الفصل السادس
في زيارته الأولى سأل: متى نجمع القطن؟
– بعد بضعة أيام.
– والعِزب التي تجاورنا؟
– بعدنا.
– كلها؟
– كلها؛ نحن أول من زرعنا القطن في الجهة.
– عظيم. سأحضر معكم الجمع هذا العام.
– نزداد شرفًا يا سعادة الباشا.
في زيارته الثانية ركب راشد حصانه وراح يمر بأرضه مع حمزة البلاشوني وكيل زراعته. وبدا وكأن «راشد» أخطأ الطريق فمر على حدود الأراضي المجاورة، وسأل حمزة: كم فدان قطن هذه؟
– ثلاثمائة فدان.
ولم يعقب.
وحين عاد إلى البيت قال لحمزة: أريد متولي الفرَّاش.
– سعادتك تقصد متولي صاحب الفراشة؟
– نعم.
– سعادتك تنوي أن تقيم لنا ليلة بمناسبة الباشوية؟
– ستكون ليلة وأنت بطلها.
– يا ليت يا سعادة الباشا لو كنت أعرف كيف أغني لغنيت للصبح.
– ستغني يا حمزة. ستغني للصبح ولكن بأصواتٍ أخرى.
– سعادتك تتوقع أن أفهم؟
– مؤقتًا المطلوب ألا تفهم.
وسأل متولي صاحب الفراشة: كم كلوب عندك؟
– أمرك يا سعادة الباشا.
– أريد ثلاثين.
– أمرك، سعادة الباشا.
– خذ، اشترِ ما ينقصك وحين تنتهي الليلة خذها لك.
– ربنا يُطيل عمر سعادة الباشا.
– متى تكون مستعدًّا؟
– عندما تأمر.
– الليلة.
– أمرك.
وقال لحمزة: أريد كل نُظَّار العِزب.
– أمر سعادة الباشا.
– بعد ساعة.
– أمرك.
– ومعهم الخولية.
– أمرك سعادة الباشا.
قال لهم راشد: أريد أطفالًا وشبابًا ونساءً في سن جمع القطن.
وقال حمزة: كم تريد؟
– لو كنت أريد عددًا ضئيلًا ما جمعت كل هؤلاء الرجال، أريد كل من تستطيعون أن تجمعوه. وأريد عربات نقل وجِمالًا وحميرًا أيضًا بقدر ما تستطيعون.
ونظر الرجال بعضهم لبعض وقال أحدهم: القطن عندنا لا يستحق الجمع الآن.
– لا عليك يا حاج جودة ستعرف كل شيءٍ في حينه. أنا أعرف أن أحدًا لم يفتح في الجمع حتى الآن. كم نفرًا تستطيع أن تجيئني به؟
– أمرك، أستطيع أن أحضر أكثر من مائتين؛ فالجميع الآن لا يصنعون شيئًا.
– وهذا بالضبط ما قصدت إليه.
– وهو كذلك.
وراح كل ناظر وكل خولي يدلُّ بعدد الأنفار التي يستطيع جمعهم، واكتمل العدد ألفًا ومائتين، أدرك الباشا أنهم لن يتجاوزوا الألف وهذا ما أراد.
– متى تستطيعون أن تحضروهم؟
– إن أردت الآن.
– أنا فعلًا أريدهم الآن. إن انتظرنا إلى الغد فشل كل الترتيب الذي أصنعه.
– أمرك.
– متى تحضرون؟
نظر الحاج جودة حوله لحظة ثم قال: صفار شمس يا سعادة الباشا.
وأمنت الأصوات على الموعد.
قبل أن تغرب الشمس كانت الأرض الفضاء الواقعة أمام سراي راشد باشا برهان تغصُّ بالناس، منهم من جاء تلبية للطلب، ومنهم من جاء ليعرف السر وراء هذه الدعوة الغريبة للناس والأنعام جميعًا. وفي نفس الوقت كان الباشا مجتمعًا مع حمزة ونُظار العِزب في حجرة مقفلةٍ لم يسمح لغيرهم بدخولها. وسأل الباشا حمزة: هل خفر العِزب معكم؟
– طبعًا.
– هل معهم أسلحتهم؟
– طبعًا.
– كم بندقية عندنا؟
– كان عندنا عشر بنادق اثنتان منهما الآن في الإصلاح. عندنا الآن ثمانٍ.
– لا بأس، ما سأقوله الآن سينفذ دون أن يعرف أحد في الخارج شيئًا إلا وأنتم في المكان الذي أحدده.
– أمرك.
– ستأخذون الأنفار جميعًا إلى أرض فهمي عبد الحميد.
ونظر الرجال بعضهم إلى بعض، وأكمل الباشا: في ساعة زمن سينزل الجمِّيعة الغيط، مع كل جماعة كلوب وحول الأرض الخفراء مع بنادقهم؛ يهددون فقط لا أريد عنفًا، وقد تكتمت الخبر وأعتقد أن أحدًا لن يأتي إليكم، وفهمي عبد الحميد غير موجود، وحين يأتي ستكونون قد جمعتم القطن.
الأكياس يا حمزة التي أتينا بها لقطننا أنا اشتريتها لهذه العملية.
– أمرك يا سعادة الباشا.
– تخرجون وتأخذون الأنفار دون أن تقولوا إلى أين حتى يجدوا أنفسهم أمام القطن يا حمزة، هذا أجرٌ مضاعف للأنفار وكافئ كل من يُبدي همة.
الناس في القرى لا يسمحون لفرصة كهذه أن تمرَّ دون أن يعرفوا أعماق أعماق الأسرار التي تقف وراءها، إنهم واثقون أن هذا المشهد الذي يرون سيصبح تاريخًا يتحاكون به ويجعلون منه على الأيام بصمة كعام الفيل الذي خلَّده التاريخ. فكل حدثٍ ضخم في القرية عام فيل، ونراهم يقولون … في سليقةٍ مواتية، وكان هذا قبل حكاية الباشا وفهمي عبد الحميد بأسبوع أو بعدها بشهر، وهكذا ستصبح علامةً زمنية يرويها أب إلى ابنه وابن إلى حفيده.
فهيهات هيهات أن يتركوا الجموع تذهب ولا يقصُّوا أثرها ويتبعوها إلى حيث تذهب، وإن كانت جهنم هي المقصد والمتجه.
وهكذا تجمع مئاتٌ آخرون حول الجميعة الذين أنافوا على الألف، وساروا يتبعهم كل من رآهم، حتى إذا بلغوا أرض فهمي وقف حمزة وألقى أوامره في حسم وفي اختصار، وتفرقت الأضواء، وأحاط الخفراء بالأرض، وتسلَّم كل نفر خطًّا وبدأ جمع القطن. ووقف المتفرجون لحظات وقد عقدت الدهشة ألسنتهم ولكنهم ما لبثوا أن تبيَّنوا مقدار الجرأة والابتكار في هذا الذي يحدث، وهم مطمئنون أن سندهم الباشا؛ فما لهم لا يشاركون فيما أخذ فيه الجميعة، وتصبح روايتهم ذلك مؤيَّدة بأنهم جمعوا مع من جمع؟ وتمكنوا أن يجمعوا ثلاثمائة فدان، بدءوا فيها بعد أذان المغرب وانتهوا منها وصلاة العشاء ما زالت حاضرة.
حتى السرقة في القرى تُوقَّت بأوقات الصلاة. وهكذا نستطيع أن نقول إنه حين وجبت صلاة الفجر كان قطن فهمي عبد الحميد في مخازن راشد باشا برهان مستقرًّا، وكأنه فيها منذ أيامٍ طويلة.
•••
أصبحت هذه القصة أحدوثة المديرية كلها يتناقلونها بشيءٍ أثير من الدهشة. فراشد حسن السمعة لم يمد يده في حياته إلى ما ليس له، وفهمي عبد الحميد ليس فوق مستوى الشبهات، وهكذا سرعان ما ابتدعت الإشاعات قصة عن السبب وصدَّقها الناس.
فالناس لا يحكمون على أحد من حادثةٍ واحدة، وإنما هم ينظرون في ماضيه جميعًا، ويقارنون ويقدمون الحيثيات، ثم يصدرون الحكم.
لقد أكل فهمي عبد الحميد على راشد مبلغًا من المال، وأبى أن يردَّه إليه؛ فلم يجد راشد أمامه سبيلًا إلا هذا، فهو لا يحب أن يستلب أحدٌ أمواله، ما دام هو لا يحب أن يستلب أموال أحد.
وهكذا أصبح فهمي عبد الحميد المجني عليه ظالمًا لا مظلومًا، ولا إشفاق عليه؛ فهو الذي صنع اسمه هذا وسيرته تلك بين الناس، فليس عجيبًا أن يكون هذا هو حكم الناس عليه. وأن من يقدم على ما أقدم عليه نحو شخص أكرمه وأقال عثرته وحفظ عليه ماله وأرضه، ليس غريبًا عليه أن يكون اسمه بين الناس غير كريم. فهذا الاسم يتكون عند الناس من أشياء صغيرة غاية في الصغر، يأتيها ذو النفس اللئيمة عن غير قصد ويستقبلها الناس في كثير من الأحيان، وبنوع من النفور قد لا يعرفون سببه، وليس غريبًا أن تسمع من الناس عن فلان منهم أنهم لا يرتاحون إليه، وربما عجزوا عن إبداء الأسباب إن سألتهم أسبابًا، فهمي عبد الحميد هو هذا الفلان من الناس عند الناس.
عرف أهل المديرية مما تواتر عن هذه الحادثة أن «راشد» في القرية، فتوافدوا إليه من كل البلاد يهنئونه بالباشوية ويسخرون من فهمي عبد الحميد، وربما حاول أصدقاؤه المقربون أن يعرفوا منه ما دعاه إلى ما فعل، ولكنه كان يقول في حسم: هو يعرف وهذا يكفي.
وقصد إلى بيت راشد باشا مدير المديرية والمأمور والحكمدار، وقال الباشا المدير: جاءتنا شكوى من فهمي عبد الحميد.
وقال راشد في نوع من التجاهل: خيرًا.
– لا تحاول معنا تجاهلًا؛ فقد حققنا الشكوى.
– ممَّ يشكو؟
– المهم أن كل رجاله رفضوا أن يشهدوا ضد أي أحد من رجالك. فأشجع من فيهم الذي قال: ناس لا نعرفهم. وأغلبهم قال: ليسوا من الناحية ولا من الجهة.
– ما زلت لا أعرف عمَّ تتحدث يا سعادة الباشا!
– والله وأنا الآخر لا أعرف عمَّ أتحدث! اطلب لنا القهوة يا سعادة الباشا.
– إنها عادةً تأتي دون أن أطلبها يا سعادة الباشا، شرَّفت، شرفت يا سعادة الحكمدار، وأنت يا سعادة البك المأمور.
– انتهزنا الفرصة لنهنئ سعادتك بالباشوية.
– أكرمك الله يا سعادة الحكمدار، إن شاء الله نهنئك بها قريبًا.
والتفت إلى الباشا المدير: سعادة الباشا يحب النارجيلة.
– وقد أحضرتها معي في السيارة. أتأمر بإحضارها؟
– لا يا سعادة الباشا، في هذه المرة ستشرب في نارجيلةٍ أخرى، ومعها دخان استقدمته لسعادتك خصيصًا من تركيا.
وصفق راشد باشا، وأصدر أوامره، وما لبثت أن جاءت شيشة ذات مبسم من المرجان، وقد أُحكم عليها دخانٌ واضح الفخامة، وما هي إلا أن جذب منها الباشا المدير جذبة؛ فإذا هو يقول: سعادة الباشا، ليس في مصر رجل مثلك يعرف كيف يُحيِّي الناس في أناقة وترفُّع.
ويضحك الجميع.
لقد كانت ملاحظة المدير غاية في الصدق. فمن يستطيع أن يقول إن مديرًا عظيمًا يُرشى بنرجيلة؟ إنما هي هدية من ناحية الثمن لا تساوي شيئًا ثم هو يقدمها إليه على الملأ، والرشاوى لا تُقدم على الملأ. إنما هي هدية تحمل في طواياها أن مقدمها يهتم بمن سيقدمها إليه، ويبحث عما يسره من الهدايا ويقدمها إليه.
ذكي سعادة الباشا الجديد، ذكي لا شك في ذلك.