الفصل الخامس
وهكذا سافر راشد إلى أوروبا مع عروسه وفي ذهنه كثيرٌ يشغله، فقد ترك زوجة زكريا باشا نعيمة هانم بين موت وحياة، وابنه عدلي كاد يجنُّ من خبر زواج أبيه، وهو لا يجد من أمه أذنًا أو فهمًا ليبثَّها هذا الخبر، فتقضي على هذا الزواج قضاءً مبرمًا، وهو وإن كان قد تجاوز الثلاثين إلا أنه غبيٌّ قاصر العقل هزيل التصرُّف، وليس ببعيد أن يرفع دعوى السفَه على أبيه، فجهلُه يحول بينه وبين معرفة هَزْل هذه القضية وعدم جِدِّيَّتها. وكل ما يعرف عن أبيه أنه زوجُ أمه الذي يطيعها في كل شيءٍ، ولو كان على شيءٍ مهما يكنْ هينًا من الذكاء، لعرف أن أباه لا يطيع أمه إلا في تافه الأمور، فلو قد فكرتْ أن تتعرض لآرائه الفقهية أو السياسية، لكان له معها شأن آخر.
وليس راشد بالذي يفكِّر هذا التفكير جميعه في شأن زكريا لمجرد الاهتمام بأمره، وإنما خشِيَ أن يشغله شأن ابنه هذا عن السعي إلى الباشاوية التي وعَده بها.
وهو يخشى أيضًا أن تؤلِّبه سهير عليه، فقد قطع علاقته بها تمامًا منذ ذلك اليوم الذي أعلَنَها فيه أنه سيتزوج، وللسيدات إلى هذه الأمور مداخلُ لا يلِجُ منها سوى ذكائهن.
ولكنه مع كل ذلك كان يفضل السفر فهو لا يحب أن يُظهر أحدًا على اهتمامه برتبة الباشوية، ثم لا تأتي، وهو يفضل أن يعرفها الناس من المرسوم لا منه، وأن له أصدقاء خُلَّصًا، وهو يخشى — وإن كان يعرف نفسه — أن تفلِتَ منه كلمة تُنبئ عما يدور بنفسِه من آمال.
وقد حرص راشد ألا يخبر زوجته بما ينتظر، فالرُّتبة عند السيدات لها مكانة خاصة، وهو يخشى ألا تأتي فتهتزَّ مكانته في نفسها.
لم يستطع شيء من هذا جميعه أن يحول بينه وبين أن يعيش الساعةَ في فرنسا ساعات مكثَّفة من البهجة، يشيعها من نفسِه إلى قلب زوجته، وإلى قلب كل من يشاركهما في ليالِيهما أو في بياض نهارهما.
فهو من أولئك القلة التي تعرف لكلِّ لحظة حقَّها، فلا يعدو التفكيرُ على المتعة، ولا تعدو المتعةُ على العمل.
وهو أيضًا كان يعلم أن ليس في القاهرة شيءٌ يستطيع أن يفعله، فالانتظار وحده ليس عملًا.
أما عن فهمي؛ فإنه لم يبت ليلتَه التي زاره فيها ليعرض سفالته إلا وقد أعدَّ له عُدتَه، وعرف تفاصيل ما سيفعله بشأنه، ولم يكن الموعد الذي حدده قد جاء بعدُ.
حين عاد راشد إلى القاهرة في أوائل سبتمبر، كان الباشا قد أعلن زواجَه من سهير بعد أن ماتت نعيمة، وأصبح الباشا يخرج مع زوجته في كل مكان.
وكان عدلي قد رفع دعوى السفَه على أبيه، فجعل من نفسه أُضحوكة بين الناس. فإن كان لا بد من دعوى تُرفع، كان الأجدر أن يرفعها الأبُ العالِم الذكي على ابنِه الغبي الجاهل.
وكان زكريا باشا كبيرًا كشأنه، فاكتفى بإرسال أصغر محامٍ في مكتبه، وهو يعلم أن مهمة المحامي غاية في السهولة واليسر. ولم يكن عجيبًا ألَّا يفكر زكريا باشا في حرمان ابنه من الميراث، وما كان أيسر من هذا بالنسبة إليه، ولكن لعله بروح القاضي العادل، والفقيه القانوني قد أدرك أنه هو الذي أهمل شأن ابنه وجعل منه هذا السخيف الذي أصبحه بما هيأت له أمه من مجالسَ فارغة مع نسوةٍ جاهلات، وما هيأه له طاهي المنزل من ثقافةٍ مطبخية.
ولم يشأ زكريا أن يعاقب ابنه على خطأ ارتكبه هو نحوه، ويعتبر نفسه مسئولًا عنه.
وبقدر ما كانت أحاديث القاهرة تسخر من سخافة عدلي، بقدر ما كانت تكبر موقف أبيه وتعاليه عن الصغار، وعن أن يجعل نفسه في كفة ميزان مع ابنه السخيف.
كان العيد قد اقترب وذهب راشد إلى القرية ومعه زوجته، وراح يوزع على الفلاحين الملابس والنقود مضاعفة هذا العام، مدعيًا أنها من أجل زوجته، فانطلقت الألسنة تدعو لها وله بكل هناء، وإن كان هو في خبيء نفسه يدبر لأمر ويعد له بهذه المِنح عدته.
ظهرت أسماء الذين أُنعِم عليهم برتبة الباشاوية، وانفجر الخبر في البلدة حيث أحب راشد أن يكون، ففي الريف تصبح الأفراح والأحزان أكثر جلاءً ووضوحًا من المدينة.
في الريف ينطلق الفرح فيصبح في كل بيت، توشك تراه في الشمس وفي القمر وفي الزرع، وعلى وجوه الأنعام، مع زغاريد النساء ورقص الرجال وقرع الطبول وهتاف المزمار.
وأعاد راشد المِنح مرةً أخرى بمناسبة الباشوية، وركب سيارته مع زوجته ليقيِّد اسمه في دفتر التشريفات، ثم ليذهب بعد ذلك فورًا إلى زكريا باشا ليشعره أنه يعرف الفضل لأهله، وأخبره زكريا باشا بالأسماء التي ينبغي أن يمرَّ بها ليقدم الشكر؛ مثل رئيس الوزراء ورئيس الديوان وكبير الياوران وغيرهم.
لم يمكث الباشا راشد في القاهرة أكثر من يومَين، ثم أخبر خديجة أن لديه عملًا في القرية وقد يضطر أن يغيب بها يومين، ولم تكن الزوجات إلى ذلك الحين يناقشن رغبات أزواجهن، وخديجة لها من ثقافتها ما يجعلها تعرف تمامًا متى يجمل بها أن تسأل ومتى ينبغي لها ألا تتدخل؛ فهي تدرك أن أعمال زوجها ليست مجال أسئلة لها أو تدخل.
وهكذا أخذ حضرة صاحب السعادة راشد برهان باشا طريقه إلى قريته.