المحبة الإلهية في التصوف البحت
ظهر هذا النوع من المحبة الإلهية في جميع عصور التصوف وتكلم فيه كل صوفي صفت له الحال — حد قول الغزالي — وكان له نصيب من حياة الكشف والإشراق، ولكن من المستحيل علينا أن نناقش هنا أقوالهم جميعًا أو أقوال أكثرهم فهي مما لا يدخل تحت حصر نثرًا ونظمًا؛ ولذلك سنقصر كلامنا على أقوال عدد قليل من الصوفية ممن كانت لهم نظريات خاصة في المحبة الإلهية لها أثرها في الأوساط الصوفية من بعدهم، وقد اخترنا لهذا الغرض أربعة من رجال القرن الثالث، وهو العصر الذهبي للتصوف الإسلامي البحت، هم: الحارث المحاسبي (المُتوفَّى سنة ٢٤٣)، وأبو القاسم الجنيد (المُتوفَّى سنة ٢٩٨)، وذو النون المصري (المُتوفَّى سنة ٢٤٥)، وأبو يزيد البسطامي (المُتوفَّى سنة ٢٦٠)؛ وواحد من متصوفة القرن السابع هو سلطان العاشقين الصوفي الشاعر الكبير عمر بن الفارض (المُتوفَّى سنة ٦٣٢).
(١) الحارث المحاسبي
في هذا الشطر الأخير من عبارة المحاسبي مسحة ملامتية واضحة؛ لأن من أهم أصول الملامتية عدم الاطمئنان إلى الأعمال مهما عظمت وبلغت من الصلاح؛ لأن الشعور بالأمان وحسن الظن بالأعمال يولد في النفس العجب ويدفعها إلى الدعوى، ومن أمن على عمله واطمأن إليه صدئت نفسه وقام العمل حجابًا بينه وبين ربه، فلا يشعر عند إظهاره لعمله ومباهاته به بوحشة السلب؛ أي وحشة حرمان الله له من حبه وكرامته. فإذا أمعن في عجبه ودعواه، انقلب ذلك السلب المؤقت سلبًا دائمًا، وهو ما يشير إليه المحاسبي بكلمة «الافتقاد».
وربما كان أبرز شيء في عبارة المحاسبي إشارته إلى «الفوائد» الروحية التي يلقيها الله في قلوب محبيه فتنطق بها ألسنتهم، ويكون النطق بالمحبة على قدر نور الفائدة، وليس لنا أن نتكلم عن ماهية تلك الفوائد وكيفياتها فهي من صميم الحياة الصوفية التي لا يعلمها إلا الذين يعالجونها، ولكن أقرب ما نستطيع أن نصفها به أنها تلك المعاني الذوقية التي يشعر بها الصوفي في حال قربه من الله كالشعور بالأمن والطمأنينة والغبطة والحرية من أسْرِ الأنانية ونحو ذلك.
(٢) أبو القاسم الجنيد
ولا يمكن فهم نظرية الجنيد في «المحبة الإلهية» إلا في ضوء نظريات أخرى له هي أعم وأشمل: أعني نظرياته في التوحيد والفناء وحقيقة الروح الإنسانية، وقد شرحنا نظريته في التوحيد في مكان آخر من هذا البحث، ولكنا مع ذلك لا نرى بأسًا من ذكر بعض معالم هذه النظرية مرة أخرى لصلتها الوثيقة بموضوعنا هنا.
وقد أنزل الله هذه الأرواح من عليائها إلى عالمنا هذا وألبسها أبدانها قصدًا للبلاء والاختبار، فشغل بعضها بأعراض الدنيا ونسي أصله وموطنه، وحن بعضها إلى العودة إلى ذلك الأصل وجعل غايته الوفاء بذلك الميثاق الذي أخذه الله عليه والرجوع إلى تلك الحال التي كان عليها قبل أن يوجد في هذا العالم. فإذا تم لهذه الأرواح ما أرادت، وحدت الله التوحيد الكامل الخالص — أو ما يقاربه — وفنيت عن وجودها الزمني وبقيت بالله وحده، وفي هذا الفناء في الحق يتحقق معنى الحب له؛ إذ الفناء عن الذات المتعينة هو عين المحبة لمن تبقى الذات حية فيه ولا تشهد سواه. فالفناء في الحق قد تحقق أزلًا — في نظر الجنيد — إذ لم يكن في الأزل سوى الله، والفناء هو مطلوب الصوفية الآن.
وعبارة الجنيد صريحة في أن أرواح البشر قديمة أزلية قبل هبوطها إلى عالم الأجساد، حادثة زمنية بعد هبوطها، وأن وجودها الأزلي كان بوجود الله، وأن فناءها الأزلي معناه انعدام تعينها وتشخصها. أما وجودها الزمني فبإيجاد الله إياها على نحو آخر، والفرق بين الوجودين هو الفرق بين مقامي الجمع والتفرقة في العرف الصوفي.
إن جوهر التصوف عند الجنيد هو الفناء عن الذات والبقاء بالله، أو هو الوصول إلى حال يكون فيها الحق سمع العبد وبصره على حد تعبير الحديث القدسي، وفي هذه الحال يصبح الوجود الذاتي المتعين وجودًا أتم وأكمل عن طريق البقاء بالله، وفي الله، ولكنها حال لا تدوم، فإن العبد يعود بعدها إلى حال من الصحو يشعر فيها باثنينية المحب والمحبوب، فيستأنف الحنين إلى محبوبه من جديد ويشتاق إلى الاتصال به، وهكذا يتردد الصوفي بين حالتي الفناء والبقاء، أو حالتي الجمع والفرق: الاتصال بالمحبوب والانفصال عنه، أو حالتي الغيبة والحضور، وفي الحالة الأولى يحس الصوفي بسعادة ليس فوقها سعادة إذ يحيا بكليته في محبوبه، وفي الثانية يشعر بالغصة والحسرة لتوقف المشاهدة.
(٣) ذو النون المصري
أما أبو الفيض ذو النون المصري: فما يقال عن أقواله في المسائل الصوفية بوجه عام، يقال عن أقواله في المحبة الإلهية بوجه خاص، وهو أنها موضع شك الباحثين في تفاصيلها على الأقل؛ وذلك لأن شخصيته في العالم الإسلامي شخصية شبه أسطورية حيكت حولها القصص المتصلة بالكرامات وخوارق العادات، ونسبت إليها الأقوال التي يتعذر في كثير من الأحيان التأكد من أصالتها.
ولكن الذي لا شك فيه هو أن ثقافة ذي النون تتصل اتصالًا وثيقًا بالتراث المصري اليوناني الذي كان شائعًا في مصر إلى عهده، يدل على ذلك ما أثر عنه من أقوال في المعرفة الصوفية وفي المقامات والأحوال والمحبة الإلهية، وهو في كل هذا واقع تحت تأثير الفلسفة الأفلاطونية الحديثة المتأخرة والفلسفة الهرمسية، وبهذا يختلف عن الحارث المحاسبي والجنيد من مدرسة بغداد، وعن أبي يزيد البسطامي والترمذي من مدارس شرقي إيران.
وأسلوب ذي النون في المحبة الإلهية أسلوب قوي متأجج العاطفة، لا هو بالأسلوب الهادئ المنبعث رأسًا من تعاليم الدين كأسلوب المحاسبي، ولا هو بالأسلوب الميتافيزيقي الغامض المتغلغل في أعماق التحليل الصوفي كأسلوب الجنيد، بل هو أسلوب واضح رقيق جميل تغلب عليه الشاعرية وتتدفق فيه العاطفة الدينية؛ ولهذا كانت أقواله في المحبة الإلهية أبلغ أثرًا في أوساط الصوفية من أقوال غيره.
وقد يقال إن في بعض ما أثر عنه من أقوال في المحبة الإلهية نفحة من نفحات وحدة الوجود؛ لأنه لا يرى في الوجود شيئًا إلا رأى الله فيه، ولكن القول بوجود نظرية في وحدة الوجود في هذا العصر المبكر من عصور التصوف مبالغة لا مبرر لها، والأَولى أن توصف أقوال أمثال ذي النون المصري والجنيد، بل وأبي يزيد البسطامي، بأنها نفثات قلوب فاضت بالمحبة الإلهية واستبدت بها وحدة الشهود لا وحدة الوجود كما أشرنا إلى ذلك مرارًا.
إلهي ما أصغي إلى صوت حيوان ولا حفيف شجر ولا خرير ماء ولا ترنم طائر ولا دوي ريح ولا قعقعة رعد، إلا وجدتها شاهدة بوحدانيتك، دالة على أنه ليس كمثلك شيء وأنك غالب لا تغلب، وعالم لا تجهل، وحليم لا تسفه، وعدل لا تجور. إلهي فإني أعترف لك بما دل عليه صنعك، وشهد له فعلك. فهب لي اللهم طلب رضاك برضاي، ومسرة الوالد لولده بذكرك لمحبتي لك، ووقار الطمأنينة وتطلُّب العزيمة إليك؛ لأن من لم يشبعه الولوع باسمك، ولم يروه من ظمئه ورود غدران ذكرك، ولم ينسه جميعُ العلوم رضاه عنك … ولم يقطعه عن الأنس بغيرك مكانه منك: كانت حياته ميتة، وميتته حسرة، وسروره غصة، وأنسه وحشة.
فها هو ذو النون يرى في كل مظهر من مظاهر الطبيعة آيةً من آيات الله، وشاهدًا دالًّا على وحدانيته وعظمته ومخالفته للحوادث؛ لأنه لا يرى شيئًا إلا ورأى الله عنده، وهذه وحدة شهود يجربها ذو النون حتى في حال صحوه، ولكن هذه المظاهر الجمالية والجلالية مع ذلك حجب تحول بينه وبين محبوبه؛ لذلك يدعو ربه أن يهتك هذه الحجب ويرفع هذه الحواجز وييسر الوعر من الطريق ويفتح له باب الشهود بحيث ينغمس قلبه في ضياء «المعرفة» ويتذوق طعم المحبة، وهنا يقرن ذو النون المحبة الإلهية بالمعرفة الذوقية، كما يقرنها الجنيد وأبو يزيد البسطامي بالفناء، وكما يقرنها المحاسبي بالإيمان. لكل واحد من هؤلاء مشربه وطريقه في الوصول إلى الحق، ولكن عتبة الوصول هي المحبة التي يلتقون عندها جميعًا.
ويروى لذي النون شعرٌ في الحب الإلهي أغلب الظن أن كثيرًا منه وضع على لسانه، أو أنه كان ينشده متمثلًا به فاقترن باسمه، وكله ينطق بالهيام بالله المحبوب الذي لا يروي ظمأ محبه، والمقصود الذي افتتنت به قلوب خلصائه، والغني الذي لا يبارى في غناه، والملاذ الذي يتضرع إليه الشاكون ويبثونه أسرارهم. من ذلك قوله:
لسنا هنا بإزاء معانٍ صوفية خفية كتلك التي نجدها في رسائل الجنيد، بل بإزاء شعور غامر يفيض بحب الله ويدرك صاحبه أن محبته باقية ببقاء الروح وأنها لا علاقة لها بهذا البدن الفاني. محبة تتجدد مع الزمن، كلما قضى منها وطر تجدد وطر، ويعترف المحب بالغنى المطلق لحبيبه وبالفقر المطلق لنفسه، ويبثه شكواه وما يتحمل قلبه من أجله من أمور لا تبدو لأحد غيره ولا يطلع على أسرارها أقرب الناس إليه، ثم يبتهل إلى المحبوب الذي هو دليل الحائرين أن ينير له الطريق وييسره له ويشمله بعفو منه يضمن له الحياة؛ لأن حياته في قربه وموته في بعده.
وكما تكلم ذو النون في المحبة الإلهية تكلم كذلك في أخص لوازمها وهو الأنس بالله، فإن من أحب الله على الحقيقة استأنس به واستوحش من كل ما عداه، وانقطع عن كل شيء سواه. يقول ذو النون:
(٤) أبو يزيد البسطامي
إذا كان المحاسبي والجنيد وذو النون المصري يمثلون النزعة الإسلامية المعتدلة في أقوالهم في الحب الإلهي، فإن أبا يزيد البسطامي يمثل نزعة غالية لا نستطيع أن نصفها بأنها «سنية» خالصة. فقد كان هذا الصوفي الوارثَ الحقيقي للعقلية الإيرانية القديمة؛ ولذا تجاوز تصوفه الحدود السنية التي ذكرناها، وكاد يقول بوحدة الوجود التي لا يمكن التوفيق بينها وبين الفكرة الإسلامية في توحيد الله. نعم لم تكن له نظرية خاصة في وحدة الوجود، ولكنه كان من غير شك من أوائل الذين مهدوا لظهور هذه النظرية في العالم الإسلامي فيما بعد، ولذا نعتبره هنا — كما نعتبر الحسين بن منصور الحلاج — ممثلًا لمرحلة انتقال خطيرة بين التصوف غير الفلسفي والتصوف الفلسفي القائم على القول بوحدة الوجود.
ومعنى هذا أن أبا يزيد كان يدرك في حال صحوه أنه لا مفر له من نفسه، وأن له كيانًا ووجودًا لا يستطيع التخلص منهما، وأن الطريق السوي لمحبة الله هو متابعة رسول الله في الأمر والنهي والاقتداء بسيرته والتزام الشرع فيما قرره من وجود إله ومألوه وخالق ومخلوق، ولكن لسان الصحو غير لسان المحو، ومنطق الحب غير منطق العقل!
(٥) عمر بن الفارض
لا تخرج نظريات الصوفية في الحب الإلهي في القرنين الثالث والرابع الهجريين عن النماذج التي ذكرناها؛ ولذلك اكتفينا بها ليسترشد بها القارئ في فهم نظريات أخرى لم نعرض لذكرها وهي كثيرة.
أما النموذج الجديد لهذه النظريات فقد اخترنا له الصوفي الشاعر أبا حفص عمر بن الفارض المُتوفَّى بالقاهرة سنة ٦٣٢ﻫ.
وعمر بن الفارض أحد أقطاب العاشقين الإلهيين وأعظم شاعر صوفي في اللغة العربية على الإطلاق؛ ولهذا استحق أن نفرده بفقرة خاصة في هذا الفصل لنوضح مكانته من بين الذين وقع عليهم اختيارنا لتمثيل النظريات الصوفية المعتدلة في طبيعة الحب الإلهي.
امتاز ابن الفارض بأنه كان شاعرًا فوق كونه صوفيًّا، أو بالأحرى بأنه كان صوفيًّا فوق كونه شاعرًا، وكان لاجتماع هذين المزاجين فيه، مزاجي التصوف والشعر، أثر في تكوين شخصية عجيبة قد لا نجد لها نظيرًا إلا في متصوفة شعراء الفرس من أمثال عبد الرحمن الجامي وجلال الدين الرومي، وإذا كان المزاج الشعري وحده يولِّد في صاحبه إرهاف الحس ولطافة الوجد والذوق، ويدفع به إلى تعشق الجمال أيًّا كانت صورته وأشكاله وأينما كان موضعه، فما بالك برجل التقى فيه هذا المزاج الشعري بالمزاج الصوفي الذي يتعلق بالجمال المطلق، يتعشقه ويصبو دائمًا إلى الاتصال به واقتباس أسرار الحياة والحب منه! تحول هذان المزاجان في نفس ابن الفارض إلى مزاج واحد فاض عنه ذلك السيل الدافق من قصائده الصوفية الخالدة التي يظهر فيها — بفضل مزاجه الشعري — دقة الوصف وجودة تصوير الأحاسيس والمعاني والإبداع في الخيال، كما يتجلى فيها — بفضل مزاجه الصوفي — تجاربه الروحية العميقة وما يضطرب في نفسه من أحوال ومواجد وأذواق؛ ولذلك قد لا نعدو الحق إذا وصفنا ديوان ابن الفارض بأنه سجلٌّ نقرأ فيه حياته الروحية من حيث اتصالها بالله.
ومن المبالغة، بل من الإسراف الذي لا مبرر له أن نضع ابن الفارض في عداد الفلاسفة، أو نحاول أن نستخلص من أشعاره مذهبًا فلسفيًّا متسقًا، أو نعده من أصحاب وحدة الوجود كما فعل تقي الدين بن تيمية من القدماء والمستشرق دي ماثيو من المحدثين، أو أن نقرنه بمحيي الدين بن عربي الذي تنطق كل فقرة من كتابه «فصوص الحكم» بهذه النظرية.
قد نجد أو لا نجد لهذه الظاهرة الغريبة تفسيرًا مقبولًا يؤيده علم النفس، ولكنها على أية حال لم تكن ظاهرة من ظواهر العقل الواعي الذي نعرفه، فلنسم ما انكشف فيها لقلب ابن الفارض بأي اسم نشاء، أما العرف الصوفي فيسميه علمًا لدنيًّا ومعرفةً ذوقيةً وإلهامًا وإشراقًا وحبًّا وما أشبه هذه من المصطلحات.
ولم يقف ابن الفارض عند حد التغني بأناشيد الحب الإلهي التي يفيض بها ديوانه، بل وصف كذلك لازمًا من لوازم ذلك الحب هو النشوة بالخمر الإلهية التي سكرت بها أرواح العاشقين من قبل أن تخلق الخمر، كما وصف الجمال في شتى صوره، ورمز لمحبوبه بما اشتهر من أسماء المعشوقات اللاتي تردد ذكر أسمائهن في الغزل العربي القديم، بل إنه أغرق في هذا إلى حد أن القارئ لديوانه قد يخطئ الحكم فيه — كما أخطأ بعض المستشرقين — فيفسر قصائده تفسيرًا ماديًّا، ومع ذلك فليس من اليسير أن نخضع قصائد ابن الفارض لمقياس نقدي واحد، أو أن ندعي أنها كلها بمثابة واحدة في دلالتها على معاني الحب الإلهي، ولو على سبيل الرمز والإيماء، فإن كثيرًا منها قد يصعب صرفه عن معاني الغزل الإنساني العادي إلا بضرب من الجهد في التأويل، ولكن الذي لا شك فيه هو أن قصيدته «التائية الكبرى» التي تبلغ سبعمائة وواحدًا وستين بيتًا، وقصيدته «الخمرية»، تنفردان دون سائر الديوان بأنهما شعر صوفي خالص يسمو على كل مادية، وأنهما تكفيان في تصوير الحب الإلهي عن ابن الفارض في جميع نواحيه.
ويتفق ابن الفارض مع أمثال الجنيد وأبي يزيد البسطامي في النظر إلى المحبة الإلهية باعتبارها فناء المحب عن نفسه وبقاءه بالله وحده، ولا يختلف عنهم إلا في أساليب التعبير والتصوير والتحليل، وكثيرًا ما يتخذ أسلوبه صورة الحوار بين نفسه والذات الإلهية، يتحدث إليها ويناجيها ويبثها لوعته وأشواقه وحنينه وغير ذلك من مظاهر الحب، ويسألها ويجيب بلسانها عن مدى صدقه في حبه ومدى قبولها إياه إلى أن ينتهي الأمر بالمحب إلى مقام الوصال والاتصال حيث تنمحي الاثنينية ويخرس اللسان ويسود الصمت.
وإذا كان لكل صوفي معراج روحي إلى الله، فلابن الفارض معراجه الذي نجده واضحًا في تائيته الكبرى حيث يحدثنا عن مراحل تطوره الروحي وما عاناه وما شاهده في كل مرحلة، وما أحس به من إخفاق أو نجاح، وحيث يحدثنا عن الفناء ومعانيه، والحب وغايته، ويصور من يدعي محبة الله وقلبه مشغول بغيره ومن يحب الله على الحقيقة ويخلص في حبه.
يقول على لسان الذات الإلهية، وهو لا يزال بعدُ في مرحلة ادعاء الحب؛ لأنه لا يزال شاعرًا بنفسه:
انظر إلى قوله: «ولم تفن ما لم تُجتلى فيك صورتي»، إن الفناء الحقيقي عنده ذهاب كل شعور بالذات بحيث لا يشهد الفاني شيئًا سوى الصورة الإلهية متجلية في نفسه وفي كل شيء حوله، ويردُّ ابن الفارض بلسان المحب الذي لا يهاب الفناء في سبيل المحبوب فيقول:
ثم تأتي لحظة الفناء وتعطل إرادة المحب ويستولي عليه سلطان الشهود فلا يشعر إلا بوحدة شاملة لا فرق فيها بين محب ومحبوب ولا عابد ولا معبود، فيقول:
هذان البيتان أجرأ شيء قاله ابن الفارض في «التائية»، وعليهما وعلى أمثالهما استند الذين يدعون أنه كان من أصحاب وحدة الوجود، ولكن ابن الفارض هنا يتكلم بلسان الفناء لا بلسان الادعاء بأن المصلي هو المصلى له، أو أن الحق هو الخلق والخلق هو الحق وأمثال ذلك من أقوال ابن عربي.
وهكذا نجد تصويرًا لمراحل السلوك الصوفي في الأبيات القليلة التي اقتبسناها. فابن الفارض في أول أمره في حال الصحو الأول: يدرك ذاته ويدرك محبوبه؛ أي إنه في مقام الاثنينية، وأدراك الاثنينية منافٍ للحب الصوفي الخالص، وهو في المرحلة الثانية في حال سكر وغيبة عن ذاته، وشهود للحق وحده، وهي حال ينمحي فيها إدراك الاثنينية، ويخرج فيها العبد من ضيق حدود التناهي إلى سعة فناء اللامتناهي كما صورها أبو يزيد، وهو في المرحلة الثالثة في حال صحو ثان، يشعر فيها بذاته ولكنه شعور يختلف عن شعوره بذاته في الصحو الأول: لأنه شعور بالذات المتقومة بالله القريبة من الله.