
حين انتهت السهرة، وحان الموعد لراشد أن يترك الزوجين، قام واستأذن وصافَح الباشا وصافح سهير، وإذا بشيءٍ أدرك أنه ورقةٌ تتكور في يدِه، فيطبق عليها يدَه.
ويقرأ راشد على ضوء سيارته الداخلي:
«تعالَ غدًا في الساعة السابعة، الباشا لن يأتي غدًا.»
ويضع الورقة في جيبه ولا يتولَّاه عجب كثير، فقد كان يعلم أنه إذا لم يقُم هو بدور العشيق لهذه الزوجة الشابَّة فسيقوم غيره، ولا بأس أن يخون صديقَه الذي ائتمنه على حريمه، فهو خير ألف مرة من غيره، فقد يكون هذا الغير محبًّا للظهور، وقد يكون شابًّا فيه رعونة الشباب وزهوه، فيفتضح من أمر الباشا ما ينبغي أن يكون سرًّا.
فهو إذن يقوم بدور العشيق لزوجة صديقه؛ حمايةً لعرض هذا الصديق أن تنتاشَه ألسنة حِداد، وفي ميدان السياسة يُباح كل شيءٍ.
ذهب إلى بيته في هذه الليلة، فاستقبله بدوي خادمُه الجديد بعد أن أحال خادمَه السابقَ على المعاش. فقد كان عم محمدين، كما كان يسميه، قد بلغ من الكِبر عتيًّا، فطلب إليه أن يظل في البيت يشرف على المأكل والمشرب ويترأَّسُ الخدم، دون أن يقوم بأي عمل، وطلب إليه أيضًا أن يستقدم خادمًا له جديدًا يقوم على خاصَّة شأنه، ويتولى شأن ملابسه. فكان بدوي.
خلع راشد حُلته وألبسه بدوي الجلباب، واستلقى راشد على سريره. لقد بدأت مغامرة جديدة. لم يكن إلى ذلك الحين قد رأى خديجة، بل إنه لم يرَها إلا بعد ذلك بحوالَي عامين استمرَّت فيهما علاقته بسهير، وطبعًا لم يعرف الباشا شيئًا، فكان كثيرًا ما يقضي مع الزوجة وزوجها السهرات.
•••
اغتالت البورصة فهمي عبد الحميد، صديق راشد اللصيق وجاره في الأرض الزراعية، وشحَّ المال في يده، وأوشك أن يبيع عزبته المجاورة لأرض راشد الواسعة، فاستدعاه راشد: كم تحتاج؟
– لماذا لا تشتري أنت العزبة؟
– هذا كلام فارغ.
– المبلغ كبير.
– ولكن البورصة لا تستمرُّ على حال واحدة.
– وهي أيضًا بلا قلب.
– إذا كانت خانتك اليوم وأعطت غيرك، فليس بعيدًا أن تخون غيرك في غدٍ وتعطيَك.
– إذا أعطتني أشتري أرضًا أخرى، أو أسترد منك الأرض.
– أنا لن أشتري.
– ابحث عن مشترٍ.
– وأنت لن تبيع.
– غير معقول أن تسلفني مبلغًا كبيرًا كهذا.
– إذا لم أحتمل أضمَنْك في البنك.
– أريد عشرة آلاف جنيه.
– عندي.
– أبيع العزبة أحسن.
– العزبة تساوي أكثر من هذا، خذ.
وأعطاه شيكًا بالمبلغ، وكتب فهمي كمبيالة مستحقَّة الدفع عند الطلب، وضعها راشد في حافظة نقوده.
•••
في سهرةٍ عند الباشا أو عند سهير أيَّهما شئت، قال راشد: معالي الباشا، عندي خبر لا بدَّ أن أقوله.
– وهل تحتاج إلى مقدمات؟
– ولعل سهير هانم يهمُّها أن تعرفه أيضًا.
– خيرًا؟
– ربما أصبح من العسير عليَّ أن أكثر من زيارةِ معاليك بعد ذلك.
– إذن فالخبر هامٌّ حقيقةً.
– أنا أيضًا سأتزوج.
واربدَّ وجه سهير هنيهة، ولكن سرعان ما استجمعت قوة الأنثى.
– ألف مبروك.
وقال الباشا: نعرفها؟
– يا معالي الباشا لو كنت تعرفها ما تزوجتُها أنا أبدًا.
وقهقه الباشا بصوتٍ مرتفع.
وتبسمت سهير، وقال راشد مستطردًا: نعرف أباها، وإلى هنا والمسألة سليمة والحمد لله.
– من؟
– ابنة عثمان باشا فكري.
– لقد اخترت.
– حقًّا يا باشا؟
– سمعت عنها كل خيرٍ.
– الحمد لله، معاليك متأكد أنه سمعٌ فقط؟
– نعم، نعم، لا تخَفْ. وماذا تريدنا أن نقدم لك هدية لهذا الزواج؟
– معاليك خير من يختار.
– إنني أعد لك مفاجأة منذ بضعة أشهر، أظن أنها تصلح هديةً لزواجك.
– هل لي أن أسأل؟
– الآن أستطيع أن أقول لك.
– عظيم.
– أنت تعرف صلتي برئيس الوزراء.
– نعم، ولو أنك رفضت أن تشترك في الوزارة.
– الوزارة بالنسبة لي خسارةٌ كبيرة، فهي تجعلني أترك الشركاتِ التي أعمل بها.
– ربما كنتَ على حق.
– اعتذرتَ عن عدم قبول الوزارة، ولكن تستطيع أن تعتبرني مشتركًا فيها، فرئيس الوزراء يستشيرني دائمًا، وقد طلبت أجرًا لاستشارتي هذه.
– طبعًا استشارة زكريا باشا لا بد أن تكون مكافأتُها كبيرة.
– لقد طلبتُ لك الباشوية.
– حقًّا؟
– وأظن أن اسمك سيظهر في إنعامات العيد.
لم يبقَ إلا أشهر قلائل، تصبح راشد باشا برهان.
– اسمح لي أن أُقبلك يا معالي الباشا.
•••
حين ذهب إلى بيته راح خادمه الجديد إدريس يخلع عنه ملابسه، فقد غضب عم محمدين على بدوي، واتهمه بأن يده طويلة وحرامي، فطرده وجاء بإدريس بدلًا منه، ولم يكن راشد بك يرد لعم محمدين أمرًا يأمره في البيت، فقد كبر على يدَيه وهو يُعتبر مربيًا له.
لاحظ إدريس أن راشد بك سعيد حالم، وإن كان لم ينطِقْ بحرف واحد، وبينما هو يخلع عنه بنطلونه إذا بعم محمدين: سعادة البك.
وقال راشد في نفسه بعد بضعة أشهر: ستقول سعادة الباشا، يا عم محمدين.
– نعم يا عم محمدين.
– فهمي بك تحت.
– الآن؟
– لما رأى دهشتي، قال إنه يريدك في شيءٍ مهم.
– اللهم اجعله خيرًا. ألبِسْني يا بدوي، آسف أقصد يا إدريس.
وحين لبِس قال لمحمدين: هات دفتر الشيكات من درج الدولاب يا عم محمدين. ونزل راشد إلى حجرة مكتبه.
– خيرًا يا فهمي؟
– أين الكمبيالة؟
– يا رجل، أمن أجل هذا تأتي في هذه الساعة؟!
– إن الحديث الذي أريدك فيه لا تصلُح له إلا هذه الساعة.
– هل ردُّ الدَّين يحتاج إلى هذه الساعة؟
– إني سأرده نعم، ولكن ليس بالطريقة العادية.
– ماذا؟
– معي ورقة تحتاج إليها.
– وهل تريد أن تبيعَها لي؟
– نحن نعمل في البورصة، وأنت قلت: إن البورصة لا قلب لها.
– ولكن نحن لنا قلوب.
– نحن أبناء البورصة.
– بل نحن أبناء الإنسان.
– المهم، ألا تريد أن ترى الورقة؟
– لا بأس.
وأخرج فهمي الورقة وفتحها لحظة، ثم أقفلها وأعادها حيث كانت.
ودارت الدنيا براشد، واستمرَّ فهمي: إنك على وشك الزواج، وفضيحة كهذه تقضِي على زواجك.
– هل هذا معقول؟
– وقد عرفت أنا بتحرياتي أن الباشا تزوَّج سهير ممدوح، وطبعًا الورقة منها.
– أيمكن هذا؟!
– تصوَّر لو وقعت الورقة في يد ابنِه عدلي، لقد جُن حين أخبرته أن أباه تزوج، وحاول أن يخبر أمه، ولكنها في مرض الموت ولا تعي شيئًا.
– أهذا فهمي الذي يكلمني؟
– تصور أن عدلي ينوي رفع دعوى سفَهٍ على أبيه؟! فكر في أثر هذه الورقة في القضية.
– فهمي، المبلغ لا يهمني، وسأعطيك الكمبيالة، ولكن كيف تصنع أنت هذا؟
– ألم أقل لك إن البورصة لا قلب لها؟
– ولكن أنا أيضًا ابن البورصة وأنا … أنا …
– أعرف ما تريد أن تذكره من شهامتك، ولكن الناس معادن، أنت شهمٌ وأنا نذل، أظن أن هذا يوفِّر عليك كثيرًا من الكلام.
– هات الورقة.
– هات الكمبيالة.
– لك حق، فأنت تظن الناس جميعًا مثلك، نتبادلها في وقت واحد.
وتمت المبادلة.
– هل اطمأننت الآن؟
– كنت أستطيع أن أطلب ضِعفَي هذا المبلغ، وكنت ستدفع.
– الآن اعلم أنك أنت الذي ستدفع، وستدفع أضعاف ما أخذتَ.
– أتظن ذلك؟
– سترى.