النظريات الفلسفية في المحبة الإلهية
ظهرت في التصوف الإسلامي اتجاهات أخرى في المحبة الإلهية تصورها تصويرًا يختلف قليلًا أو كثيرًا عن تصوير الاتجاهات التي أسلفنا ذكرها، وتتصبغ بصبغة فلسفية تبعد بها عن الأفكار الدينية التي دان بها السلف وأهل السنة ومن سار على نهجهم، وأظهر هذه الاتجاهات الاتجاه الحلولي الذي يمثله الحسين بن منصور الحلاج، واتجاه أصحاب وحدة الوجود الذي يمثله محيي الدين بن عربي، وسأقصر كلامي هنا على هذين الصوفيين الكبيرين باعتبارهما مؤسسين لمدرستين من مدارس هذا الضرب من التصوف.
(١) الحسين بن منصور الحلاج: (قتل سنة ٣٠٩ﻫ)
لم يكن الحلاج صوفيًّا عالج المواجد والأذواق وفني في حب الله فحسب، بل كان إلى ذلك صاحب نظرية استولت على قلبه وملكت عليه زمام نفسه حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت صلبه وقتله. فلقد لقي الحلاج حتفه، وعلى لسانه الأقوال الجريئة التي اتهم من أجلها بالكفر وحوكم محاكمة طويلة لا أظن أن تاريخ الإسلام شهد مثيلًا لها:
فلسف الحلاج العبارة المشهورة التي تقول «خلق الله آدم على صورته» ففسرها في ضوء نظرية حلولية هي أشبه ما تكون بنظرية النصارى في طبيعة المسيح، ولكنه تجاوز حدود النظرية المسيحية إلى نظرية في طبيعة الإنسان بوجه عام. فالإنسان في نظره صورة الله، بإرجاع الضمير في قوله «على صورته» إلى الله لا إلى الإنسان. صورة الله التي أخرجها من نفسه في الأزل، وبواسطتها أعلن عن مكنون سره وجماله، وهذه الصورة في مظهرها الخارجي مؤلفة من طبيعتين: «الناسوت» وهو الناحية البشرية، و«اللاهوت» وهو الناحية الإلهية، وقد مزجت الطبيعتان مزجًا تامًّا بحيث نستطيع أن نقول إن هذه تلك وتلك هذه. أما عن المعنى الأول فيقول الحلاج:
وأما عن المعنى الثاني فيقول:
ويقول:
ويقول:
ومن هذا نتبين إجماع المسلمين على إنكار أقوال الحلاج ودعاويه مما انتهى به إلى المحاكمة والإدانة بالكفر، ثم القتل، ولقد لقي أشنع قتلة لقيها مسلم من أجل عقيدته.
(٢) محيي الدين بن عربي: (المُتوفَّى سنة ٦٣٨)
أما ابن عربي فنظريته في الحب الإلهي متفرعة عن مذهبه الفلسفي الصوفي العام الذي هو مذهب وحدة الوجود. بل هي لازم من لوازم هذا المذهب ونتيجة من نتائجه، والقضية الكبرى التي يخضع لها ابن عربي كل فلسفته، والتي يؤيدها بشتى أساليب التأييد، هي أن الوجود في حقيقته وجوهره شيء واحد، متعدد متكثر في النظر والاعتبار، عندما يقع عليه الحس الذي لا يدرك إلا الجزئيات المتعينة المتشخصة، أو يتناوله العقل الإنساني القاصر عن إدراك وحدته الشاملة، فإن العقل خاضع في تفكيره لمقولاته، ومقولاته مستمدة من العالم الخارجي المتعدد المتكثر، الواقع في الزمان والمكان. أما الحقيقة الوجودية الكلية فخارجة عن كل هذا.
وإذا كان لنا أن نتكلم بلسان الظاهر والعقل، ونتحدث عن كثرة في الوجود، فلنتذكر أن هذه الكثرة ليست إلا وجهًا من وجهي الحقيقة، أما الوجه الآخر فهو الوحدة، والوجه الأول هو ما يسميه ابن عربي «خلقًا». أما الثاني، وهو باطن الوجود وجوهره، فيسميه «حقًّا»، والحق والخلق اسمان لمسمى واحد منظور إليه باعتبارين مختلفين. بعبارة أخرى، ليست الموجودات الخارجية إلا صورًا أو تعينات أو مجالي للوجود الواحد الذي هو وجود الحق.
وليست هذه الصور إلا مسارح تتجلى فيها صفات الحق وأسماؤه، بل هي عين تلك الصفات والأسماء. فكل صفة وجودية ندركها في الأشياء إنما هي مجلى خاص من مجالي صفة إلهية مطلقة، أو اسم إلهي مطلق. كالجمال مثلًا: فإن كل جميل مجلى ومظهر للجمال المطلق، الذي هو الجمال الإلهي، وكالحب، فإن كل محبوب مجلى أو مظهر للمحبوب على الإطلاق وهو الحق، وهكذا الأمر في الصفات الإلهية الأخرى كالحياة والسمع والبصر والإرادة.
ولا شك أن ابن عربي قد وجد في تلك الصورة الإنسانية الحسناء مجلى من مجالي الجمال الإلهي المطلق الذي تعشَّقه وقدسه، وألفى لها مكانًا من قلبه، لا من حيث هي امرأة يعشق جمالها الحسي الفاني، ولا من حيث هي موضع لشهوة أو هوى، بل من حيث هي رمز لذلك الجمال الشامل المتجلى فيها في صورة كاملة، فإذا بثها حبَّه وأشواقه، إنما يتجه بحبه وأشواقه إلى الذات الإلهية التي هي صورة من صورها، وإذا وصفها بما يصف به الغزِلون من الشعراء محبوباتهم، فإنما يصف ذلك الرمز مكَنِّيًا به عن الحقيقة الكلية التي وراءه.
ولذا كانت لغة «ترجمان الأشواق» لغة رمزية اصطلاحية يجب تأويلها وصرفها عن ظاهرها، وهذا ما فعله ابن عربي عندما أنكر عليه بعض فقهاء حلب ما ذكره في «الترجمان» عن غادة مكة، فكتب شرحًا صوفيًّا على الديوان سماه «ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق».
لم تكن تلك الحسناء إذن سوى واحدة من صور الجمال اللانهائي التي وسعها قلب ابن عربي وأحبها، لا من حيث ذاتها، بل من حيث هي رموز ومجال للذات الإلهية الواحدة المحبوبة على الإطلاق والمعبودة على الإطلاق. لأن المحبوب عنده واحد مهما تعددت مجاليه، والجميل واحد مهما تعددت صوره، والمعبود واحد مهما تعددت أشكاله، وفي هذا المعنى يقول:
قال ابن عربي ما قال في الحب الإلهي وعينه مستقرة على الصورة المحسوسة، ولكن قلبه مشغول بصاحب الصورة، تغنى بالجمال المحسوس وقلبه متعلق بالجمال المعقول، وماذا يضير الصوفي لو انتقل من عالم الأرض إلى عالم السماء، واتخذ من المحسوس سلمًا يصعد به إلى المعقول؟
أحس ابن عربي بأن أناسًا سوف لا يفهون كلامه وأنهم سوف يخلطون بين المحسوس والمعقول، فنبه قراء غزلياته إلى حقيقة قصده بقوله:
والحب عند ابن عربي هو أصل العبادة وسرها وجوهرها؛ إذ لا معبود إلا وهو محبوب، ولولا الحب ما عبد شيء من إنسان أو شجر أو كوكب أو صنم؛ لأن الشيء لا يعبد إلا بعد أن يخلع عليه العابد لباس التقديس، وهو لا يقدسه إلا بعد أن يحبه ويتفانى في حبه. فالمعبود والمحبوب إذن عين واحدة وإن اختلفت عليها الأوصاف، فإنك تسميها معبودًا من وجه ومحبوبًا من وجه آخر والمسمى واحد في الوجهين، والنتيجة التي يخلص إليها ابن عربي هي أن المحبوب على الإطلاق هو عينه المعبود على الإطلاق؛ لأنه هو الظاهر بصورة كل ما يحب وما يعبد، وفي هذا يقول:
يقسم بقدسية الهوى (الحق) أن الهوى الساري في جميع مراتب الوجود، المعبود في جميع صوره، هو علة الحب في جزئياته وأشكاله، وأنه لولا وجوده وتجليه في صور المعبودات وفي قلوب العابدين ما عبد معبود ولا وجد عابد، ويذكر الشيخ في «فتوحاته» أنه شاهد «الهوى» في بعض مكاشفاته ظاهرًا بالألوهية جالسًا على عرشه «وجميع عبَّاده حافون من حوله.» ويقول: «ما شاهدت معبودًا في الصور الكونية أعظم منه.»
إلا أنه يحذر من أن يقصر العابد معبوده على صورة بعينها فإن هذا هو الشرك؛ ولهذا كان الصوفي الصادق هو من يرى الله في كل صورة معبودة، وينظر إلى معبوده الخاص من حيث أنه واحد من صور المعبود اللامتناهي الذي يتجلى في قلب العابد فيما لا يتناهى من المجالي.
وقد أشرنا من قبل إلى أبياته التي يقول فيها:
وله في هذا المعنى أيضًا:
وقوله على لسان بعض الصوفية:
وهكذا يتخذ ابن عربي من الحب الإلهي أساسًا لدين عالمي عام يتخطى الحدود التي وضعتها الفرق في الدين الواحد، وتلك التي فرقت بين الأديان المختلفة وباعدت بينها.
وأخيرًا يعتبر ابن عربي المحبة الإلهية سبب الخلق والعامل الأول في وجوده، وهو يعني بالخلق ظهور الحق في أعيان الموجودات، لا إيجاد الموجودات من عدم. ذلك أن الحق في أزليته أحب أن يُعرف، ولا سبيل إلى معرفته إلا بإظهار كمالاته في صفحة الوجود؛ من أجل ذلك خلق الله الخلق؛ أي تجلى في صور الخلق، وكان حنينه إلى الظهور على مسرح الوجود الخارجي علة خلقه للعالم، وإلى هذا يشير الحديث القدسي الذي يقول الله فيه: «كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه (وفي رواية فبي) عرفوني.»
ولكن الحق الذي حن إلى الظهور في صور أعيان الممكنات، يحن دائمًا إلى عودة تلك الصور إليه، وهذا هو عين حنين الخلق إلى الحق؛ لأن المشتاق عين المشتاق إليه في الحقيقة وإن كان غيره في الظاهر.