ثورة الصوفية على علم الكلام والفلسفة
ثار الصوفية على علم الكلام والفلسفة كما ثاروا على الفقه، ولم يُرضِهم فَهمُ نُظار المتكلمين والفلاسفة لعقائد الدين كما لم يُرضِِهم فهم الفقهاء لمعنى الشريعة والغاية منها، وقد امتدَّت ثورتهم إلى المنهج الذي اتبعه النظار، متكلِّمين كانوا أم فلاسفة، في وصولهم إلى قضاياهم التي يُعبرون بها عن معنى الألوهية ويصورون بها الصلة بين الله والعالم، والله والإنسان بوجه خاص.
أما «الكلام» فكما يقول الغزالي: قد يَرضى به من يُسلِّم للمتكلمين بمُقدماتهم، ولكنه لا غناء فيه لمن يطلب العلم اليقيني الذي لا يتسرَّب إليه الشك بوجه من الوجوه، وعماد علم الكلام الدليل العَقلي على صحة العقائد والدفاع عنها ضد المبتدعة والمُلحدين، ولكن الدليل العقلي يُمكن هدمه بدليل عقلي آخر مُعارض له؛ ولذلك نرى نظار المتكلِّمين لا يكادون يجمعون على مسألة واحدة من مسائل العقائد لاختلاف أساليب فهمُهم وأدلتهم.
وأما الفلسفة فأكثر اعتمادًا على المنهج العقلي من علم الكلام، وأشد تشبُّثًا به، وهي ترى الشيء ونقيضه، وتبرهن على كلٍّ منهما بأدلة متكافئة في القوة، وتستعمل العقل وأدواته ومقولاته في ميدان البحوث الإلهية الخارجة بطبيعتها عن طور العقل؛ لذلك لا يظفر الفيلسوف من فلسفته إلا بالحيرة وتبلبل الفكر إذا تصدى للنظر في مسائل الألوهية والنفس وصلة الله بالإنسان ونحو ذلك.
وقد تمثَّلت ثورة الصوفية ضد المنهج العقلي الذي انتهجه الفلاسفة والمتكلمون فيما قالوا به من منهج ذوقي في المعرفة، وهو موضوع سنفرد له فصلًا خاصًّا في هذا الباب.
ولكن الفلاسفة والمتكلمين الذين أخفقوا — في نظر الصوفية — في منهجهم فشلوا أيضًا فشلًا ذريعًا في تصورهم للألوهية وباعدوا بين الله وخلقه. فالله في نظر جمهور الفلاسفة والمعتزلة من المتكلمين، مبدأٌ يكاد يكون مجردًا عن الصفات إلا ما كان منها سلبيًّا، وقد بالغوا في تنزيهه إلى الحد الذي قضى على «الشخصية الإلهية» وتعطيل الصفات التي وصف الله بها نفسه في القرآن، كما بالغوا في التوحيد إلى الحد الذي أفسد التوحيد، وتصوَّر المتكلمون الصلة بين الله والإنسان صلة بين عابد ومعبود، في حين تصور الصوفية هذه الصلة صلة بين محب ومحبوب وقالوا إن العبادة فرع المحبة.
ولما كان «التوحيد» أساس العقائد كلها والمحور الذي يدور عليه جميع الأصول والفروع الدينية، ولما كانت «المحبة الإلهية» في نظر الصوفية أساس الحياة الدينية والطريق الوحيد الموصِّل إلى الحق، أردنا لهذين الموضوعين فصلين خاصين في هذا الباب أيضًا.