ثورة التصوف في مجال المعرفة
يقول الغزالي في كتاب المنقذ من الضلال بعد أن ناقش المدركات الحسية والعقلية وظهر له أن حاكم الحس يؤمن بالمحسوسات إلى أن يكذبها حاكم العقل، وأن في الإمكان أن يكون في الإنسان حاكم يكذب حاكم العقل فيما يقول به: «فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحسٍّ أو عقلٍ هو حقٌّ بالإضافة إلى حالتك؟ ألا يمكن أن تطرأ عليك حالة أخرى تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نومًا بالإضافة إليها، فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها؟ ولعل تلك الحالة ما تدعيه الصوفية أنها حالتهم إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي لهم أنهم إذا غاصوا في أنفسهم وغابوا عن أحوالهم وحواسهم، رأوا أحوالًا لا توافق هذه المعقولات.» نعم، لعل في الإنسان قوة غير قوتي الحس والعقل، وفوق قوتي الحس والعقل قوة ترى الحقيقة في صورة لا هي محسوسة ولا هي معقولة، بل «متذوقة»، ولعل هذه القوة هي ما يدعيه الصوفية، لا صوفية المسلمين وحدهم بل صوفية العالم أجمع.
ومن نكد الدنيا أن يظهر بين المفكرين في كل العصور قوم يقصرون المعرفة على مجال الحس، ويدعون أن ما لا يناله الحس ففرض وجوده محال، كأن الإنسان لا يعلم على الحقيقة إلا الأمور المادية الخاضعة لحواسه وتجاربه ومقاييسه وأدواته الأخرى. سمى هؤلاء القوم أنفسهم بالحسيين أو الماديين أو الواقعيين أيام كان مذهبهم بسيطًا ساذجًا، والآن وقد تعقد تفكيرهم بتعقد الأساليب العلمية التي افتتنوا بها افتتانًا، يطلقون على مذهبهم اسم «الوضعية المنطقية» و«الفلسفة الوضعية» وغير ذلك من الأسماء التي تقع من نفوس بعضهم موقع السحر، ولا يعترف أصحاب «الوضعية المنطقية» بأي نوع من أنواع المعرفة سوى «المعرفة العلمية»؛ ولذلك لا يؤمنون بفلسفة ما بعد الطبيعة والأخلاق وفلسفة الأديان يتبرءون منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وهؤلاء قوم أحق بأن نشفق عليهم من أن نلومهم أو نناقشهم الحساب، وأقل ما يقال فيهم أنهم حجَّروا رحمة الله الواسعة، فقصروا المعرفة الإنسانية على نوع واحد من أنواعها، وهو لسوء الحظ أدناها.
ومن نكد الدنيا أيضًا أن يظهر بين المفكرين في كل العصور قوم يعتدون بالعقل وقواه ويزعمون أن في طاقته إدراك كل شيء محسوسًا كان أم معقولًا، ماديًّا كان أم روحيًّا، ذاتيًّا كان أم موضوعيًّا، مع أن العقل ومنطق العقل لا مجال لهما إلا في دائرة محدودة من الوجود هي دائرة العالم الخارجي وما يتصل به، وهو العالم الذي نشآ فيه، واستمدا منه مقولاتهما، أما ما وراء هذا العالم فلا طاقة للعقل بإدراكه ولا مكان لمقولات العقل فيه. إن العقل ميزان صحيح في دائرته المحدودة، كما يقول ابن خلدون ولكن لا غناء فيه في تقدير مسائل الألوهية والأحوال الوجدانية وأمور الآخرة ونحو ذلك، وإلا كان كالميزان الذي يوزن به الذهب فطمع صاحبه أن يزن به الجبال، ولو أن المنكرين على الصوفية استقصوا التجارب النفسية التي تنكشف فيها «المعرفة» لوجدوا أن منها ما لا يمكن وصفه بأنه حسي ولا عقلي، وهي التي نصفها بأنها تجارب ذوق أو وجدان أو شهود، كالتجارب الصوفية التي ينكشف فيها نوع خاص من المعرفة له مميزاته وخصائصه كما أن له موضوعاته.
ولا يقدح حصول هذه التجارب لطوائف خاصة من البشر كالصوفية والفنانين في أنها ظواهر حقيقية، كما لا يقدح كونها فردية وشخصية في أنها تتحصِّل لصاجبها نوعًا من المعرفة، وإن كانت تختلف اختلافًا جوهريًّا عن المعرفة العلمية، وإلا فمن ينكر على الصوفي أو الفنان أنه «يدرك» و«يعرف» و«يتذوق» و«يشعر» وهو يعالج تجربة صوفية أو فنية؟ لا ينكر ذلك إلا مكابر أو جاهل، ويكفي أن يوجد عنصر الإدراك لتكون هناك معرفة.
أما العقل البحت غير المؤيد بالذوق والشهود فغاية ما يصل إليه في مسألة الألوهية هو أن يقرر وجود موجود مطلق منزه عن صفات المحدثات، هو مبدأ المبادئ وعلة الوجود، ولكن هذا إله لا يدبِّر الكون ويحفظه ويتصل به الإنسان ويحبه ويناجيه؛ لأنه إله موغل في التجرد والسلبية وليست له تلك الصفات الإيجابية التي تصل بينه وبين الخلق. هو مبدأ ميتافيزيقي وليس إلهًا على الحقيقة، وقد يخلع على الله صفة إيجابية كصفة «الخير» على نحو ما فعل ابن سينا في فلسفته، ولكن ليس لهذه الصفة من دلالة في نهاية التحليل إلا أنها «منح الوجود»، وبذا لم تزد على أن وصفت الله بأنه العلة الأولى أو المبدأ الأول في وجود العالم، أو علة فيضان الوجود عن المبدأ الأول كما يقول ابن سينا.
وقد أغنانا الغزالي عن إفاضة القول في هذا الموضوع بما ذكره في كتاب «المنقذ من الضلال» من أنه لما فتش في أقوال الفلاسفة والمتكلمين عن العلم اليقيني الذي تطمئن إليه النفس، رجع بالخيبة والفشل، ولم يزد بعد قراءته كتبهم إلا بلبلةً في الفكر واضطرابًا في النفس، ولا أظن أننا اليوم أسعد حظًّا منه بعد الذي قرأناه من كتب الفلاسفة والمتكلمين في مسألة الألوهية وما شاكلها، ولما انتهى بالغزالي المطاف إلى الصوفية وجد عندهم ضالته، ففي إشراق الصوفي وحده، وفي حالة وجده واتصاله، يحظى بمحبوبه ويعرفه، وكل ما يستطيع أن يقوله عن هذه المعرفة هو ما قاله أفلوطين الإسكندري وقد سئل عما رآه في حال وجده فقال: «المشهد هناك لمن يستطيع أن يراه.»
(١) أداة المعرفة الذوقية
يعتقد الصوفية أن مركز المعرفة الصوفية وأداتها هو «القلب» لا العقل، وأنه أيضًا مركز المحبة الإلهية والتجلي الإلهي، وإن كانوا أحيانًا يفصِّلون فيختصون المعرفة بالقلب والمحبة بالروح والتجلي بالسر، ولكن الحقيقة أن المعرفة والمحبة والتجلي في نهاية التحليل مظاهر ثلاثة لشيء واحد أو قوة واحدة هي التي نطلق عليها اسم «القلب» بمعنى عام.
وليس المراد بالقلب تلك المضغة الصنوبرية الجاثمة في الصدر، بل هو لطيفة ربانية غير مادية يدرك بها الإنسان الحقيقة الوجودية، وفيها يتجلى الحق لعبده، وبها يحب العبد ربه. بعبارة أخرى هو مركز الإدراك الذوقي في الإنسان.
وقد تبدو وظيفة القلب على نحو ما يصوره الشعر الصوفي أدنى إلى الجانب العاطفي منها إلى جانب الإدراك، ولكنا ذكرنا أن القلب في نظر الصوفية عامة مركز الحب والإدراك جميعًا، بل ذكرنا أن المعرفة الذوقية بالله والحب الإلهي وجهان لحقيقة واحدة.
ولكن القلب لا يصبح محلًّا للإدراك الذوقي والمعرفة اليقينية، ولا مركزًا للمحبة الإلهية، إلا إذ صفت صفحته وانجلت غشاوته، وارتفعت عنه حجب الشهوة والهوى، وتخلص من تأثير العقل، ولذا نرى قلوب السالكين إلى الله مسرحًا لنضال عنيف بين جند الرحمن وجند الشيطان على حد قول الغزالي، يطلب كل الظفر بالقلب لنفسه. فإذا كانت الغلبة لجند الشيطان، انحط الإنسان إلى مرتبة البهائم، وإذا كانت لجند الرحمن، ارتفع إلى مرتبة الملائكة، وللقلب بابان تدخل من أحدهما المعرفة ومن الآخر الوهم، وتدخل المحبة الإلهية من الأول ويدخل الاشتغال بما سوى الله من الثاني. هذا عالم وذلك عالم آخر، والصوفي الصادق هو الذي يتخذ مكانه في البرزخ بين العالمين، كما يقول جلال الدين الرومي.
وكما فرق الصوفية بين القلب والعقل من حيث هما أداتان للإدراك، ميزوا كذلك بين نوعي الإدراك الحاصلين منهما، واختصوا كلًّا منهما باسم، فسموا إدراك العقل «علمًا» وإدراك القلب «معرفةً» وذوقًا، وسموا صاحب النوع الأول «عالمًا» وصاحب النوع الثاني «عارفًا»، والفرق الجوهري بين المعرفة والعلم أن المعرفة إدراك مباشر للشيء المعروف، والعلم إدراك حقيقة من الحقائق عن الموضوع المعلوم، والمعرفة «حال» من أحوال النفس يتحد فيها الذات المدركة والموضوع المدرَك، والعلم حال من أحوال العقل يدرك فيها العقل نسبة بين مدركين سلبًا أو إيجابًا، أو يدرك مجموعة متصلة من هذه النسب، والمعرفة «تجربة» تعانيها النفس، والعلم حكم ينطق به العقل.
وضع الصوفية هذه التفرقة بين المعرفة والعلم منذ تكلموا عن المعرفة، وعن معرفة الله بوجه خاص، وكان للتمييز بينهما أثر عميق في موقفهم من الله ومحبته والاتصال به وغير ذلك مما لا مجال للعقل فيه كما قلنا. بل إنه جاء دور من أدوار التصوف كانت «المعرفة» فيه هدفًا من أهداف الطريق الصوفي، أو الهدف الأكبر فيه، واعتبر كل ما عداها وسيلة لها، وإذا قيل إن الحياة الصوفية تهدف إلى الاتصال بالله، فليس لهذا الاتصال من معنى عند جمهور الصوفية سوى معرفة الله عن طريق حبه، أو حب الله عن طريق معرفته، والله عند الصوفية حقيقة تعرف، بل هو الحقيقة على الإطلاق، وكل ما يُدْرَك من الحق يشير إليه.
وللغزالي وأمثاله لغة أخرى يعبرون بها عن المعرفة الصوفية الذوقية، فالمعارف الذوقية في نظر الغزالي من العلوم الإلهامية، التي تنكشف في القلب انكشافًا أو تلقى فيه إلقاءً بدون تعمُّل أو جهد أو اختيار، ولا فرق بينها وبين الوحي إلا أن صاحبها لا يدري كيف ألقيت في قلبه ولا من ألقاها، أما الموحى إليه فيدري الواسطة الملقية إليه وهي الملك، وقد اختص بالنوع الأول الأولياء والأصفياء وبالنوع الثاني الأنبياء، ولكن النوعين من معدن واحد هو العلم اللدني الذي لا دخل لكسب الإنسان فيه. أما ما عدا ذلك فهو العلوم التعليمية التي هي من عمل العقل وكسبه.
ويجمع الصوفية على أن قصة موسى مع الخضر قصة أريد بها توضيح الفرق بين نوعين من العلم: العلم الظاهر الذي يمثله موسى، والعلم الباطن (أو المعرفة) الذي يمثله الخضر.