الفصل التاسع
جاء المولود الأول لراشد باشا، وقد حلا له أن يسميه اسمًا عربيًّا عريقًا؛ فسمَّاه أسامة. وحاولت هانم أفندي أن تعترض لتخلد اسم أبيها نيازي، ولكنها وجدت من ابنها إصرارًا. وقد صاحب مجيء أسامة فرحٌ كبير في الأسرة، استبشرت خديجة، واستبشرت به هانم أفندي، ولم يجد راشد باشا بأسًا أن يستبشر به أيضًا، فقد تحدد يوم زواج شهيرة من ابن خالتها سامي حسنين. وكان اليوم محددًا بعد ميلاد أسامة بعشرة أيام، وقد تصادف أن تم تحديد الموعد والميلاد في يومٍ واحد.
وفي المساء، وبعد أن استطاعت خديجة أن تسمر مع المهنئين وهي في سرير ولادتها، قالت شهيرة: والله لا أتزوج حتى تستطيعي أنت حضور فرحي.
– هل جُننتِ يا شهيرة؟
– أكون مجنونة لو فعلتُ غير هذا.
وهكذا تجدد تحديد الموعد على يد الطبيب الذي أشرف على ميلاد أسامة، فالأطباء في ذلك الحين كانوا يشرفون على الولادة ولا يقومون بها؛ فإنه لا ينبغي للسيدات أن يلدن بمشهد من رجل حتى ولو كان طبيبًا. فكان الطبيب يحضر الولادة جالسًا مع الرجال، وكانت الداية التي يرشحها الطبيب هي التي تقوم بعملية الولادة نفسها، فإذا حدث خلل يستدعي تدخل الطبيب فإنه حينئذٍ يتولى بنفسه العمل مباشرةً. فقد كان ذلك الجيل لا يؤمن أن الوقاية خير من العلاج، ما دامت هذه الوقاية ستحطم عرفًا عريقًا كانكشاف الحريم على غير الزوج. وقد كان راشد جديرًا أن يحطم هذا العُرف لولا أن الطبيب طمأنه أن الولادة ستكون طبيعية، وأنه لا يوجد ما تخشى عواقبه. لم يكن راشد من هؤلاء الذين يحبون أن يحطموا التقاليد لمجرد تحطيمها، وإنما كان يحطمها إذا تعارضت مع منطق الأمور ومعقوليتها، وإن قضاءه شهر العسل في أوروبا والطريقة التي أظهر بها زوجته على باريس، لتدلُّ على أنه لا ينتمي لهذا الجيل الذي يسلكه فيه زمانه ومولده وأسرته.
ولعل من العجيب أن راشد كان بهذا التحضر العقلي في خاصة شأنه، وأن يحافظ في نفس الوقت على العُرف والتقاليد محافظةً صماء، إذا لم تكن تتعارض مع رغباته وأهوائه ومزاجه الخاص.
فصِلاته النسائية في مصر قبل الزواج مستورة، لا يعرف عنها أحد شيئًا، ولولا خطأ نسيانٍ لما أتيح لفهمي ما أتيح له من الحصول على هذه الورقة.
أما صِلاته النسائية في باريس فقد كانت صاخبة عربيدة، يستره في علانيتها أن أحدًا لا يعرفه هناك.
كان راشد شخصَين متناقضَين، وهما مع ذلك متوائمان في نفسه، متفاهمان لا يعارض واحد منهما الآخر، ولا يعترض أحدهما على ما يأتيه الثاني، كتوءمَين اختلفت أخلاق كلٍّ منهما عن الآخر، وتألفهما في الوقت نفسه الحب العميق والإعجاب. كان كلٌّ من الراشدَين في نفس راشد يعجب براشد الآخر، ويحبه، ويشيد في همسه به، ولولا خشية أن يُقال نرجسي يحب نفسه لأعلن عن حب الراشدَين أحدهما للآخر المكتوم في نفسه، التي تبدو أمام الناس راشدًا واحدًا. بل لقد كان هذا الحب المكتوم هو في ذاته صانع الشخصَين وسر حياتهما معًا.
كان راشد العربيد يعجب براشد الجامد الصلب المحافظ على التقاليد المعتني بملبسه عنايةً تقليدية، فلا ينسى أن يمسك العصا، وأن تكون الياقة مُنشَّاة، انقلب طرفاها إلى أعلى وتوسطها رباط عنق أنيق يتوسطه هو الآخر دبوسٌ ماسيٌّ عريق.
ويعجب راشد العربيد براشد في المحافل العامة، رافضًا اختلاط الرجال بالنساء، ورافضًا عمل المرأة، إلا أن تكون خادمًا بالمنازل، ورافضًا كل ما تريد الحضارة أن تدخل به إلى العصر.
ويعجب راشد العربيد براشد مقيم الصلاة في مواقيتها وذاهبًا إلى المسجد من يوم الجمعة، حتى إذا كان في القرية سبقته السجادة ليصلي عليها. وإذا عرف في القرية أن شابًّا من شبابها يغازل امرأة أو يحاول أن يعتدي عليها، استقدمه وانهال عليه ضربًا؛ حفاظًا على الشرف، وردعًا لكل من يحاول أن يحطم تقاليد الدين وعُرف الآباء والأجداد.
ويعجب راشد العربيد براشد فاتح بيته في القاهرة والريف كل ليالي رمضان، ومشاهير المشايخ يتبادلون قراءة القرآن، ويؤم البيتَين الناسُ يباركون هذا العُرف العظيم، الذي يصرُّ راشد أن يحافظ عليه.
أما راشد هذا التقليدي فهو يعجب براشد العربيد في كل ما يأتيه راشد العربيد، سواء كان ما أتاه تاريخًا لا يعود أو واقعًا يعيش فيه. وسواء كان ذلك في باريس مفضوحًا هناك محبًّا لإعلان العربدة حيث لا يعرف أحد مَن ذلك العربيد، أم في القاهرة يأتي من يأتيه من النساء في محافظة على التقاليد وفي عربدةٍ صامتة وقور لا تتفاضح ولا تعالن، وإنما تستمتع في داخلها فتحتوي المتعة جميعًا غير ذائعةٍ ولا بادية. ولكلٍّ من الصخب والصمت والعربدة والوقار متعته في نفس راشد.
ولكن راشد حين جاء أسامة أحسَّ أن راشدًا ثالثًا وفد على الراشدَين، وأحس أن هذا الثالث لن يجعل الأمور تجري فيما تعودت أن تجري فيه.
كان «راشد» براشديه يحسُّ أنه حر، وأن لديه من المال ما يكفيه لإرضاء نفسه، فيرضي بها الراشدَين جميعًا.
كان المال عنده وسيلة يحقق بها ما تصبو إليه نفسه، سواء كان هذا الذي تصبو إليه مرحًا ومتعة، أم كان تعاظمًا ووقارًا، فملبسه دائمًا أفخم ملبس، وأثاث منزله أعظم أثاث، وسيارته أحدث طراز.
والمال متعة لا مثيل لها ما دام عند صاحبه وسيلة لغاية.
والمال نقمة لا تماثلها نقمة إن أصبح هو في ذاته غاية لا وسيلة، وهدفًا لا طريقًا، وأملًا لا سبيلًا لأمل.
أي شيطانٍ ركبه فجعله يظن أنه ينبغي له أن يترك لابنه مالًا أكثر مما يملك.
لقد أحسَّ فجأة أنه لا بد له أن يضاعف الثروة التي ورثها؛ حتى يرضي ابنه هذا الذي ما زال في سنوات الرضاع.
أصحيح أحسَّ بهذا، أم تراه هيأ لنفسه أن يحس هذا الإحساس؟ هل يقلب الأبناء آباءهم رأسًا على عقب؟
أيمكن لهذا الطفل الذي يلوح طيفًا قادمًا على المستقبل لم تكتمل معالم وجهه أو جسمه، مشروع الإنسان هذا، يستطيع أن يقلب شخصًا في جبروت راشد، وفي اكتمال عناصره من شخص يريد المال ليستمتع به إلى شخص يريد المال للمال؟! أنا لا أصدق. أغلب الظن أنها رغبةٌ خفية في نفسه تبحث لها عن باب يبدو مشروعًا، لتنقلب حقيقة، ولتجعل من صاحبها الذي عاش سيدًا للمال عبدًا من عبيد المال. فالذي يريد المال ليعيش به يظل سيدًا لماله ولزمنه، فإذا أصبح المال في ذاته هو الغاية لذاته لا لما يحققه لصاحبه من عيشٍ رغيد؛ ينقلب المال حينئذٍ سيدًا شرهًا قاسيًا جبارًا متسلطًا بلا رحمة؟ ومن أين الرحمة وهو جماد بلا عاطفة؟ ومن أين وهو هو أكبر أعدائه العاطفة، وباسمه هذا المادي تسمَّت كل المذاهب البعيدة عن روحانية البشر وعن إنسانية الإنسان؟ إنه يمثل الجانب الصلب الحاقد البشع في البشرية جميعًا.
أكان راشد في دخيلة نفسه يريد الغنى للغنى، وليمتع نفسه بمتعه الظاهرة والخافية، حتى إذا جاء أسامة بدا ما كان يخفيه؟
من يستطيع أن يقول؟ علماء النفس هؤلاء أبعد الناس عن معرفة النفس، وشر ما يخادع النفس نفس وصاحبها؛ تلهو به، وتعميه عن حقائقه، وتجليه عن مواقفه من الحياة، ويظن بذاته غير حقيقة ذاته، ويمضي إلى مسالك من الحياة لا تطيقها نفسه ولم تهيئه لها. فهو، ما عاش، متخبط وإن ظن بنفسه العلم والثبات، فإن صادفه شيءٌ من النجاح ظنَّ أنه عرف الطريق، وهيهات هيهات أن يعرف. فإن كان ذلك الفيلسوف قد طلب إلى الإنسان أن يعرِّف نفسه في كلمتَين «اعرف نفسك» كأنهما بديهية من البديهيات، فقد كان يدري أو لعله لم يكن يدري أنه بهاتين الكلمتين قد طلب إلى الإنسان أصعب ما تطلبه الحياة من الإنسان.
مسكين أسامة؛ اتخذه أبوه سببًا، وما كان سببًا، وجعل من مجيئه مستدار حياة، وما يدري أسامة ولو درى لجثا على ركبتَيه لأبيه يرجوه أن يظل كما عاش حياته سيد المال لا عبد المال.
إذا أصبح المال هو الهدف انعدم الهدف، فالأرقام لا تعرف نهاية، وما دمت لا تعرف لهدفك نهاية فأنت ومن لا هدف له سواء، وويل لإنسان انعدم من حياته الهدف. بل لعل الذي يحياها مصادفةً يترك لأيامها أعنَّة قياده ومتجه أحلامه ومسار آماله؛ أعظمُ سعادة من إنسان جعل جمع المال هو الهدف وهو الحياة. فإن هذا الإنسان المسكين جهل أو أراد أن يجهل أن الهدف قد انعدم في حياته وأنه كان قد وضعه أمامه. فالمال المال والسعار السعار، والحياة إذن جحيم لا ينتهي إلى نعيم، ونيران لا برد لها ولا سلام، والإنسان يومئذٍ يجهل الرقم الذي يريد أن يقف عنده، فإن قدره وبلغه أغراه المال بما بعده، وتنهار حياة الإنسان تحت نعال المال، ويصبح السيد عبدًا وباختياره.