وحدة الوجود والتجربة الصوفية
الغاية القصوى من الحياة الصوفية هي الوصول إلى الله عن طريق الحال التي يطلق عليها الصوفية اسم الفناء، وقد أفردنا لهذه الحال جزءًا خاصًّا في الفصل الذي عقدناه عن «التوحيد». كما بينا كيف عالج قدماء الكتاب كأبي نصر السراج وأبي القاسم القشيري موضوع الفناء من حيث هو ظاهرة صوفية يجب أن تفسر على أساس أخلاقي أو نفساني أو أخلاقي ونفساني معًا، وأنكروا أن يكون لهذه الحال صلة بدعوى فلسفية كالحلول أو الاتحاد أو الصيرورة: بمعنى أن الصوفي يفنى عن الأخلاق الذميمة ويبقى بالأخلاق الحميدة، ويفنى عن صفاته من علم وقدرة وإرادة ويبقى بصفات الله الذي له وحده العلم والقدرة والإرادة، وأخيرًا يفنى عن نفسه وعن العالم حوله ويبقى بالله بمعنى أنه لا يشهد في الوجود إلا الله.
كانت قضية وحدة الوجود نقطة الابتداء في مذهب ابن عربي، وجاءت التجربة الصوفية لتحققها وتشهد بصحتها، وذلك لأنه لما حاول أن يتغلب بطريقة عقلية على التناقض بين الوحدة والكثرة، وجد بطريق الذوق الصوفي تأييدًا لرفع هذا التناقض، فأحال من لا يفهم كلامه على الذوق الصوفي كما هو شانه دائمًا في مثل هذه المواقف.
التجربة الصوفية إذن حال تتحقق فيها الوحدة الذاتية بين الحق والخلق من غير أن يحل أحدهما في الآخر أو يصير أحدهما الآخر بأي معنى من معاني الصيرورة إذ لا حلول ولا صيرورة هناك، وإنما هو تحقق لأمر موجود بالفعل هو الاتحاد أو الوحدة. فإذا تكلم ابن عربي عن الفناء والبقاء بالمعنى الصوفي فإنما يعني أن الفناء عن «الجهل» بالوحدة الذاتية للموجودات والبقاء ﺑ «العلم» بهذه الوحدة، وإذا تكلم عنهما بالمعنى الفلسفي فإنما يعني فناء الصور الوجودية وبقاء الذات الواحدة المتجلية في هذه الصور، وهذه هي حركة الخلق المستمر الذي يسميه ﺑ «الخلق الجديد»، وهو يرى أن الفناء والبقاء بهذا المعنى أكمل في تقرير الوحدة في حين أن الفناء الصوفي أكمل في الشهود.
والغريب أن يتفق ابن عربي وأفلوطين في النتائج الصوفية التي وصلا إليها على الرغم من اختلافهما في فلسفتيهما، وابن عربي في نظرنا أقرب الفيلسوفين إلى المنطق: لأن النفس الجزئية الإنسانية التي تشاهد «الواحد» في ذاتها لم تكن في أية لحظة من اللحظات شيئًا منفصلًا عنه في مذهب ابن عربي، أما على مذهب أفلوطين فهي فيض بعيد الصلة بالواحد، ولكنها تتصل به وتتحقق بوحدتها معه في حالة الوجد الصوفي.